مع انتهاء أطول عطلة مدرسية عرفها طلاب العالم، وتأهب حكومات الدول لتنفيذ خطط ما بعد الجائحة، والتي من أبرزها إعادة فتح أبواب المدارس، ومع استعداد التلاميذ للخروج من بيوتهم أخيرًا لإنهاء حقبة التعليم عن بعد، ليشاركوا في أضخم مهرجانات العودة إلى المدارس على الإطلاق، نتساءل مرة أخرى عبر توجيه السؤال إلى الطلبة، دون أن ينوب أحد عنهم في الإجابة: هل المدرسة مكان سعيد؟
لم نسأل قادة المجتمع، ولا أطقم التدريس، ولا أولياء الأمور، بل استطلعنا حقيقة المشاعر المكتومة للتلاميذ حيال المدرسة، وطبيعة تصورهم الحالي إزاء التعليم، وشكل السعادة التي يتحدثون عنها برجوع الطلاب إلى كراسي الفصل الدراسي.
مسوحات كاشفة
«لو سألت طالبًا في المرحلة الثانوية عن ماهية شعوره حول مدرسته، فعلى الأرجح سيجيبك بإحدى ثلاث كلمات: التعب، التوتر، الملل».
كانت هذه أول فقرة من تقرير نشرته جامعة ييل الأمريكية مطلع السنة الماضية، وذلك عن دراسة شملت أكثر من 20 ألف طالب في الولايات المتحدة الخمسين، ووجدت أن ثلاثة أرباع الطلاب غير سعداء في مدارسهم، إذ عبر ما يقارب 75% منهم عن مشاعر سلبية متعلقة بالمدرسة.
بعد أن أصبحت كلمة «ملل» تتردد على أفواه الطلاب بشكل مستمر في وصف الأجواء المدرسية، صار الباحثون يتناولون موضوع الملل كمسألة حاسمة.
يعلق مؤلفو الدراسة بأنه كان من المتوقع أن يُضمر الطلاب بعض التحفظات حول مدرستهم٬ ولكن لم يكن متوقعًا أن تكون موغلة في السلبية إلى هذا الحد، محذرين من أن تصبح المدرسة مكانًا ملازمًا لهذه الانطباعات السلبية، فمن شأن ذلك أن يتسبب في حدوث عدة مخاطر أخرى كالاكتئاب وزيادة الوزن وتعاطي المخدرات.
استطلاع آخر نشرته مجلة كلية هارفارد للتعليم وكانت نتائجه مماثلة أيضًا، إذ احتلت كلمة «ملل» المركز الأول ضمن الأوصاف التي يطلقها الطلاب على المدرسة، وحلت كلمة «تعب» في المركز الثاني.
بعد أن أصبحت كلمة «ملل» تتردد على أفواه الطلاب بشكل مستمر ومستقر في وصف الأجواء المدرسية، صار الباحثون يتناولون موضوع الملل كمسألة مركزية وحاسمة، باعتباره عنصرًا أساسيًا يدفع الطلاب إلى التقهقر بين حالات القلق واليأس والاكتئاب، مما يحرضهم على التسرب والتهرب من السلك المدرسي، والشروع في نشاطات غير قانونية كتعاطي المخدرات وشرب المسكرات والمقامرة والتدخين، كما يشير باحثو الاستطلاع.
الأمر برمته ليس بطارئ ولا جديد، ففي المقال الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز بعنوان «هل تحب المدرسة؟»، وجد الباحثون الذين استغرق مسحهم الميداني عدة سنوات أن «الملل» صفة ملازمة لأجواء الفصول في المدراس الأمريكية، فمنذ عام 1890 حتى الآن والفصول الدراسية غير قادرة على إشعال جذوة التحدي والحماسة لدى الطلاب.
لماذا لا يحب الأطفال المدرسة؟
في أعقاب صدور كتاب «لماذا لا يحب الأطفال المدرسة؟»، علل البروفيسور بيتر غراي أستاذ الأبحاث في كلية بوسطن، في مقال له، أسباب عدم محبة الطلاب لمدرستهم، وفي المقدمة جاءت «الحرية».
لو كانت هناك ديمقراطية حقيقية على صعيد الخيارات التعليمية، لاختار غالبية الطلاب التخلي عن المدرسة.
