يعيش البشر وسط أزمة قلق. تشير التقديرات مثلًا إلى أن نحو 20% من الأمريكيين يعانون اضطرابات القلق، وأكثر من هذه النسبة قد واجهوا نوبات القلق مرات عديدة. واليوم يقوم اقتصاد كامل على مساعدة هؤلاء الأشخاص ليستعيدوا هدوءهم؛ فمنذ ثمانين عامًا حتى اليوم، يزداد قلق الأمريكيين يومًا بعد يوم، ويساورهم القلق بشأن العمل، والبطالة، وإرسال الرسائل، أو عدم إرسالها، والحياة، والموت، وكل شيء تقريبًا.
ويرى دين بورنت، وهو عالم أعصاب ومؤلف كتاب «العقول الغبية» (Idiot Brain: What Your Head Is Really ،Up To) أن عقولنا يقودها دائمًا الخوف بدرجةٍ ما. ويمثل الكتاب رحلة عبر الدماغ البشري؛ فعلى الجهة اليسرى يكمن السبب وراء شعورنا بالغثيان أثناء حركة القارب. وفي منطقة أخرى من دماغك تجد السبب في أنك ستتذكر معلومات كافية عن شخصٍ ما، لكنك لن تتذكر اسمه.
فيما يلي، نستعرض حوارًا أجراه موقع «VICE» مع بورنت عن كيفية تطور أدمغتنا للإحساس بالخوف من كل شيء، وكيف تفاقم الأمر في عصرنا الحديث لينشر وباء القلق.
لماذا تكون أدمغتنا ميالة للشعور بالخوف؟
للإجابة عن هذا السؤال، يقول بورنت إن الدماغ البشري قد تطور عبر ملايين السنين، فاستراتيجية البقاء لدى الإنسان القديم جعلته أكثر حساسية لما يدور حوله من أخطار، فيُنصت لفرع شجرة ينكسر في الغابات أو يراقب ظلًا لمخلوق أو حيوان مفترس أو خطرٍ ما. وينشط الوعي أو نظام اللاوعي الذي يحلل دائمًا: «ما هذا؟ هل هو خطر؟».
بحسب بورنت، جرى تطور الدماغ للحفاظ على مستوى الخشية والترقب؛ فلدينا نظام اكتشاف الأخطار الذي يتلقى المعلومات الحسِّية، ويضع علامات على أي شيء غير عادي أو غير مألوف أو يُحتمل أن يكون خطرًا، استنادًا إلى ذكريات وغريزة حيوية. وهذا ما أبقى البشر أحياء طوال ملايين السنين. ومن المبالغة القول إننا أصبحنا متطورين للدرجة التي روَّضنا بها بيئتنا.
أنا لا أحب الحديث عبر الهاتف؛ فالاتصال بالآخرين يجعلني أشعر وكأني أزعجهم، وهذا يجعلني أتوقف عن مكالمتهم.
منطقيًا، لا توجد أسباب وجيهة للخوف من الحشرات، لكن بعض الناس تخشاها، ويشعر الكثيرون بالخوف من أمور قد يجدها الآخرون سخيفة. يشرح بورنت الأمر إذ يقول: «أنا لا أحب الحديث عبر الهاتف؛ فالاتصال بالآخرين يجعلني أشعر وكأني أزعجهم، وهذا يجعلني أتوقف عن مكالمتهم. القلق الاجتماعي هو رُهاب شائع، ويتجلى في العديد من المظاهر، وهو لا يبدو كآلية متطورة، لكنه كذلك؛ فالبشر مخلوقات قبلية اجتماعية، تعلموا العيش ضمن مجتمعات نسيجية متماسكة، وهي تمثل قوتهم التطورية. وعندما يعمل البشر بشكل جماعي، يمكنهم التفوق على كل الحيوانات. يمكن للبشر العيش معًا في مدن مكتظة بالملايين، كما هي الحال في القاهرة أو دلهي. حتى الحشرات لا يمكنها العيش بهذه الدرجة من الكثافة دون أن يقتل بعضها بعضًا».
اﻻزدواجية في عقولنا
عن تفسيره لقلق البشر بشأن ما يظنه اﻵخرين بشأنهم، يقول بورنت: إن كنت في البرية ونبذتك الجماعة فستموت بسرعة، لذا فإننا حذرون جدًا من حكم الآخرين علينا، وتتخوف أدمغتنا من فكرة الشعور بالحرج أو الرفض، فعلى سبيل المثال، رفض أعضاء مجموعة الدراجات النارية «هيلز أنجلز» (Hells Angels) قوانين المجتمع، لكن ليبقى لديهم الشعور بأنهم جزء من مجموعة ما، فإنهم يرتدون الزي نفسه، إذًا أدمغتنا بحاجة إلى تقييم زملائها، وأي شيء يعرِّض ذلك للخطر فلن يكون مستحبًا».
