«حلّوها بينكم»: كيف تتعامل الدولة مع شكاوى النساء؟

الصورة: Getty - التصميم : منشور

نشر في 2021/05/22

«كانت ملابسي ممزقة وأثر الكدمات على رقبتي واضحًا، ولا أستطيع السماع بأذن واحدة لأن زوجي ضربني على أذني»، هذه نوف (اسم مستعار)، كويتية تبلغ من العمر 28 عامًا ولديها طفلين، تقول لـ«منشور»: «قال لي الضابط في المخفر: هذه أمور عائلية حلوها بينكم، أنتم أهل وتصير الخلافات الزوجية». توضح: «لم تسجَّل القضية ولم يُستدعى الجاني، واستمر يطاردني ويهددني، وبعد أن ذهبت مرة أخرى إلى ذات المخفر هذه المرة مع أخي، وبعد صراع، استُدعي زوجي ووقع على تعهد بعدم التعرض لي». تضيف ساخرة: «شدعوة سوت شي هذي الورقة، تعتقدين ما تم يطاردني؟».

ليست حادثة نوف حالة فردية، إذ تتكرر شكاوى النساء من عدم تسجيل قضايا العنف ضدهن في مراكز الشرطة، ويرون أنها استهانة بمسائل العنف الأسري بدعوى خصوصية الأسرة وشيوع الخلافات الزوجية وعادية بعض أشكال العنف من الرجل، وبسبب الموروث الاجتماعي الذي يكرس صور نمطية للمرأة على أنها تبالغ أو تصطنع المشكلات.

عامر (اسم مستعار)، وهو ضابط في وزارة الداخلية، يقول لـ«منشور»: «أذكر أتتني امرأة متزوجة تريد تقديم شكوى ضد والدها الذي كان يهددها بالقتل لأنه ليس راضيًا عن زواجها وهو منفصل عن والدتها، فاتصلت بوكيل النيابة وشرحت له الموضوع، فرد: "خلاص خل ترجع بكره الصبح". أجبت: "ليش بكره الصبح؟"، فرد: "عشان نشوف جدية البلاغ، هل هي جادة تريد رفع قضية ولا بس معصبة". إذًا الخلل ليس فقط من الداخلية، فأحيانًا وكلاء النيابة يؤخرون البلاغ لمعرفة مدى جدية المبلغ».

يكمل عامر حديثه مشيرًا إلى أن اتباع هذه الطريقة في التعامل مع البلاغات قد يُحدث بعض التراخي. المشكلة تكمن في عدم دراية المُبلغ بهذه الأمور التي تحدث في الخلفية، فالمُبلغ يتعامل مع الشرطي مباشرة، وبالتالي يعتقد أن الشرطي لا يأخذ القضية على محمل الجد، فدور الشرطة في هذه الحالات هو الإحالة، يستلمون البلاغ ويحولونه إلى التحقيق أو النيابة أو الأدلة الجنائية.

إذًا ما الذي يحدث؟ وأين تكمن مشكلتنا؟

فرح وعزاء

«قلنا لكم راح يقتلها»، هكذا صرخت المحامية دانة أكبر، بعد قتل شقيتها فرح وإلقائها أمام المستشفى مطعونة بعدة طعنات أمام ابنتها. كان قاتلها يهددها ويلاحقها ويتتبعها، حتى خطفها نهارًا في الشارع وقتلها. تقول أخت الضحية فرح: «ياما ناشدت الداخلية ما صار شي، رحت أسجل قضية في مخفر الدعية ما حصل شي، رحت مخفر السالمية ما صار شي، إلى أن حطيت واسطة من ولد خالتي وسجلت القضية في مخفر الزهراء».