يشير غراي إلى أن الطلاب، بكل بساطة، يشعرون بأنهم ليسوا أحرارًا، وهاهم يعبرون بصوت عال عن منظورهم عن أن المدرسة تشبه السجن، بعد أن أصبحت مكانًا لتلقي الأوامر وتنفيذها، دون امتلاك أي قرار في مناقشتها أو مخالفتها، وإلا كانت العقوبة في الانتظار.
وفي ملاحظة دقيقة، يفرق غراي بين المدرسة والسجن بأن دخول السجن يتطلب ارتكاب جريمة، أما دخول المدرسة فلا يتطلب سوى وصولك إلى سن معين، مما يجعل المدرسة أسوأ من السجن في نظر الطلاب.
وعن وصف المدرسة بالسجن وحرمان الطلاب من حريتهم، كتب أحد المعلمين مقالًا في موقع Medium لم يكشف فيه عن هويته، بل اكتفى بتسمية نفسه «معلم يائس». كتب هذا المعلم مشفقًا على الطلاب قائلًا:
«لا يستطيع الطلاب الذهاب إلى دورة المياه دون الحصول على موافقة، ولا يمكنهم اختيار ما يلبسونه، ولا يمكنهم الأكل، أو الدراسة في وقت يناسبهم، ولا يمكنهم اختيار أين يذهبون، ومتى يتحركون، ومع من يكونون، وماذا يصنعون، وكيف يمشون ويتحدثون، وبماذا يهتمون، إنهم يفتقدون الحرية بشكل كامل».
وفي فقرة أخرى، يتحدث المعلم اليائس عن مدى صعوبة العلاقة بين المدرسة والسعادة، ويستطرد معترفًا بأنه لو كانت هناك ديمقراطية حقيقية على صعيد الخيارات التعليمية، لاختار غالبية الطلاب التخلي عن المدرسة.
شمس المعارف
في عالمنا العربي، وإن تأخرت الإحصاءات المدققة في الواقع التعليمي، فلن تتوقف السينما والفنون عن حل محلها في فضح الحالة المدرسية الراهنة، ابتداء بملل الطابور والفصول، مرورًا باضطراب علاقة الطالب بمعلمه، وانتهاء بإجهاد المذاكرة وقلق الدرجات، مختزلةً كلها في فيلم سعودي صدر مؤخرًا، يستعرض عامة المآزق اليومية التي تنتاب التجربة المدرسية، بطلابها ومعلميها وقياديها معًا.
عن طلاب يجدون أن مدار حياتهم وسائر شؤونهم لا تخرج أبدًا عن إطار المدرسة ومتطلباتها، فلا يجدون مفرًا من تحقيق شغفهم في صناعة الأفلام إلا عبر اتخاذ المدرسة كمسرح لأحداث فيلمهم المأمول إنتاجه، لتتدحرج الأمور سريعًا وتتطور، ويزداد تشبث الطلاب بذات المدرسة التي كانوا ينفرون منها، لا حبًا في التعلم والمعرفة، بل رغبة في تصوير فيلم يحمل اسم الكتاب الأشهر في مسائل السحر واستحضار الجن: «شمس المعارف»، فهنا يبدو الكتاب خطيرًا مخيفًا، وتغدو المدرسة مسرحًا للرعب.
وبعد حوارات وحبكة تتكثف فيها الوساوس والهواجس النفسية التي تتشكل عند الطالب خوفًا من معلميه ووالديه ومجتمعه ومستقبله، تتدرج أغنية خافتة بصوت الفنان الشاب هاني كعدور لتوجز الرسالة الكامنة
أشهر إنسان لا يحب المدرسة
“I hated going to school when I was a kid, it was a torture.” - Elon Musk.
إيلون ماسك، ذاك الطالب الذي حصل على شهادتين في الاقتصاد والفيزياء من جامعة بنسلفانيا، وشرع في دراسة دكتوراه في فيزياء الطاقة بجامعة ستانفورد، وانخرط وهو ما زال طالبًا في مغامرة إنشاء شركاته المتخصصة في البرمجة والكمبيوتر، لم يقف عند هذا الحد، بل أسس أول شركة خاصة تحترف صناعات تكنولوجيا الفضاء بهدف نقل الإنسان إلى الكواكب الأخرى، ثم توجه نحو صناعة محركات صديقة للبيئة، فأسس أكبر شركة للسيارات الكهربائية باسم تسلا، ثم صار مهتمًا بحقول الذكاء الاصطناعي من خلال تأسيس شركة تطمح إلى زراعة رقائق رقمية في الجسم البشري، وغيرها من الاهتمامات والمشروعات التي جعلت منه أغنى رجل في العالم.
