يبحث مئات الآلاف من مستخدمي الإنترنت عن مقاطع فيديو تحتوي على أشخاص لا يفعلون شيئا أكثر من النقر بأصابعهم على أسطح مختلفة أو الهمس، لكنهم يشاهدونها باستمتاع ليحصلوا على ما يسمونه «النشوة الدماغية»، في تجربة حسية صارت تعرف بـ«إيه إس إم آر» (ASMR)، أو «إيسمار» كما يُطلَق عليها بالعربية.
هذه الأفعال التي قد تستفز بعضنا أو حتى لا تسترعي الانتباه، مصدر سعادة يبدو أنها تقتصر على أشخاص دون غيرهم.
الظاهرة فرضت وجودها بقوة، لها مجموعة كبيرة من مقاطع الفيديو على يوتيوب، كثير منها تخطى المليون مشاهدة، ومريدون شغوفون يذهبون إلى قنوات «إيه إس إم آر» على يوتيوب بانتظام، بحثًا عن الهدوء والنوم والخلاص من الضغط.
ما هذه الظاهرة المثيرة بالضبط؟ هذه محاولة لتحسس الطريق.
«إيسمار»: فقاقيع في رأسك، لآلئ تتدحرج على جسمك
«ASMR» اختصار لمصطلح «Autonomous Sensory Meridian Response» (الاستجابة الزوالية الحسية الذاتية). أما المحفزات التي تُحدِثه، فتتنوع بين المسموعة والمحسوسة والمرئية. وينبعث الشعور «بإيسمار» من خلال مستثيرات حية أو مسجَّلة.
محتوى «إيه إس إم آر» متنوع ويتوسع باستمرار، حتى إنه توجد مقاطع مخصصة للأطفال، تساعدهم على النوم.
لو كتبت كلمة «إيه إس إم آر» على يوتيوب، ستظهر لك فيديوهات كثيرة لـ«فناني الإيسمار» كما أصبح يطلق عليهم، والذين نال بعضهم شهرة وشعبية كبيرة، وصار لهم متابعون بمئات الآلاف. هذه المقاطع تتضمن ثلاث ثيمات أساسية متكررة:
- أشخاص يهمسون إليك أمام الكاميرا. فالهمس أهم ثيمات «إيسمار»، وهو موجود في كل المقاطع على اختلافها. قد يقترن هذا الهمس بحركات تشبه الطبطبة أو التربيت على كتفك أو المسح على شعرك، مع قدر من التواصل البصري يعطيك إحساسًا بالاهتمام الشخصي.
- أشخاص يكرمشون/يعفسون أغلفة بلاستيكية، أو ينقرون بأظافرهم على سطح بلاستيكي أو يستعرضون طرقًا لطي المناشف. وربما تشاهد خطاطًا يمارس الكتابة في محاولة لتطويع محفزات سمعية وبصرية.
- أشخاص يمثلون أدوارًا مثل طبيب يفحصك أو كوافير يقص شعرك أو موظف يستقبلك في الفندق، في محاولة لإعطاء المتلقي اهتمامًا شخصيًّا مُركَّزًا.
لكن محتوى «إيه إس إم آر» متنوع ويتوسع باستمرار، حتى إنه توجد مقاطع مخصصة للأطفال، تساعدهم على النوم. ويستخدم صانعو محتوى «إيه إس إم آر» الجيد ميكروفونات ثلاثية الأبعاد، لالتقاط صوت أنفاسهم وأنعم الأصوات وأرقها.
يشعر مشاهدو مقاطع «إيسمار» بدغدغة أو قشعريرة أو وخز في مؤخرة فروة الرأس، يمتد إلى العمود الفقري، وقد يصل إلى الأطراف لو كنت محظوظًا، وهو شعور دافئ ومريح وممتع للغاية، وفق شهادات من مروا بالتجربة.
يقول «كريغ ريتشارد»، أستاذ العلوم الدوائية بجامعة «شيناندو» بالولايات المتحدة، إن الأشخاص الذين يمرون بتجربة «إيسمار» يشعرون براحة عميقة، كتلك التي نحصل عليها بعد الخضوع للتدليك. ذلك الشعور شبَّهته «ماريا»، إحدى أوائل صناع محتوى «إيسمار» على يوتيوب وأشهرهم، بوجود فقاقيع في رأسك ولآلئ تجري فوق أطرافك.