السؤال هنا: كيف يوفِّق الدماغ بين أمر نعلم في وعينا أنه يجب عدم الخوف منه، وبين خوفنا منه فعلًا؟ يجيب عالم الأعصاب: هذا الأمر يتعلق بالرهاب الفعلي، وهو في الواقع رهاب غير عقلاني. قد تخاف من المهرجين رغم أنك تعلم أن المهرج لن يتسلل إليك ويقتلك في الشارع، فهذا أمر لا يفعله المهرجون عادة، لذا إن قابلت مهرجًا ولم تصب بأذى، فيجب على دماغك أن يتعلم أنه واجه مهرجًا ولم يكن مؤذيًا، لكن نظرًا لأن الفكرة متصلة بخوف متأصل لديك، فستتولَّد لديك استجابة القتال أو الفرار. سيَمُدُّك الدماغ بالأدرينالين وسترتجف وتتوتر وتتسارع دقات قلبك وتضطرب أعضاء جسمك عندما تشعر بالخوف. يربط الدماغ مواجهة الأمر الذي تخافه بإحساس الخوف، مما يجعل دماغك يظن أن للخوف ما يبرره، وكأنك تدور في حلقة تعمل على تكثيف مشاعر الخوف.
كيف نتغلَّب على القلق؟
بحسب بورنت، فإن إحدى الطرق هي «إزالة التحسس المنهجية»، وتعتمد هذه الطريقة على تعرُّضك للشيء الذي تخاف منه تدريجيًا وببطءٍ شديد؛ فإذا كنت تخاف العناكب، يبدأ المعالج بإظهار صورة صغيرة لعنكبوت، ثم عنكبوت بلاستيكي، وبعدئذ يُريك فيديو لعنكبوت حي، ثم عنكبوت صغير في صندوق، ثم رُتَيلاء في صندوق، حتى تتمكن في النهاية من حمل العنكبوت، بما يجعلك تصل في كل مرة إلى أقصى قدرة تستطيع احتمالها، ثم تنتقل لمرحلة أخرى، دون إثارة استجابة القتال أو الفرار.
إلى هنا، يبدو الكلام منطقيًا بالنسبة لبيئة بدائية تكتنفها الأخطار، ولكن كيف لهذا الميل تجاه الخوف أن يتلاءم مع عالمنا المعاصر؟
يقول بورنت: «إن الخوف يشكل مشكلة في بيئتنا الحالية؛ فنحن قادرون على القيام بالكثير من العمليات التجريدية مثل التخطيط والتخيل والتسويغ المنطقي والتنبؤ، وجميعها قد تُثير استجابة الخوف؛ فكثير من الناس يخشون فقدان وظائفهم، وبخاصةٍ إذا سمعوا عن ركودٍ اقتصادي، وهو أمر لا يشكل تهديدًا ماديًا مباشرًا؛ إذ لا يوجد خوف من الموت أو الإصابة بأذى، لكن الأمر لا يزال يسبب الخوف للناس. ويمكن لهذه التوقعات أن تثير الخوف فعليًا كما لو أنها خطر حقيقي».
الأمور اليوم قد تعقَّدت على نحوٍ أكبر؛ فهي لم تعد تتعلق بالبقاء على قيد الحياة أو الحصول على الطعام.
ويضيف بورنت أن الأمور اليوم قد تعقَّدت على نحوٍ أكبر؛ فهي لم تعد تتعلق بالبقاء على قيد الحياة أو الحصول على الطعام الكافي كما في الماضي، ولكنها تتعلق بتطور مهنتك، أو أن تكون محبوبًا من أصدقائك، أو حتى أن يكون لديك عدد كاف من المتابعين على «تويتر»، وغيرها من الأمور الأخرى التي يهتم بها الإنسان المعاصر ويخشى فقدانها. المشكلة أن عالمنا المعاصر يزخر بالأمور التي تستدعي القلق، لذلك نبقى قلقين دائمًا.
هل يعني هذا تحوُّل الكم الكبير من المعلومات إلى حمولة زائدة من القلق؟ يجيب بورنت: «بالضبط، فالعالم المعاصر يوفر قدرًا كبيرًا من المعلومات، وبخاصة ما نتلقاه عبر الإنترنت. ويبدو أن العالم يتجه للأسوأ، رغم أن الإحصاءات تدل على أنه يتقدم، لكننا نعلم الكثير عما يجري في أنحاء العالم من حروب وكوارث وهذا يدعونا للقلق».