لم تقدم النيابة العامة أي تفسيرات حول إخلاء سبيل المتهم رغم تهديده بقتل المجني عليها، فهل هذا إهمال من الدولة واستخفاف بقضايا العنف ضد النساء؟

القضية الرئيسية في مقتل فرح بحسب ما ترويه أختها هي إهمال الدولة في حمايتها من مهددها وملاحقها، وعدم تسجيل عدة شكاوى تقدمت بها برفقة أختها المحامية، ولم تؤخذ على محمل الجد إلا بتدخل ابن خالتها، وأخلي سبيل الجاني من النيابة العامة بعد تسجيل قضية التهديد والتعقب، رغم تحذير المحامية لوكيل النيابة من نيته قتل شقيقتها.

هزت الجريمة المجتمع الكويتي، وتعالت أصوات غضب النساء من تعامل وزارة الداخلية مع الشكاوى المقدمة منهن، وتحركت مجاميع نسائية منظمة اعتصامًا في ساحة الإرادة، وحراكًا على السوشيال ميديا تحت وسم #عزاء_النساء، والذي تفاعل معه كم كبير من الأشخاص نساء ورجالًا بزي أسود تضامنًا مع الضحايا.

في المقابل، لم تصدر وزارة الداخلية أي بيان أو توضيح للتقصير الذي تتحدث عنه النساء، ولم تقدم النيابة العامة أي تفسيرات حول إخلاء سبيل المتهم رغم تهديده بقتل المجني عليها، فهل هذا إهمال من الدولة واستخفاف بقضايا العنف ضد النساء؟

والسؤال الأهم هنا، هل الغضب الذي ينصب على وزارة الداخلية سببه عدم معرفة الأفراد بالجهات الأخرى المرتبطة بالمنظومة الأمنية؟ أو عدم رغبتهم في التحدث عن الجهات الحساسة مثل النيابة العامة بصفتها جهازًا قضائيًا؟

يقول الضابط عامر: «منذ 3 أشهر، صدر تعميم داخلي لتحويل القضايا الأسرية إلى النيابة، ولم تعد من اختصاص الشرطة. لدينا شرطة مجتمعية كانت مختصة بهذه المسائل، لكنها الآن أصبحت من اختصاص النيابة، أصبح الإجراء الآن إذا كانت هناك صلة بين المبلغ والمبلغ عنه هو الاتصال بالنيابة قبل تسجيل القضية، وبعض وكلاء النيابة يحاولون تهدئة الأمور بين الطرفين حتى لا تترتب عليها آثار وعواقب أسرية».

لكن هل يحدث هذا للنساء فقط؟

هل هو عنف على الهوية؟

الصورة: Getty - التصميم : منشور

ترى مجاميع من النساء والنسويات المحتجات أن قضايا العنف الأخيرة ليست عنفًا عامًا، ففي جريمة فرح كان السبب في القتل عدم أخذ الشكوى بجدية لكونها امرأة، وفي جريمة شيخة العجمي ضابطة الشرطة التي قتلها أخوها بسبب عملها في الداخلية، هذه جريمة لكونها امرأة لا أمر آخر، وقضية فاطمة العجمي التي قتلها أخوها وابنه لزواجها دون رضاهما لكونها امرأة ولا يجب أن تخرج عن نظام العائلة.

هذه الجرائم لم تكن لتقع لو كان الضحية رجلًا، لن يقتل الأخ أخاه إذا عمل في مجال لا يقبل به، ولن يقتل الأخ أخاه إذا تزوج دون رضاه، ولن يُستهان بشكواه في مركز الشرطة أو النيابة إذا ما كان رجلًا، ولن يخاف التوجه لمركز الشرطة حتى لا يُلام ويضطر للعيش مع معنفه إذا ما كان رجلًا.

وعليه تكمن المشكلة الحقيقية، فالعنف هنا يقع بسبب هوية الضحايا وتحديدًا النساء. الجرائم التي تحدث بحق الرجال هي في الأصل جرائم أصلها مشكلات محددة، وليست مرتبطة بهوية الرجل كونه رجلًا.

