مشهد: ساحة لعب في يوم خريفي هادئ. رجل في الثلاثينيات من عمره يدفع طفلًا صغيرًا على الأرجوحة، وفي عينيه نظرة تعيسة، بينما يتصارع طفلان على لعبة أخرى، وتقف أمهما تراقب في قلق.
لا يوجد أي شيء مميز في هذا المشهد. يمكن أن يكون أي يوم من أيام الأسبوع، في أي مدينة. ولا يوجد شيء غريب في أن الأم والأب اللذين بدا عليهما الحزن يرغبان بداخلهما في أن يكونا في أي مكان آخر عدا ساحة اللعب هذه، أو أن بعض الآباء أحيانًا يحسدون أصدقاءهم الذين ليس لديهم أطفال، أو يتساءلون خلال أوقات ما: لِمَ قرروا أن ينجبوا أطفالًا؟
قليل جدًّا من آباء هذا العصر يعترفون بوجود هذه التناقضات، وما زالت فكرة ازدواج مشاعر الآباء تجاه أبنائهم بمثابة «تابو» (مقدس) لا يجب المساس به.
مع ذلك، فإن حقيقة ازدواج مشاعر الآباء موجودة منذ زمن طويل. ربما أقدم مما نتخيل. تحمل القصص الخيالية عددًا كبيرًا من الأمثلة على ذلك.
في كثير من قصص «الأخوين غريم»، يُجبَر الأبناء على ترك المنزل أو المجتمع، يُطرَدون منه دون رجعة. وفي قصة مثل «هانسيل وغريتيل: صائدي السحرة»، يجري التخلي عن الأبناء في مكان ناءٍ لا يستطيعون العودة منه.
عادةً ما يكون مصير الأطفال الأكبر سنًّا أشد قسوة، فالملكة الغيور في «سنو وايت» تأمر بقتل ابنة زوجها. استخدام الكتاب زوجة الأب الشريرة أمر جدير بالملاحظة. فكما لاحظ كثير من النقاد، يبدو أنه من الآمن أن تقع القسوة في قلب زوجة الأب بدلًا من الأم نفسها، حتى تلقى عقابها الذي يكون مميتًا في النهاية.
أن نشعر بالشيء ونقيضه
في استخدامها الحديثة، تعني «ازدواجية المشاعر» وجود مشاعر متناقضة مختلطة حول إنسان ما أو شيء ما. ولكن تطور هذا المصطلح، من خلال التحليل النفسي، يشير إلى أننا نستطيع أن نشعر بحب وكراهية تجاه نفس الإنسان.
إنها فكرة صعبة وبغيضة، إذ يكون الأمر كما لو أن حربًا أهلية عنيفة تدور داخلنا. وهو ما يعترف به بعض الآباء الصادقين.
في رواية «يجب أن نتكلم عن كيفن»، تعبِّر «ليونيل شرايفر» عن فكرة قريبة من هذا. تعترف «إيفا»، بطلة الرواية، والأم، بمشاعر متناقضة حول ابنها «كيفن»، لكن المشكلة لا تكمن في حقيقة شعورها هذا، وإنما في تجاهلها وإنكارها ما تشعر به متظاهرةً بأنها لا تحمل لابنها إلا كل الحب.
يتساءل «إدوارد ماريوت»، الكاتب والمحلل النفسي، في مقاله على موقع «Aeon»: لِم واجهت إيفا صعوبة في الاعتراف بمشاعرها المتناقضة تجاه كيفن، حتى لنفسها؟
يرى ماريوت أن جزءًا من السبب يكمن في أننا نواجه الضغوط المجتمعية التي تتعلق بفكرة الأبوة والأمومة. هناك دائمًا توقعات بعينها حيال هذه الحالة.
بمجرد معرفة الأقارب والأصدقاء بأمر الحمل، تنهال التهاني والمباركات على الآباء، الذين قد يكونون سعداء بالطبع، لكنهم يحملون كثيرًا من القلق، وهو الشعور الذي لا توجد مساحة للتعبير عنه.
يقع الضغط الأكبر على الأم، التي يُتوقع دومًا أن تكون علاقتها بأطفالها مثالية، وأن لا تمل أبدًا من اللعب معه بمكعبات «الليغو» مثلًا.