ماريا: الشقراء التي تهمس لملايين
ماريا، شابة ثلاثينية شقراء روسية الأصل تقيم في الولايات المتحدة، وتتحدث الإنجليزية بلكنة. أطلقت قناة على يوتيوب لبث محتوى «إيسمار»، تحمل اسم «Gentle Whispering ASMR»، ولديها نحو 1.5 مليون مشترك. وقد بلغت شهرتها ونجاحها حدًّا جعلها تترك عملها للتفرغ لصناعة محتوى على يوتيوب.
شعرت ماريا بتلك الدغدغة لأول مرة وهي طفلة، حين كانت تدغدغها صديقاتها في الحضانة أو كانت تمرر أصابعها بلطف على ساعدها، وهو أمر يكرره كثيرون ممن يمرون بـ«إيسمار».
«الإيسمار» ليس المقصود به الإثارة الجنسية، ووجود مقاطع إيحائية أمر طبيعي لأن الإثارة لها دائمًا مريدون.
بعد هجرتها إلى الولايات المتحدة بوقت قصير، أصيبت ماريا باكتئاب بعد انفصالها عن زوجها، ووجدت صعوبة كبيرة في النوم، فكان أن لجأت إلى الإنترنت بحثًا عما يساعدها على الاسترخاء. شاهدت فيديو بعنوان «Whisper» (همس) ساعدها كثيرًا وعاودتها دغدغة الطفولة، واكتشفت من التعليقات أن آخرين يشاركونها الشعور نفسه. من ذلك الحين، بدأت تشاهد مقاطع تحت نفس الاسم كلما مرت بضغوط نفسية، واكتشفت أن حديثها مع الآخرين بصوت هامس يريحهم تمامًا كما يريحها الاستماع إليه. من هنا، كانت الشرارة الأولى، فصنعت أول مقطع «إيسمار» في 2011.
تعترف ماريا بأن جاذبيتها سبب مهم في نجاحها. فكل ما هو جميل يجذب مزيدًا من «الترافيك»، حسب قولها. لكنها تضيف أن مجال «إيسمار» لا يخلو من الرجال، غير أن المشاهدين يفضلون النساء لنعومة أصواتهن التي تبعث على الراحة، وتضيف أن الناس لا يفضلون عادة أن يهمس رجل في أذنهم، فقد يؤدي إلى الشعور بالضيق عكس ما هو مطلوب في «إيسمار» أساسًا.
تصر ماريا على أن «إيسمار» ليس المقصود به الإثارة الجنسية، ويشاركها الرأي كثير من المتحمسين للموضوع، معتبرين وجود المقاطع الإيحائية أمرًا طبيعيًّا لأن الإثارة لها دائمًا مريدون.
تقول ماريا إن متابعيها يجدون لكنتها في نطق الإنجليزية محببة ومدهشة، بل إنها من محفزات «إيسمار»، لأنها مختلفة عما اعتاد الناس سماعه. اللكنة تجعل الكلام أكثر رقة ونعومة، لهذا نجد غالبية فناني «إيسمار» المشهورين، يأتون من بلدان لا تتحدث الإنجليزية كلغة أولى، حسب قولها.
تؤكد ماريا أهمية التجديد في تقديم محتوى «إيه إس إم آر» لتجنب الملل، وتدعو المتلقي بالمثل إلى التنويع في استخدام المحفزات لأن اللجوء إلى محفز معين بشكل متكرر قد يجعله دون تأثير بعد فترة.
إيه إس إم آر بالعربي: ونحن كذلك نهمس
على يوتيوب محاولات عربية حديثة نسبيًّا لصناعة محتوى «إيه إس إم آر»، ويمكن اعتبارها تجارب جادة تتضمن صناعًا رجالًا ونساء، وفيها الثيمات المتكررة من وشوشة ولعب أدوار وإصدار أصوات محببة إلى مجتمع «إيه إس إم آر».
كما أن هناك مقاطع «إيسمار» أجنبية تتضمن أشخاصًا يقرأون آيات من الإنجيل، توجد مقاطع لأشخاص يقرأون سورًا من القرآن الكريم، أحدها للقارئ عمر هشام العربي، يقرأ سورة «المزمل» بصوت هادئ في فيديو يحمل اسم «سورة المزمل- تلاوة هادئة (asmr)»، وهو حاصل على نحو 120 ألف مشاهدة.
