لو قسمنا المعلومات التي تتلقاها بحسب أهميتها إلى:
- معلومات تحتاجها الآن
- معلومات قد تحتاجها مستقبلًا
- معلومات لن تحتاجها أبدًا
في رأيك، أين تتركز نسبة المعلومات التي تلقيتها في المدرسة؟ هنا نحاول الإجابة.
معلومات كثيرة، تخصصية، منفصلة
مع بداية كل عام دراسي، يجتمع مختصو الأقسام العلمية في غرف مغلقة لإصدار معايير موحدة نافذة على جميع الطلاب، حول ما يجب أن يسمعوه ويحفظوه ويُختبروا به، على طريقة مبدأ: نحن لا نعلم المجال الذي سيعمل به كل طالب حينما يكبر، لذا ارتأينا أن نعلم جميع الطلاب أكبر قدر من المعلومات، احتياطًا، علها تنفع يومًا ما.
أولًا: معلومات كثيفة، كمًّا
تتعاطى المدارس مع مسألتي التربية والتعليم بمنطق اقتصادي ضيق، وذلك بتعاملها مع المُخرجات الطلابية في المدارس كمعاملة التقارير السنوية لأرباح وخسائر الشركات التجارية، إذ تحولت نظرتنا للطالب من كونه إنسانا حيويًا متفاعلًا مع من وما حوله، إلى كونه مجرد خانة فارغة تُملأ ببعض الرموز، وتحاسَب على بعض الأعداد والأرقام، كعدد المعلومات المحفوظة، والأسئلة المجابة، والدرجات المحرزة.
يصف ذلك الدكتور عبد الله المطيري، أستاذ الأصول الفلسفية في التربية بجامعة الملك سعود، بمصطلح «التعليم البنكي».
وتكمن جسامة انتشار هذا النوع من التعليم البنكي أو المصرفي في مدارس اليوم، في أنه لا يلتفت إلى المجالات المؤسسة لشخصية الطالب، وإنما يتعامل معه كحاوية، أو خزانة، أو حساب بنكي يودِع فيه أستاذه رصيدًا معلوماتيًا غزيرًا يتكالب مع كل درس، على أن يسترده منه أوقات الاختبار والمساءلة، مع تجاهل تام لأهم ما ينبغي بناؤه على الصعيد الفكري والنفسي والاجتماعي.
يضرب المطيري مثالًا بطالب يعاني من اضطرابات نفسية، منخفض في مستوى وعيه الذاتي، ضعيف في مهارات التواصل مع الآخرين، ذي أفق محدود في ما يتعلق برؤيته للحياة. لا شك أن هذا الطالب نتيجة فاشلة على الصعيد التربوي، لكنه بالمنطق البنكي المصرفي البحت الذي لا يقيس في الطفل إلا قدرته على تخزين أكبر عدد من المعلومات، سيكون طالبًا ناجحًا ومتميزًا، ويُنقل لصفوف الحياة الأمامية طالما أتم كل المحفوظات.
كنتيجة بديهية في المقابل، فإن الطالب مهما اتسعت رؤيته ونضجت إزاء الحياة، أو زاد وعيه بمحيطه المجتمعي وأسهم فيه، أو نمت قدراته الفكرية والنقدية، فهو بحسب معايير الأنظمة التعليمية ذات النموذج المصرفي، طالب فاشل، كونه لم يستظهر المعلومات والحقائق عن ظهر قلب، ذلك أن النظام يكافئ الطالب على حفظه لا على سعيه نحو الفضول والتجريب، كما أشار أحد تقارير المنتدى الاقتصادي الدولي.
ثانيا: معلومات تفصيلية، تخصصًا
بطواف سريع على نماذج منوعة من الاختبارات النهائية المتداولة في المنصات التعليمية بعدد من الدول العربية، والتي يُقيم ويحاسَب عليها طلاب الصف الخامس تحديدًا، بإمكانك اختبار معلوماتك مع بعض الأسئلة المختارة، على أن تخبرنا بعدها عن مدى ملاءمتها لأطفال لم يبلغوا العاشرة من أعمارهم، أو بالكاد بلغوها.
نبدأ الاختبار:
السؤال 1:
ما معنى «الضنينة»؟
السؤال 2:
كم يحتاج كوكب أورانوس ليدور حول الشمس؟
السؤال 3:
اكتب القسمة المطولة لعدد 672 حجرًا جُمعت في 72 ساعة، وحدد عدد الأحجار التي جُمعت في ساعة واحدة فقط.
السؤال 4:
ما اسم البكتيريا التي تمد نبتة الفول بعنصر النيتروجين؟
السؤال 5:
من مؤلف ديوان «ابن عربي يترجم أشواقه»؟
السؤال 6:
حدد الدائرة البيانية التي تمثل نسبة النفط ومنتجاته البتروكيماوية من مجموع قيمة الصادرات.
السؤال 7:
عرِّف ذات الفلقتين.
السؤال 8:
ما اسم الأداة التي تفصل بين الزيت والماء؟
السؤال 9:
أوجد ناتج 729.72 - 123.7436، ثم قرب الناتج لأقرب جزء من المئة.