عبر مدرسته التي أطلق عليها «Ad Astra»، أو «نحو النجوم» باللاتينية، يحاول ماسك هذه المرة أن يعيد اكتشاف مفاهيم العلم والتعلم من جديد، وذلك بتأسيس مدرسة غير ربحية ذات نظام دراسي مختلف، يعتقد أنه سيحقق له الغاية التي افتقدها في صغره: أن يحب الأطفال الذهاب إلى مدرستهم كل يوم.
وإليكم ملامح من المنطلقات التعليمية التي تتبناها مدرسة إيلون ماسك:
- تتبع المدرسة أسلوب المدارس المصغرة (Microschool)، أي أنها تعتني بتربية وتنمية عدد قليل من الطلاب في حيز مكاني ملائم، لا يُشترط أن يكون كبيرًا بحجم المدارس التقليدية.
- لا يوجد منهج دراسي ثابت، فالموضوعات المدروسة تتغير كل عام، والطلاب يسهمون في تشكيل المنهج الذي يرغبون في دراسته، باقتراح موضوعات يتطلعون لتعلمها بشكل أفضل.
- بإمكان كل طالب أن ينسحب من الحصة الدراسية التي لا يشعر أنه يستمتع بها، فالمدرسة لا تعتمد على الأساليب التقليدية في تقييم الطلاب، ولا تنتهج سياسة توزيع الدرجات.
- لا توجد ضرورة لتقسيم الطلاب بحسب سنهم ومراحلهم الدراسية، فالتفاوت الحقيقي بين الطلاب يكمن في اهتماماتهم ومواهبهم الشخصية التي تميز كل طالب عن الآخر، فلا يمكن مطالبة جميع الطلاب بتنفيذ ذات المهام خلال ذات المدة، فهناك طالب يتفوق في اللغات، وهناك من يحب الأرقام، وآخر بارع في الموسيقى، وهكذا. ذلك أن التعليم فردي للغاية، وبهذا تتوافق عملية التعلم مع ميول كل طالب بحسب قدراته الخاصة.
- لا يعتمد المنهج المدرسي على عزل المعارف كمواد تدريسية منفصلة، فليس هناك جدولة يومية رتيبة مثل ما درجت عليه مدارسنا: علوم، رياضيات، إنجليزي، اجتماعيات. لا، ليس كذلك، إنما تتقسم الموضوعات الدراسية بأسلوب طرح المشكلات والبحث عن حلول، ومن خلال عمل الطلاب على معالجة تلك المشكلة، ينمو إدراكهم بالأدوات المعرفية اللازمة بشكل سلس وتلقائي، وصولًا إلى هدفهم المنشود: إيجاد الحلول، وهكذا تشتعل حماسة الطلاب في النقاش والنقد والتنقيب والتجريب.
- يمكن لأي طالب من أي مكان في العالم أن يتقدم بطلب للالتحاق بمدرسة ماسك، بغض النظر عن مستواه التعليمي، أو خلفيته الدينية والعرقية والثقافية. أما بالنسبة لمن لم يحالفه الحظ في الالتحاق لأي ظرف، فإن المنهج الدراسي سيكون متاحًا مجانًا على الإنترنت لمن يرغب أن يطالعه من التلاميذ أو أولياء الأمور.
يظهر أن إيلون ماسك قد نال أخيرًا ما كان يسعى إليه في مدرسة «نحو النجوم»، فبعد أن رأى افتتان طلابه باللعب مع الروبوتات، وصناعة قاذفات اللهب، واستكشاف الفضاء، والتحدث مع أصدقائهم بلغات البرمجة، وإنشاء مواقعهم الإلكترونية الخاصة للبيع والشراء، أعلن في المقابلة التي أجراها مع التلفزيون الصيني أن الأطفال الآن سعداء بذهابهم إلى المدرسة.