في فيديو آخر، يردد رجل أذكار الصباح والمساء هامسًا، وفي أحد المقاطع، يقرأ رجل سورة «المُلك»، ونسمع صوتًا هادئًا مصاحبًا للقراءة، يحاكي صوت تدليك في مقطع تحت اسم «سورة المُلك- تدليك لفروة الرأس»، تخطى 16 ألف مشاهدة.
مريدو «إيسمار» يؤكدون أنها تخلصهم من الإجهاد والتوتر والأرق، بل وتعالج «اضطراب كرب ما بعد الصدمة».
على الجانب الآخر، يوجد فيديو آخر تحت اسم «Kisses for you» يظهر فيه النصف السفلي فقط من وجه فتاة عربية محجبة، ويداها. تظهر الفتاة في المقطع بأحمر شفاه وطلاء أظافر لامعَيْن، وتتحدث بصوت هادئ وتعطي قبلات ناعمة وتحرك يدها وكأنها تمسح على رأس المتلقي. هذا المقطع، الذي ربما وجده البعض إيحائيًّا، شاهده أكثر من 180 ألف شخص. في مقطع آخر، تقرأ امرأة أجزاء من رواية «الخيميائي»، في فيديو تخطى 40 ألف مشاهدة.
فاجأني عدد لا بأس به من التعليقات على مقاطع الفيديو، من أشخاص ليسوا عربًا ولا مسلمين. بعض آيات القرآن لاقت استحسانًا كبيرًا، وإحدى المتابِعات أكدت أن أطفالها ينامون يوميًّا على صوت تلك القراءة.
اللذة الدماغية: علم أم وهم أم استسهال؟
معظم مشاهدي مقاطع «إيسمار» تحسَّن شعورهم، بمن في ذلك أشخاص يعانون من الاكتئاب.
مريدو «إيسمار» يؤكدون أنها تخلصهم من الإجهاد والتوتر والأرق، بل وتعالج «اضطراب كرب ما بعد الصدمة» (PTSD)، إضافة إلى جلب مشاعر السعادة. بينما يوضح كريغ ريتشارد، عالم الصيدلة البيولوجية، أن التجربة الجسمانية التي يمر بها هؤلاء الأشخاص لم تتضح بعد.
بل إن أغرب ما في «إيسمار» أن نفس الأصوات التي تريح بعض الأشخاص، مثل الهمس وصوت المضغ، هي نفسها تضايق آخرين، في ما يُعرف بمتلازمة «Misophonia»، أو «حساسية الصوت الانتقائية».مصطلح «إيسمار» لم يضعه علماء النفس، خلافًا لما قد يوحي وقْعه. فقد وضعته سيدة تعمل في مجال «الأمن السيبراني»، تدعى «جنيفر ألين»، من أجل تسهيل عملية مناقشة الظاهرة، وإسباغ صورة رسمية عليه تجعل من يشعرون به لا يجدون حرجًا في التحدث عنه.
لكن كيف لأمر أن يريح مجموعة من البشر ويزعج غيرهم؟
وفقًا لريتشارد، هناك أدلة علمية جديدة تشير إلى وجود عنصر وراثي، في ما يتعلق بمتلازمة «حساسية الصوت الانتقائية»، وقد ينطبق نفس الأمر على «إيسمار» .
في عام 2015، نشر باحثان نفسيان من جامعة «سوانسي» البريطانية بحثًا تناول ظاهرة «إيسمار»، وشمل نحو 500 شخص يشعرون بدغدغة «إيسمار». وجد البحث أن غالبية الأشخاص الذين خضعوا للبحث، يشاهدون مقاطع «إيسمار» على يوتيوب، لمساعدتهم على النوم أو التعامل مع الضغط النفسي. معظم مشاهدي مقاطع «إيسمار» تحسَّن شعورهم، بعد المشاهدة في التجربة، بمن في ذلك أشخاص يعانون من الاكتئاب.
ذكر 5% فقط ممن شملهم البحث أنهم يشاهدون مقاطع «إيه إس إم آر» من أجل الاستثارة الجنسية، عكس الاعتقاد المنتشر على الإنترنت الذي يعززه أن كثيرين من صانعي محتوى «إيه إس إم آر» من النساء الجذابات اللاتي يظهرن أحيانًا بملابس كاشفة، وكذلك وجود تعليقات على تلك المقاطع، تثني على جمال صانعة الفيديو، واستخدام المعلقين لمصطلحات مثل «النشوة الدماغية» أو «البورن الهامس».