مراكز الشرطة: الخصم والحكم؟

مريم (اسم مستعار) كويتية تبلغ من العمر 36 سنة، وترقد في مركز الصحة النفسية، غير متزوجة ولكنها تعنف من قبل أخيها، ولم تتجه إلى مركز الشرطة للإبلاغ عن أخيها الذي يعنفها ويغتصبها أحيانًا ويهددها بالقتل.

تقول لـ«منشور»: «ما أقدر أبلغ عنه بالمخفر لأن كلهم إما أصدقاؤه أو من أهلنا، راح أطلع أنا الغلطانة، فقررت أحمي نفسي وطلبت دخول مستشفى الطب النفسي بدال السجن، حتى يمنعون زيارة أخوي لي ويقولون له أني تحت مخدر إذا حاول يشوفني».

هناك خوف من عدم ثبات الإجراءات وتوحيدها، وتغير التعامل حسب الضابط الموجود وفهمه للموقف.

خوف مريم من الاتجاه لمركز الشرطة هو خوف من المجتمع لكونها امرأة، إذ أنها ترى عدم مهنية بعض رجال الشرطة، واتباعهم للموروث الاجتماعي والواسطات، فيكرس العنف الذي يوجه لها من الأخ ومن الدولة ومن المجتمع على أساس نوعها وهويتها.

لكن خلافًا لذلك يخبرنا الضابط عامر: «مو صحيح، البنت لما تجي المخفر راح ناخذ الموضوع أكثر جدية وأقوى من أن يجي الرجل، لأن ندري أن البنت ما جت المخفر إلا لأنها وصلت حدها، بحكم أننا في الكويت صعب دخول البنت للمخفر، فتؤخذ المسألة بجدية وبسرعة وسرية أيضًا، حتى الضابط الذي يستقبل البنت يحاول أن بقية الشرطة ما يشوفون بطاقتها المدنية، محد يعرفها فيدخلها بسرعة، وينهي البلاغ والشكوى وترحل بسرعة».

هذا التناقض بين مريم وعامر يوحي بخلل في المنظومة الأمنية، فهناك خوف من عدم ثبات الإجراءات وتوحيدها، وتغير التعامل حسب الضابط الموجود وفهمه للموقف، كما أن عدم التقدم لمراكز الشرطة أساسًا يمكن أن يكون مبنيًا على عدم الثقة في الأمن، لسوابق تتحدث عنها النساء مع بعضهن حول الواسطات داخل المخافر، أو تحويل القضية من تهمة لها عقوبة مغلظة قانونًا إلى تهمة أخرى أخف.

وهو ماحدث مع هالة (اسم مستعار)، الفتاة الكويتية التي اعتدى عليها شخص غريب بالضرب في الشارع عقب فشله في سرقتها. وبعد الذهاب إلى المستشفى والحصول على تقرير طبي يثبت آثار الضرب على جسدها، توجهت إلى مركز الشرطة مع أختها المحامية، وإذ بالمحقق يخبرها أن هذا الولد متشبه بالنساء ويتعاطى المخدرات في كثير من الأحيان ويحول للطب النفسي ثم يخرج، فلا داعي لتسجيل قضية.

بقيت هالة وأختها في المخفر ساعات طويلة تحاولان إقناع المحقق بأن القضية اعتداء بالضرب وسرقة بالإكراه، وهي جناية لا يجب أن تتحول إلى جنحة التشبه، وكان الرد: «تريدين تفضحين نفسك بأنه لمسك؟». ما أنهى الساعات الطوال كان اتصالًا من المحامية بوكيل نيابة قريب لها، والذي تحدث مع المحقق وسُجلت القضية وتمت الإجراءات كما يجب.

ولمثل هذه الحوادث تنعدم الثقة في الجهاز الأمني، وتخشى النساء التوجه إلى المخافر.