ترى «روزسيكا باركر»، مؤلفة كتاب «Torn in two: The Experience of Maternal Ambivalence»، أننا دائمًا نُذكِّر المرأة التي تنتظر طفلًا بما ينتظرهما من بهجة وحب وتفاهم وشعور بالاتحاد معًا. لكن ماذا لو لم تجد الأم هذه المشاعر المتوقعة؟
تتضمن تجربة الأمومة أحيانًا شعورًا بخيبة الأمل.
علينا أن نتخيل أيضًا صعوبة الاعتراف بأن بعض الآباء تكون لديهم مشاعر متناقضة تجاه أطفالهم، إذا كانوا قضوا سنينًا طويلة يحاولون إنجاب طفل عن طريق عمليات التلقيح الصناعي مثلًا، أو إذا ما تأخر الإنجاب لفترة طويلة.
تخيل أن تخوض كل ذلك، وأحيانًا أكثر، ليكون لديك طفل تجرب معه ما تراه أمامك من سعادة وبهجة، ثم تجد أنك تشعر أحيانًا بكراهية هذا الطفل.
وفقًا لدراسة أجرتها منظمة «مايند»، تعاني بين 10% و15% من الأمهات الجدد من «اكتئاب ما بعد الولادة». لا تستطيع أمهات كثيرات التعبير عن مشاعرهن المتناقضة تجاه أطفالهن عبر الكلمات، خوفًا من أن يُتَّهمن بأنهن لسن أمهات جيدات.
هذه المشاعر السلبية لا تجد مخرجًا إلا أن تتحول إلى سلوكيات عنيفة وعدائية تجاه الأطفال في بعض الأحيان، فقد لا ترغب الأم في إرضاع طفلها أو حمله، وربما تنعكس هذه المشاعر إلى الداخل في صورة اكتئاب.
بين الآباء والأمهات: تناقض في المشاعر، عنف غير مبرر
يوضح طبيب الأطفال والمحلل النفسي «دونالد وينيكوت» أن وجود هذه المشاعر المتناقضة يرجع إلى جزء بيولوجي، وهو أن الطفل منذ لحظاته الأولى في رحم أمه يشكل خطرًا على جسدها خلال الحمل وعند الولادة، ويقتحم حياتها الخاصة، وأحيانًا يسلبها منها، ويعاملها بطريقة سيئة كما لو كانت خادمًا غير مأجور أو إنسانًا مستعبَدًا.
كثيرًا ما يُخيب الطفل آمال أمه، فيرفض ما تحضره له من طعام، بينما يأكل مع عمته مثلًا. وأحيانًا، بعد صباحٍ استنزف فيه طاقتها، يبتسم لغريب ابتسامة تجعله يقول بكل حب: «يا له من طفل وديع».
تعي الأم أنه طفل ولا يقصد أن يتسبب لها بأذى، لكن هذا لا يمنعها من أن تشعر بأذى حقيقي وإرهاق نفسي وبدني، دون سبب غير أنها أنجبت طفلًا لا يفهم نفسه، ويتعين عليها فهمه.
وصول طرف ثالث إلى علاقة الزوجين، مهما يكن مخططًا له ومرغوبًا فيه، يكون تأثيره ضخمًا ومروعًا. في فيلم «When Harry Met Sally»، تقول «نورا إيفرون» إن ولادة الطفل مثل «إلقاء قنبلة يدوية على الزواج».
مع ذلك، ما زال عدد من الأزواج الذين يجدون علاقتهم تسوء مع الوقت، يرون أن الحل الأمثل هو إنجاب طفل. أو لو كان لديهم طفل بالفعل، تجدهم يحضرون الثاني إلى الحياة، معتقدين أنه سيجعلهم أكثر قربًا ويعيد إليهم ما فقدوه عبر الزمن.
الأطفال يضعوننا في مواجهة أجزاء منا نرغب في إنكار وجودها، ويمكن أن نكرههم من أجل ذلك.
تتغير التوقعات الاجتماعية، وإن كان هذا التغير بطيئًا. لكن هذا ليس محسومًا حتى الآن، فعندما تحاول أمهات القرن الحادي والعشرين أن تعترفن بشعورهن بالتناقض المزاجي، يتعرضن لهجوم كبير واتهامات بأنهن غير مسؤولات، ولا يجب أن يكنَّ مسؤولات عن أطفال.
هكذا، نستمر في الحفاظ على نُبل الأمومة المُتخيَّل، فخورين باستمرار جيناتنا، غافلين عما يتطلبه ذلك. إنها مهمة تتطلب استثمارًا وصبرًا لا نهاية لهما.