في عام 2016، سعى «ستيفن سميث»، أستاذ علم النفس بجامعة وينيبيغ الكندية، واثنان من زملائه، إلى استكشاف طبيعة التركيبة الدماغية للأشخاص الذين يشعرون بـ«إيسمار». شملت الدراسة 22 شخصًا، نصفهم فقط يستشعر تلك الدغدغة. لكن نتيجة عجز العلماء عن إحداث الأصوات الناعمة المطلوبة لإنتاج وخزات «إيسمار»، في ظل استخدام أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI) التي تصدر أصواتًا مزعجة، راقب العلماء الدماغ في أثناء أوقات الاسترخاء، عوضًا عن ذلك، ليروا إن كان ثمة فروق بين أدمغة الأشخاص الذين يشعرون بـ«إيسمار» والأشخاص العاديين.
ما لفت انتباه الباحثين، ما يسميه العلماء «الشبكة الغيابية»، وهي مجموعة من المناطق في الدماغ يُعتقد أنها تعمل معًا، ويظهر نشاطها بشكل أكبر في أوقات الراحة، في أثناء اليقظة، وتقترن بشرود المخ. تظهر هذه المناطق في أجهزة التصوير مضيئة في نفس الوقت، وفق سميث.
كانت أدمغة الأشخاص الذين يمرون بـ«إيه إس إم آر» مختلفة فعلًا. فلم تكن نفس المناطق في الدماغ تضيء في نفس الوقت بنفس الطريقة، بينما كانت مناطق أخرى في الدماغ أكثر نشاطًا، كشبكات الرؤية مثلًا. فكأن أدمغة هؤلاء تتسم بتداخل أكبر بين شبكاتها. يقول سميث: قد يكون مفهومًا أو بدهيًّا أن هؤلاء الأشخاص يمرون بتجارب حسية وشعورية لانمطية، فربما كانت أدمغتهم ذات تركيبة مختلفة.
يظل يعيب هذه الدراسة أن عينتها صغيرة، وراقبت أدمغة الخاضعين للبحث في أوقات الراحة، وليس في أثناء مرورهم بتجربة «إيه إس إم آر» نفسها، وفق «توني رو»، أستاذ علم النفس والأعصاب.
يرى سميث أن «إيسمار» ربما تشبه «التصاحب الحسي» (Synesthesia)، وهي حالة عصبية تمتزج فيها الحواس المختلفة، فتجعل صاحبها يربط الأحرف أو الأرقام بالألوان، أو يشم رائحة حين يسمع صوتًا معينًا. يشير سميث إلى بعض الدراسات التي تُظهر اختلافًا طفيفًا في توصيلات دماغ هؤلاء الأشخاص. ويعتقد أن من يشعرون بـ«إيسمار» ربما يشبهونهم في هذا الاختلاف. من جانبه، يرى «رو»، الذي يبحث في ظاهرة «التصاحب الحسي»، أن «إيسمار» ربما تكون شكلًا من أشكال التصاحب الحسي.
تشير دراسة أخرى صادرة عام 2018، شملت مجموعتين من الأشخاص، إحداهما تمر بـ«إيسمار»، شاهد المشاركون فيها ثلاثة مقاطع فيديو، اثنان منها فقط من نوعية «إيسمار»، إلا أن الأشخاص الذين يشعرون بـ«إيسمار» قد شهدوا انخفاضًا ملحوظًا في معدل خفقان القلب، وازديادًا في المشاعر الإيجابية، مثل الاسترخاء ومشاعر الترابط الاجتماعي، بشكل لا يختلف عن تقنيات تقليل التوتر، مثل الموسيقى والوعي التام «Mindfulness» (شكل من التأمل يتطلب التركيز على اللحظة الحاضرة دون غيرها)، مقارنة بالمجموعة الأخرى من الأشخاص.
يظهر الآباء حبهم للمواليد من خلال اللمس والاحتضان والطبطبة، ما يوضح أن «إيسمار»، تجربة إنسانية تمثل صدى لمرحلة الطفولة.