السؤال 10:
هل تعرف الشاعر حليم دموس؟
والسؤال الأخير: كم جوابًا عرفت من العشرة؟
لا بأس إن أحرزت درجة متدنية في اختبار الأسئلة أعلاه، فمهما كنت ناجحًا في عملك، كمهندس ماهر أو جراح محنك أو محلل اقتصادي مرموق، فافتقادك لبعض تلك الأجوبة التفصيلية المتعلقة بالأدب وخلافه لن يؤثر على منصبك أو براعتك المعهودة في تخصصك العلمي الدقيق. ومع ذلك، فهذه أسئلة مفروضة على أطفال لم يحددوا تخصصاتهم بعد.
الغالب أن أبرز القيادات في الدولة، ومن بينهم من يتبوؤون أعلى المناصب في وزارات التربية والتعليم، لن يتمكنوا من إحراز الدرجة الكاملة في أسئلة مناهج الصف الخامس، مما يحثنا على أن ننادي جميعًا ونوحد أصواتنا لسؤال وزير التربية: معالي الوزير، هل تعرف أنت معنى «الضنينة»؟
دفاعًا عن الطلبة المثقلين بتلك المعلومات التي لا تستحث فضولًا ولا تستثير سؤالًا، كتب أستاذ اللغويات «روجر شانك»، رئيس معهد علوم التعلم والمحاضر في جامعتي ييل وستانفورد، رسالة انتقادية مطولة يتعاطف فيها مع التلاميذ المتورطين في معلومات تخصصية عديمة الفائدة، لا تؤدي إلا لزيادة جرعات الكراهية نحو كل ما يخص العلم والتعلم.
يعدد شانك موطن الخلل في طريقة تدريس كل مادة علمية، ونورد هنا بتصرف مختصر بعضًا منها: «الكيمياء التي تلزمك بحفظ الجدول الدوري مضيعة للوقت، والأحياء التي تعلمك كيفية تقطيع الضفادع لا يمكن أن تكون أكثر سخافة، والفيزياء التي تحفظ فيها المعادلات والصيغ لن تساعد أبدًا، أما قولهم أن الرياضيات التي يدرسونها تعلم التفكير، فهذا مضحك جدًا».
يرى الدكتور شانك أن 99% من الناس لن يستفيدوا بالمعلومات النظرية التي تقررها المدارس.
ثالثا: معلومات منفصلة، واقعًا
اذكر أسماء الرؤساء، احفظ أسماء العواصم، اكتب تواريخ الاستقلال، املأ الجدول الدوري، رتب أحجام الكواكب، احذر استخدام الآلة الحاسبة. هل نحن حقا بحاجة إلى كل هذه الحقائق؟
وكأن عليك أن تثبت جدارتك التعليمية بمعلومات غير جديرة بالتعلم.
أنت تعلم أن معلومة عدد السنوات التي يستغرقها كوكب عطارد للدوران حول الشمس لن تحل مشكلاتك المجتمعية، ولن يكون لها أثر في تحسين مهاراتك أو علاقاتك بالآخرين، ولا هي بتلك المعلومة التي تنوي استثمارها في تخصصك المستقبلي، والذي يصادف أنك لم تختره بعد، لكنك مجبر بأي حال على حفظ تلك المعلومة وما شابهها من معلومات حول أحجام وأبعاد وسرعات الكواكب الأخرى، كونها الطريقة الوحيدة التي تثبت بها جدارتك للانتقال إلى المرحلة التالية، بحسب شروط الأنظمة التعليمية المعمول بها على كوكب الأرض.
علينا أن نفرق بين المعلومات التي نتداولها على سبيل التسالي، وتلك التي سيتحدد على أساسها مصيرك الأكاديمي.
في محاضرة عُقدت في واحدة من أرقى الجامعات والتي لا تقبل إلا أفضل المتقدمين، طلب الأستاذ من الحضور، الذين كان يقدر عددهم بالمئات، أن يرفعوا أيديهم في حال تذكرهم درس «المعادلات التربيعية» الذي كان مقررًا عليهم في المناهج المدرسية المبكرة، فارتفعت أيدي نصف الحضور تقريبًا، بينما بقي النصف الآخر محتفظًا بها.
وجه الرجل سؤالًا ثانيًا إلى من رفعوا أيديهم: أهناك من استفاد من دروس المعادلات التربيعية أو استخدمها في آخر 10 سنوات؟ فتناقص عدد الذين رفعوا أيديهم إلى: لا أحد.
هذه تجربة اعتاد «ديفيد بيركنز»، أستاذ التعليم في جامعة هارفارد ورئيس مركز «Project Zero» لفهم التعلم عبر الفنون، أن يكررها خلال محاضراته.
أول ما يدعو إليه بيركنز أن نكون أكثر جرأة للاعتراف بأن التعليم يعاني من «أزمة محتوى»، من حيث عدم صلاحية المعلومات التي تعطَى للطالب باعتبارها معرفة غير مستخدمة، وأننا كذلك تعوزنا جرأة أخرى مماثلة لتفعيل مبدأ «التخلي» عن كل معلومة لا تفيد الطالب في احتياجاته اليومية. وكما يقول بيركنز: «نحن بحاجة إلى تفجير النظام والبدء من جديد. حسنًا، لن نفجر كل شيء، أقلها هذه الزوايا».