الأثر الذي خلَّفه «فندق تشيلسي» في مدينة نيويورك على «فاليري سولانيس» (Valerie Solanas) لم يكن الوحيد الذي دفعها لإطلاق الرصاص على المخرج الأمريكي «آندي وارهول» (Andy Warhol) في 1968.
في النهاية، لم يكن «وارهول» لينال جزءًا صغيرًا من انتباهها، فمثله مثل باقي الرجال في حياتها، نال من كرامتها وكان عليها الانتقام، كان الأمر بهذا الوضوح.
فكرت «فاليري» أن عليها الآن القضاء على تلك الضوضاء التي احتلت مُخيَّلتها. كيف واجهت اعتداء والدها وجدِّها مدمن الكحول عليها جسديًّا في صغرها؟ كيف عاش الأولاد الذين أبرحتهم ضربًا في المدرسة الثانوية؟ ثم هروبها إلى الشارع، شغفها بالنساء، تخرجها في جامعة ماريلاند بتقدير عالٍ في علم النفس.
تصيبها أروقة الفندق بارتفاع في درجات الهيستيريا التي تلازمها منذ زمن، فتتذكر صراخ جنينها الذي أنجبته في سن السابعة عشرة ولم ترهُ بعد ذلك. عليها ألا تستسلم لهذا الطنين في رأسها.
تفكر أن كل الاحتمالات تُفلت من بين يديها، كيف تحتفظ بالقدر الأدني من أي شيء، شيء واحد فقط ليُطمئِن هياج توترها، ثم تعود وتتذكر أنه من الأفضل ألا تحوز شيئًا ينتهي بامتلاكها وتقييدها.
بالعودة لأثر فندق «تشيلسي» في الفن، فقد أنهى الكاتب «آرثر كلارك» (Arthur Clark) في إحدى غرفه رواية «أوديسا الفضاء» الشهيرة، التي تحولت فيما بعد إلى فيلم من إخراج «ستانلي كيوبريك» (Stanley Kubrick)، كما عاش فيه المطرب الأمريكي «بوب ديلان» (Bob Dylan) فترة لا بأس بها، وكتب فيه أغنية (Like a Rolling Stone)، التي يقول فيها: «عندما لا تملك شيئًا، فليس لديك ما تخسره». بطبيعة الحال، كان الأثر قويًّا.
استثمرت قصة حياة «فاليري سولانيس» ظروفًا معقدة لتُسَطِّر أحداثها؛ بدءًا من الانتقال إلى نيويورك في منتصف الستينات، والحياة على التسوُّل والدعارة، ومواصلة كتابة مشروعها «نحو مجتمع من أجل القضاء على الرجال» (S.C.U.M. Society for Cutting Up Men).
كانت نيويورك قد تمكنت من وعي «سولانيس» وأفكارها. عدا ذلك، لم يكن شيء ليهدئ من غضبها الذي تنثره على الأرصفة وتطلق عليه مصطلح «محادثة مدفوعة الأجر»؛ دولار أو اثنان مقابل حديث عابر في الطريق مع أي شخص؛ حتى تتمكن من شراء وجبة غداء أو علبة دخان، أو ربما مضاجعة سادية يطلبها منها أحدهم، فتوافق مستمتعةً بلذَّة التعذيب، من رجل أعطاها لتوه 50 دولارًا مقابل هذا.
الهروب كوسيلة للبقاء
بحلول عام 1967، كانت «سولانيس»، التي ودَّعت عامها الثلاثين، قد انتهت من كتابة قصص قصيرة ومسرحية بعنوان «في مؤخرتك» (Up Your Ass)، تحكي عن بائعة هوى تعادي الرجال وتنتهي بقتل أحدهم. اتجهت بالمسرحية إلى المخرج «آندي وارهول» في مقر عمله الشهير باستوديو «المصنع» في مانهاتن، وطلبت منه إنتاج عملها، ووافق هو على أخذ النسخة الوحيدة التي تملكها «سولانيس» من المسرحية ليطَّلع عليها.
أرادت «فاليري» نشر مسرحيتها، أرادت أن تخبر العالم بنظريتها عن ضرورة القضاء على الرجال.
ظلت «سولانيس» تلاحق «وارهول» في «المصنع» أيامًا عديدة، تظهر في حفلاته وسهراته، تسأله عن المسرحية كما لو كانت ليس لديها شيء آخر في الحياة لتفعله.
اعتاد المخرج أن يسخر منها هو وأصدقاؤه معتبرًا إياها شخصًا مجنونًا، وهي كانت كذلك على الأرجح، إلى درجة جعلتها تتعامل مع الوضع بلا مبالاة تامة. لقد آمنت في أعماقها أنها تملك ما لا يملكه أحد على هذا الكوكب، وأن كل من يتعامل معها لن يرقى لمستواها الفكري. لا يشغل بالها مظهرها الرث أو ملابسها المهلهلة أو سكنها غير الثابت، الذي يكون على الأرجح غرفة غير نظيفة في أي مكان فقير، في أعماقها كانت أَسْمَى من كل ذلك.