في ظل المحاولات البحثية الوليدة التي تتناول موضوع «إيه إس إم آر»، والتي لم تعط أجوبة نهائية أو قولًا فاصلًا في الأمر، يعطينا ريتشارد تفسيرًا بسيطًا قد يشرح لجوء الملايين إلى «إيه إس إم آر»، فيقول إن ما تشترك فيه مقاطع فيديو «إيه إس إم آر»، هو ما يسميه «الحميمية الهادئة التي تشبه الرحم». يتحدث إليك فنانو «إيه إس إم آر» بصوت هامس ناعم، لمساعدتك على الدخول في النوم من خلال اهتمام شخصي لصيق، وكلمات مريحة وابتسامات وما يشبه الطبطبة، والهدف من كل ذلك هو تحفيز الشعور بأن المتلقي «محبوب».
عندما طلب ريتشارد من المشاركين في تجربته، أن يرتبوا الطرق التي تستجلب شعور «إيسمار» وفق الأفضلية، كانت الطريقة الأولى هي «تلقي لمسات خفيفة والعينين مغمضتين»، تليها الأصوات، ومن ثم المؤثرات المرئية، وهي طرق تشبه التطور الطبيعي للحواس في الإنسان، وربما أعطى هذا التطور مصداقية لشهادات من يمرون بتجربة «إيسمار» الذين كثيرًا ما يقولون إنهم يشهدون تلك القشعريرة منذ الطفولة. فحين يولد طفل، تكون الحاسة الأكثر تطورًا، التي يتلقى من خلالها أكثر المعلومات، هي اللمس، أما الأقل تطورًا، فتكون الرؤية.
يظهر الآباء حبهم للمواليد من خلال اللمس والاحتضان والطبطبة، ما يوضح أن «إيسمار»، تجربة إنسانية تمثل صدى لمرحلة الطفولة، وفق ريتشارد.
أما «فرانسيس ماكغلون»، أستاذ علم الأعصاب في جامعة ليفربول جون موريس بإنجلترا، فهو أكثر تشككًا، ويُعِد مقاطع «إيسمار» شكلًا من العلاج البديل الذي يستهدف الأشخاص المرهفين، الذين يرغبون في تصديق هذا المنتج لأنهم يعانون من المشكلات، ويحتاجون إلى شكل من المساعدة النفسية، وهو تحديدًا ما يقلقه لأن «إيسمار» قد لا توفر حلًّا طويل المدى للمشكلات. حقيقي أن بعضًا من مريدي «إيسمار» يبحثون عن علاج رخيص سهل، لا يتطلب ذهابًا إلى الطبيب، وفق شهاداتهم هم أنفسهم. إضافة إلى ذلك، يشير مالكغلون أيضًا إلى أن معظم تلك المقاطع تقدمها نساء جميلات، ما قد يوحي بأن في الأمر عنصرًا جنسيًّا.
إيسمار بيزنس: وشوشة لجني الأرباح
يوجد على يوتيوب أكثر من 12 مليون مقطع فيديو، تحت مسمى «إيه إس إم آر»، وبعض المقاطع الأكثر شهرة شوهدت أكثر من 20 مليون مرة. بالطبع ساعدت هذه الأرقام الضخمة صناع محتوى «إيه إس إم آر»، على كسب الآلاف من الإعلانات التي يضعها يوتيوب في بداية المقاطع التي يبثونها.
تبدأ الإذاعة البريطانية في تجربة بث تتضمن دعوة المستمعين إلى الاسترخاء، على أصوات الأبقار الأيرلندية، وأصوات أوراق الشجر.
إغراء وجود هذه الكمية من متابعي «إيسمار» على يوتيوب، جعل الشركات العالمية تطمع في البحث عن شيء أكبر من مجرد مساحة إعلانية صغيرة في بداية الفيديو. ففي عام 2017، أطلقت «أيكيا»، سلسلة إعلانية تحت عنوان «Oddly Ikea»، تضمنت مقاطع فيديو على طريقة «إيسمار». تقدم المقاطع مجموعة من المنتجات التي يحتاج إليها الطلاب في غرف مبيتهم، ويصف أحدهم ميزاتها ويعرض ألوانها وأسعارها بصوت خفيض، فيتحسس ملاءات السرير ويسحق المخدات ويرتب الملابس في الدولاب مستخدما منتجات «أيكيا» التنظيمية.