يورد ماريوت رأيًا آخر لـ«إستيلا ويلدون»، وهي استشارية نفسية ومؤلفة، تقول إن الرغبة في الإنجاب قد تحمل معها شعورًا بالتضحية الضخمة، ما قد يؤدي بعد ذلك إلى عداء تجاه الأطفال: «الناس في هذه الأيام يعتبرون الإنجاب استثمارًا، لأنهم يتخلون في المقابل عن أجزاء من حياتهم الشخصية والمهنية. أحيانًا يضحي الآباء بكثير من أجل أطفالهم، ما يجعلني أتساءل عما إذا كان الوالدان من يحتاجون الأطفال وليس العكس. لكن الاستثمار يعني عادةً توقُّعَ شيء ما في المقابل». وربما إذا لم يكن هناك أي عائد، يبدأ العداء في الظهور، خيبة الأمل هنا تكون المحرك الأساسي.
يمكن للعداء أن يظهر أيضًا عندما نضطر لمواجهة الأشياء التي لا نريد أن نواجهها. ولا ينجح أي دور في الحياة في فعل ذلك أكثر من دور الأبوة والأمومة.
الأطفال هم من يجردوننا من أفكارنا الجيدة عننا، ويضعوننا في مواجهة أمام أنفسنا، أمام أجزاء منا نرغب في إنكار وجودها، ويمكن أن نكرههم من أجل ذلك.
مع الآباء الآخرين، قد يكون الأمر مختلفًا ويميل إلى الجهة الأخرى، حيث الشعور بالألم وجلد الذات بسبب إحساسهم بهذا التناقض المزاجي تجاه أبنائهم، وبالتالي يكرهون أنفسهم، ثم ينقلب هذا كله ضد أطفالهم، لأنهم هم من يسببون هذه المشاعر.
المشكلة ليست الشعور بالتناقض الشعوري، وإنما في محاولاتنا إنكاره. عندما نتوقف عن الإنكار، يمكن أن نعرف ما هو الغضب العادي الذي يمكن أن نشعر به، وما هو الغضب العدائي.
بسبب القلق وعدم التأكد، ندفن كل المشاعر السلبية بداخلنا، وأحيانًا بداخل الأطفال أيضًا. وهو ما تزداد حدته بزيادة محاولات قمعه، ويتحول لثورة بركانية: جسدية أو لفظية.
العلاج بالانفعال
ما الذي يمكن أن نفهمه من خلال التحليل النفسي؟ وكيف يمكنه أن يساعد؟
يرى ماريوت أننا بمجرد عثورنا على كلمات مناسبة للتعبير عن الغضب، فإن الأمر يصبح أسهل قليلًا. بمعنى أننا إذا عبرنا عن مدى غضبنا ووصفناه، فإننا غالبًا ما سنكون أقل عرضة لضرب الأطفال أو إلحاق أي نوع من الأذى بهم، ما يمكننا من أن نرسم الحدود اللائقة، وأن نقول «لا» لأطفالنا أحيانًا، وأن ندافع عن اهتماماتنا الخاصة بطريقة لا تكون أنانية أو عدوانية.
لا يستطيع كثير من الآباء والأمهات فهم تناقض مشاعرهم، خصوصًا في مراحل الطفل الأولى، ربما فقط يحتاجون إلى أن يصوغوا ما يشعرون به بطريقة أوضح: أحب أبنائي، لكني أكره المسؤولية.
ليس سهلًا أن ندرك مشاعرنا المدمِّرة العنيفة، وبخاصة عندما تتوجه إلى أطفال لا حول لهم ولا قوة. هذا الشعور يمكنه ببساطة أن يتحول إلى اكتئاب يغذيه إحساس بالذنب. لكن لو واجهنا الإحساس بالذنب وتأملناه أكثر، يمكنه أن يحفزنا للمحاولة بشكل أفضل، وأن نصلح ما أفسدناه. الطريق المثلى للتغلب على هذه المشاعر بمواجهتها، ومواجهة أنفسنا.
ربما يجب علينا قبل أن ننجب أطفالًا أن نفكر في أنفسنا، ونتساءل عما إذا كنا قادرين على خوض هذه التجربة بكل ما تقتضيه وتتطلبه: الصبر، الطيبة، التسامح. لأنه بعد سنوات من تجربة الأبوة أو الأمومة، ربما تسقط كل هذه الصفات ولا نجد سوى الغضب، والغيرة، والنزق، وغيرها.