يعتاد من يهوى قراءة الأعمال الأدبية، من شعر وروايات، أن يطالع تعبيرات مجازية تجذبه من عالم الواقع إلى الخيال، وتزيد من اندماجه مع الأحداث، حتى لو التبست بعض التعبيرات على القارئ، أو اختلف المتلقُّون حول تفسيرها. لكن ماذا لو لجأ العلماء إلى استخدام المجاز والاستعارة لعرض نظرياتهم؟
يمكن أن يُستخدَم المجاز، بصفة عامة، لتقريب مفاهيم يصعب التعبير عنها بمصطلحاتها الحقيقية، فيعمد الكاتب إلى استخدام مصطلحات أكثر قربًا من تخيل المتلقي لتبسيط الصورة، وهذا ما فعله العالم البريطاني «تشارلز داروين» عند استخدام مصطلح «الانتخاب الطبيعي» للتعبير عن فكرة نظرية التطور الطبيعي. فكلما كانت الصورة البديلة المستخدَمة أقرب إلى المألوف، أصبحت أقدر على جذب الانتباه، حسبما يذكر مقال نُشِرَ على موقع «Nautilus».
البلاغة تقرِّب المعنى العلمي
ربما لم يلتفت معظمنا إلى استخدام المجاز البلاغي في مصطلح «الانتخاب الطبيعي»، إلا أنه في الوقت الذي عاش فيه داروين كانت فكرة التطور الطبيعي جديدة وغريبة على مسامع أهل هذا العصر وأذهانهم، فاضطر إلى اللجوء للمجاز بهدف ضمان تقبُّل فكرة نظريته الجديدة.
اعتاد داروين خلط اللغة المجازية بالعلوم.
داروين، الذي كان مهووسًا بتربية الحمام، عَرف قبل ظهور نظرية التطور الطبيعي (وكذلك عَرف غيره مِن مُربي المواشي والمزارعين) الانتخاب الصناعي، وهو أن يختار المزارع أو المربي زراعة أصناف لديها صفات مرغوب فيها دون غيرها. كانت هذه الفكرة أساس نظرية تعكس إجراء الطبيعة لعملية مشابهة، فإذا امتلك نوع معين صفةً تساعده على البقاء، فإن هذه الصفة تنتقل عبر الأجيال.
الطبيعة لا تنتقي صفة ما وتدع أخرى، لكن داروين أراد تقريب صورة الانتخاب إلى الأذهان بتجسيد الطبيعة في صورة شخص له الحق في الاختيار لضمان بقاء الأنواع. من هنا جاء مصطلح «الانتخاب الطبيعي»، لكن هذه المرة لم تكن الأولى التي يخلط فيها داروين المجاز البلاغي بالعلم.
في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بعث داروين رسالة إلى معلمه «جون ستيفنز هنسلو»، وهو عالم نبات وجيولوجي، تحدَّث فيها عن رحلاته الاستكشافية الأخيرة في جبال الإنديز، والتي لازمته خلالها مطرقة لكسر عينات من الصخور ذات الشقوق. وصف داروين «أوتادًا» صخرية من كل شكل ولون، ومن الواضح أن هذا المجاز علق في ذهنه لوقت طويل.
بعد بضع سنوات على تلك الرسالة، وعندما بدأ تفكير داروين ينشغل بنظرية تطور الأنواع، كتب في ملاحظاته: «مئة ألف وتد تحاول بكل طريقة تشكيل فجوات من خلال دفع الأضعف منها، وإذا وجد وتد واحد طريقه داخل الفجوات، فلا بد من أن يُخرِج في المقابل وتدًا آخر».