كان هدف «أيكيا» من تلك الحملة، مغازلة مجتمع «إيسمار» الكبير. تقول «كيري هومشر»، المسؤولة في «أيكيا الولايات المتحدة»، إن الحملة كانت مغامرة لم تكن الشركة تعرف ما تتوقعه منها. لكن الاستراتيجية نجحت، وتناقل المستخدمون الفيديو بشكل واسع، وشوهد أكثر من مليوني مرة، وارتفعت مبيعات «أيكيا» في متاجره بنسبة 4.5%، وكذلك عبر الإنترنت بنسبة 5.1% خلال فترة الحملة الإعلانية. وثمة شركات أخرى كبرى حول العالم تخوض تجربة «إيسمار».
أما الإذاعة البريطانية، فستبدأ في تجربة بث جديدة تتضمن دعوة المستمعين إلى الاسترخاء، على أصوات الأبقار الأيرلندية وهي تصعد الجبل، وأصوات أوراق الشجر اليابسة وهي تتكسر تحت أقدام السائرين. سيقدم الراديو أصوات الحيوانات في حدائق الحيوانات وقت الغروب، إضافة إلى أصوات دق مجموعة من أكبر الساعات في المملكة المتحدة، أيضًا في محاولة لاستثمار نجاح فكرة «إيسمار».
إيه إس إم آر: كل شيء وأي شيء؟
نحن في حاجة إلى توضيحات. فمحبو «إيسمار» يشاهدون مقاطع فيديو تبدو في ظاهرها مملة جدًّا تمتد لدقائق طويلة، وكثيرًا ما تخلو من أي سيناريو أو حبكة. الأشخاص العاديون الذين لم يحالفهم الحظ لمشاركتهم نفس الدغدغة والنشوة يتشككون، ولهم كل الحق.
ما زلنا في حاجة إلى توضيح ماهية «إيسمار» نفسه. إذ يوجد مثلًا «ترند» لاستخدام «السلايم» (مادة تشبه الصلصال) لإحداث «إيسمار»، وهو يحدثه لدى بعضهم فعلًا، وفق رواياتهم. هل هذا إيسمار أيضًا؟ هل يدَّعي الأشخاص ذلك الشعور؟ هل سنجد أحدهم يعد الفشار في المطبخ، أو يمسح الحمام، ويرى أن الأصوات الصادرة محفزة لـ«إيسمار»؟ وما أدراك؟ لعل تلك المقاطع موجودة فعلًا.
كيف تشترك آيات الكتب المقدسة والمقاطع التي تبدو إيحائية تحت مسمى «إيه إس إم آر»؟ كيف يريح مقطع «إيه إس إم آر» فيه شخص يمضغ العلكة بعضنا بينما يستفز آخرين، أو على الأقل، يُشعرهم بالملل أو يدفعهم إلى الضحك والسخرية مما يشاهدونه؟ أليس ثمة تناقض، أم إننا نتحدث عن شعورَين مختلفَين أعطيا نفس الاسم؟
ما زال هناك كثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات: لماذا يشعر بعض الناس فقط «بإيه إس إم آر»؟ هل هم أقلية من البشر؟ ما نسبتها؟ هل يمكن أن نُحدِث ذلك الشعور لدى من لا يشعرون به أصلًا؟ هل يمكن حصر المحفزات التي تحدثه؟
في المقابل، هناك مصاعب معملية تواجه اختباره. فالوصول إلى هذه النشوة الدماغية يتطلب هدوءًا وعزلة، بينما أجهزة «قياس نشاط المخ» (FMRI) تُحدِث ضجيجًا. وتتطلب الطرق الأخرى، مثل «تخطيط أمواج الدماغ» (EEG)، استخدام توصيلات قد تتداخل مع دغدغة «إيسمار». هل يمكن أن تحصل هذه الظاهرة على تمويل كافٍ لدراستها، بينما هي محاطة بكل تلك الشكوك؟
التعرف إلى هذه الظاهرة وفهمها بشكل أفضل، ربما يطور من طرق علاج التوتر والاكتئاب. فالبشائر الأولى من التجارب تصب في هذا الاتجاه. لذلك نحن بحاجة إلى مزيد من البحث، فـ«إيسمار»، كما نعرفه اليوم، وسيلة تجمع المجتمعات الافتراضية أكثر منه حالة واضحة التشخيص والمعالم.