يتحدث معنا عامر عن خلل في مكان مختلف، فيقول: «بعض النساء لا يعرفن الإجراءات اللازمة، وهذا واجب الإعلام الأمني، لكننا نعاني من مشكلة مع بعض المحامين أيضًا، الذين يتحدثون مع العامة أو مع موكليهم بأن المخافر لن تسجل الشكوى ولا فائدة من تقديمها، فيشاع الحديث عن عدم أدائنا واجباتنا، هذا بالإضافة إلى عدم تفعيل دور الشرطة المجتمعية».

هويات مركبة

الصورة: Getty - التصميم : منشور

تتحدث إلى «منشور» نور (اسم مستعار)، وهي من فئة البدون وتبلغ من العمر 39 عامًا، عن أن «الوضع أصعب علينا مرتين، أولًا لأننا بدون وثانيًا لأننا نساء، وعادي يستغلونا بسبب وضعنا الاجتماعي كفئة مهمشة، فاضطررت أن أصمد وأتحمل العنف لأن مالي حيلة وعندي عيال».

بخلاف الهوية الجندرية، هناك هويات مهمشة أخرى تتقاطع معها، وبالتالي تكون عرضة للعنف بشكل مضاعف، إذ يمكن أن تتعرض النساء للعنف المؤسسي من الدولة والعنف من المجتمع، فيضاف لهويتها كامرأة هويتها الأخرى، مثل حالة نور كامرأة من فئة البدون، أو حالة سيما (اسم مستعار)، وهي عاملة منزلية من الفلبين، والتي تقول لـ«منشور» إن «المباحث الجنائية غير مؤهلين لغويًا ولا يوفرون لنا مترجمًا، وفي الغالب نسجن إذا كانت قضية اغتصاب أو تحرش جنسي من قبل الكفيل، وتتحول إلى قضية بغاء ضدنا، فلا خيار لنا إلا أن نُسجن أو نرحَّل».

لذلك، قد تحتاج وزارة الداخلية لتدريب أفرادها على التعامل مع النساء في الكويت بمختلف هوياتهن على قدم واحدة، دون أن تكون الجنسية أو الطبقة جزءًا من الحكم والتعامل. بالإضافة إلى تسهيل الإجراءات بوجود مترجمين في مراكز الشرطة، أو عدم بدء التحقيق إلا بعد طلب مترجم من سفارة العاملة المتقدمة بالشكوى، بالإضافة إلى توفر ذلك على مدى ساعات عمل مراكز الشرطة.

مشكلات ومطالب

قدمت حملة «عزاء النساء» بالتعاون مع مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني والقوائم الطلابية والتكتلات السياسية، مجموعة من المطالب إلى وزارة الداخلية لتحسين أوضاع التعامل مع شكاوى النساء داخل وخارج مراكز الشرطة.

من هذه المطالب وجود أرقام للشكوى بسرية تسهل على النساء تقديم الشكاوى بسرية، ويشمل ذلك الشهود المبلغين، وتدريب رجال الشرطة على أن يكونوا أكثر مهنية في العمل، والابتعاد عن التعامل مع الموروث الاجتماعي بل اتباع الإجراءات القانونية، والأهم زيادة عدد النساء في الشرطة بشكل أكبر داخل المراكز، وتفعيل دور جهاز الرقابة والتفتيش المختص بمراقبة الضباط والمحققين داخل مراكز الشرطة والتأكد من عملهم بشكل أفضل.

وإضافة إلى ذلك، لا يكمن الخلل في جهة واحدة، وإنما هو خلل مؤسسي يتشارك فيه القطاع الأمني والقضائي. لكن كيف يمكن إصلاح الخلل في النيابة العامة، الجهاز الذي يخشى كثير منا الحديث عنه حتى لا نقع في تهمة إهانة القضاء؟

تحتاج النساء إلى توفير حماية أكبر من الدولة، التي بيدها سلطة تغيير ثقافة المجتمع عبر تطبيق وتشريع القوانين، التي ما أن تخلق مساحات آمنة للنساء فهي تخلق مجتمعًا آمنًا للجميع.

مواضيع مشابهة