بعد مرور نحو 20 عامًا، عاد داروين إلى استخدام مجاز الأوتاد للتعبير عن الأنواع الحية. في مقدمة غير منشورة لكتابه الشهير «أصل الأنواع» كتب: «أوتاد مجتمعة بشكل متلاصق ومدفوعة بضربات متلاحقة». ووضَّح أن تلك الأوتاد اتخذت أشكالًا متفاوتة، وتلقت ضربات في جميع أنحاء الحقل، ومن جميع الاتجاهات. وظهرت مقارنة الأوتاد بالأنواع الحية في الطبعة الأولى لكتاب الأنواع الحية، لكنها اختفت من الطبعات التالية ولم تظهر مرة أخرى.
اليوم، بعد نحو قرن ونصف من استخدام داروين هذا المجاز، أصبح تشبيه الأنواع بالأوتاد طيَّ النسيان، ولم يَرِد عن الرجل أي شرح أو تفسير لاستخدام هذا التشبيه تحديدًا. لكن من بين الأسباب الممكنة شكه في أن يُعجَب الناس بهذا التشبيه المجازي، خصوصًا غير المهتمين بالجيولوجيا والصخور، ليظل المعنى الحقيقي لهذا التشبيه في عقل داروين.
مثلث اللغة والعلم والفلسفة
قرار داروين بالتخلي عن هذا المجاز يبدو أنه كان حكيمًا، فقد لاحظ استياء بعض المحيطين به من استخدام هذا المجاز تحديدًا لوصف نظرية التطور الطبيعي.
من بين هؤلاء المنتقدين «راسل والاس»، الذي بعث رسالة إلى داروين عقب نشر كتاب «أصل الأنواع» لأول مرة، يشرح فيها رفضه لهذا التشبيه، وكيف أنه غير مناسب لمخاطبة الجمهور عن نظرية تطور الأنواع الحية، معربًا عن تخوُّفه من أن يوحي هذا التشبيه للقراء بأن الطبيعة مصمِّم ذكي، يتطلع عن عمد إلى تشكيل المسار المستقبلي للحياة.
ثبُت لاحقًا كيف كان والاس محقًّا في نظرته للغة البلاغية التي يستخدمها داروين. فوفقًا للسيرة الذاتية للأخير، التي كتبتها «جانيت براون»، كان داروين يتخيل الطبيعة كأنها كيان واعٍ قادر على رؤية الجميع، وجسَّدها في شخص مطَّلِع على كل شيء، يمكنه الإشراف والمراقبة.
في كثير من الأحيان، تحمل المجازات التي يستخدمها العلماء دلالات أكثر مما نتخيل.
من وجهة نظر والاس، مشكلة هذا التصور أنه ببساطة «مغلوط»، وأن التعبير المستخدَم يوحي بشيء غير صحيح علميًّا. لكن رغم اعتراضات والاس، تمسَّك داروين بتعبيره.
من المرجَّح أيضًا أن يكون داروين، دون قصد، قد توصل إلى أحد أسرار علم النفس، وهو أن الناس بطبعها تميل إلى فكرة «التصميم ذي المغزى»، فالأبحاث أثبتت أنه عندما يواجه الناس ظواهر صعبة التفسير، يُرجعونها إلى القوى الأعظم، مثل قدرة الله أو القَدَر أو غير ذلك، وفقًا للثقافات والديانات المختلفة. لذلك، كانت فكرة إعطاء الطبيعة صلاحية الانتخاب مناسبة تمامًا كي تلعب على هذا المفهوم لدى البشر.
من المثير أن نجد هذا التشابك بين اللغة والبلاغة من ناحية، والعلم والفلسفة والمعتقدات من ناحية أخرى. لكن إن فكَّرنا للحظة، قد يزول العجب. فاللغة كانت، ولا تزال وستظل، الأداة الناقلة للعلوم والفلسفة عبر الأجيال، واستخدام العلماء هذه الأداة باحتراف ربما يكون ضرورة في بعض الأحيان لنقل إرثهم العلمي كأفضل ما يكون، وهو بالطبع ما يصب في مصلحة العلم واللغة في آنٍ واحد. لكن علينا نحن كذلك أن نُمعن النظر في المجازات التي يستخدمونها، لأنها في كثير من الأحيان تحمل من الدلالات أكثر مما نتخيل.