تناول بورنت في كتابه نوبات الذعر، ووصفها بأن «الدماغ يحذف الوسيط ويحث استجابات الخوف في غياب أي سبب معقول». يرى بورنت أن الدماغ لم يتطور ليقوم بكل وظائفه لأسباب محددة. «يتساءل الناس: لماذا يتألف الدماغ من قسمين؟، ولا يوجد جواب لذلك؛ فقد حدث الأمر مصادفة. لا يتمحور التطور حول الرأي الأفضل، بل حول ما يقوم بالوظيفة بالشكل الأمثل».
بالنسبة لنوبات الذعر، ثمة العديد من النظريات لتفسيرها. بحسب بورنت، يمكن أن تبدأ الأمور لديك بميل قوي تجاه الرهاب، أو قد يكون نظام الاستجابة للخوف لديك شديد التطور، أو أن تمتلك جزءًا شديد التطور في دماغك، مثل القشرة أمام الجبهية، التي تتجاهل أكثر ردود الأفعال الأساسية وتعمل على قمع الاستجابة للخوف. وربما تكون تجربة مؤلمة قد حفرت في ذاكرتك خوفًا عميقًا، مما سبب نوبات الذعر، أو قد يكون هناك خلل في منطقة ما من الدماغ، مما يسبب شدوذًا في كيمياء الدماغ. لكن بشكل أساسي، لا يوجد سبب حقيقي لنوبات الذعر؛ فهي لا تخدم هدفًا، وتحدث عندما يصبح نظام الخوف غير مُتوقع وغير مرتبط بمحفِّز واستجابة.
المذعورون في ازدياد..
يبدو أن المزيد من الناس يعانون اضطرابات الخوف ونوبات الذعر أكثر مما كان الأمر عليه منذ خمسين عامًا.. فهل الخوف داء اجتماعي معدٍ؟
الناس يتأثرون بما يجري مع غيرهم، ولذلك هناك ما يعرف بعقلية الغوغاء.
يرى بورنت أن ذلك ربما يكون صحيحًا؛ فالناس يتأثرون بما يجري مع غيرهم، ولذلك هناك ما يعرف بعقلية الغوغاء. قبل بضع سنوات حصل شغب في لندن ورمى طفل مطفأة حريق من مكان عال، وكان من الممكن أن يقتل أحدهم. لم يكن ليفعل ذلك بمفرده، ولكنه فعله عندما أصبح جزءًا من مجموعة متمردة تتصرف بفوضوية. لذا، إن كنت تُعايش باستمرار تعبير الآخرين عن القلق، سواء كنت توافق على ذلك منطقيًا أو لا توافق، فإن دماغك يسجله بشكل لاشعوري. وبمرور الوقت يمكن أن ينشأ لديك مستوى منخفض من القلق.
إذا كانت أدمغتنا قد تطوَّرت لتصبح فائقة الشعور بالخوف إلى هذا الحد، فهل يعتقد بورنت أنه من الممكن لها أن تتطور في اتجاه التهدئة؟
يرد بورنت: «القول بأننا سنتطور لنتخطى القلق هو أمر صعب، فالتطور يتطلب زمنًا طويلًا، وبخاصة مع أمر ليس قاتلًا مثل القلق، لكن الدماغ بارع في اعتياد الأشياء، فهو لا يعير أهمية للأشياء المستمرة التي يثق بها، فمثلًا، يتمكن الجنود من النوم في أرض المعركة، أما الأشخاص العاديون فإنهم سيبقون مذعورين باستمرار في ساحة القتال. لذا إن وصلنا إلى مرحلة حيث التقنية أو السرعة تصبحان أكثر تناغمًا، فسنصبح أكثر اعتيادًا على الأشياء ولا تعود الأمور المقلقة في أيامنا هذه تمثل أي مشكلة».
في الوقت الحالي، ما الذي يمكن للأشخاص فعله لجعل أدمغتهم أقل قلقًا؟
«يختلف دماغ كل شخص عن أدمغة الآخرين، لكن الجواب هو أن تبعد نفسك عن الأمور التي تزعجك أو تخيفك. يقول بعض الأشخاص إن متابعة منشوراتهم عبر «تويتر» أو «فيسبوك» تسبب لهم الاكتئاب. الحل يكمن في الابتعاد قليلًا عن المتابعة، كما أن الدماغ يتوتر إذا فقد السيطرة على الوعي أو الواقع، ومن هنا يأتي الوهم، إنه يمنحك الصورة الخادعة عن أنك تحمل المسؤولية في عالمك. لذا قم بشيء ما لتمسك بزمام السيطرة مجددًا».