ومع هذا، ظلَّت تلاحق «وارهول»، الذي كان يُبدي انشغاله الدائم عنها، وحين هاتفته ذات مرة لتسأله عن الموضوع نفسه أخبرها أنه أضاع النسخة، وعرض عليها العمل كاتبةً في «المصنع»، إلا أنها طلبت نقودًا مقابل المسرحية الضائعة، فعاد ليعرض عليها دورًا في أحد أفلامه القصيرة مقابل 25 دولارًا، ووافقت.
اقرأ أيضًا: أسئلة شائعة عن النسوية
درجة أعلى من الغرور
عندما وضعها «وارهول» أمام الكاميرا كي تؤدي دورًا تجريبيًّا، لم تتكلف عناء تغيير ملابسها الذكورية أو تسريحتها، أو حتى نبرة صوتها العدوانية المشككة في أي شيء والمحتقِرة لأي شخص أمامها.
كانت أفكارها بعيدة عن المخرج ومصنعه الذي يصوِّر فيه أفلامه، أرادت نشر مسرحيتها، أرادت أن تخبر العالم بنظريتها عن ضرورة القضاء على الرجال، وتنظيم الإناث صفوفهن لتنفيذ المهمة، نحو عالم بلا ذكور.
ومن أجل ألا تستسلم لشعورها بالفشل، كتبت «S.C.U.M» على طابعة وورق كاربون، ثم صنعت منه عدة نسخ في إحدى المكتبات مقابل «محادثة مدفوعة الأجر» أيضًا مع صاحب المكان، ونزلت شوارع نيويورك توزع كتابها على الناس مقابل دولار واحد وابتسامة ساذجة.
في كتابها «S.C.U.M» تؤكد «سولانيس» أن على الإناث منع تكاثر الذكور وفقًا لطرق علمية.
بالقرب من فندق «تشيلسي»، الذي سكنه عدد كبير من فناني الستينات في أمريكا، قابلت «سولانيس» الناشر «موريس غيرودياس» (Maurice Girodias)، وطلبت منه أن يدعوها للغداء مقابل أن تقيم معه «محادثة عابرة». أثارت أفكارها وغرورها اللامتناهي إعجاب «غيرودياس»، فوقَّع معها عقدًا لنشر أعمالها القادمة مقابل 500 دولار كدفعة أولى.
فيما بعد، شعرت «سولانيس» أن «غيرودياس» قيَّدها وسيطر على كل أعمالها الجديدة بموجب ذلك العقد.
لاحقتها رائحة المؤامرة، الهيستيريا تعود وتحلِّق فوق رأسها مرة أخرى، الأفكار غير المترابطة، كل الأمور تتداعى، صراخ جنينها الذي أنجبته منذ سنوات، صياح جدها في وجهها واعتداء أبيها عليها وهي صغيرة، هروبها إلى الشارع، كل الرجال والنساء الذين ضاجعتهم في غرف نيويورك، ضياع النسخة الوحيدة من مسرحيتها في مصنع «وارهول»، ثم هذا الناشر يأتي ليثبت النظرية في رأسها: العالم أفضل حالًا بلا رجال. عليها أن تنتقم، عليها أن تكون أول من يضع نظريتها التي تهدف للقضاء على الرجال موضع التنفيذ.
قد يعجبك أيضًا: هل اختلاف سلوك الرجال والنساء بيولوجي أم ثقافي فحسب؟
جريمة قتل مقدسة
في 1968، دخلت فاليري مصنع «وارهول» متزينةً بماكياج نادرًا ما تلتزم به، ابتسمت فطلب منها العاملون المغادرة، واتجه «آندي» ناحية الهاتف. أخرجت المسدس وأطلقت عليه ثلاث رصاصات، أصابته واحدة في صدره، ثم أطلقت النار على الناقد الفني «ماريو أمايو» فأصابته، وحاولت إطلاق الرصاص على «فريد هيو» مدير أعمال «وارهول» لكن المسدس علق.
وجَّهت المحكمة إليها، في يونيو 1968، تهم محاولة القتل العمد وحيازة سلاح دون ترخيص، وأمرت بإيداعها مستشفى للمجرمين المختلين عقليًّا بعد أن شُخِّصت بالفصام. وفي الشهر نفسه، أصدرت دار «أوليمبيا»، التي يملكها الناشر «موريس غيرودياس»، كتابها «المانيفستو»: (S.C.U.M. Society for Cutting Up Men).
ربما حصلت «سولانيس» على مرادها في نهاية الأمر، إذ أثار الحادث فضول الصحافة والإعلام للتعرف إليها. تحدثت تقارير صحافية عديدة عنها، وعن قصة حياتها كامرأة نسوية راديكالية كرست حياتها من أجل فكرة واحدة هي القضاء على الذكور في العالم، بل وشرعت في تنفيذ ذلك نظريًّا عن طريق كتابها، وعمليًّا حين أطلقت الرصاص على «وارهول».
الألوان تعددت وتمددت أمام أنظار «سولانيس» في الستينات، كبيوت مدينة سان فرانسيسكو التي قضت فيها أيامها الأخيرة حتى العام 1988. الألوان تسحبها من يدها صوب السنوات التالية، صوب ما لا تخشاه؛ المجهول، صديقها القديم، لتؤكد تمسكها بكل كلمة كتبتها في «المانيفستو»، وأن الذكر ليس سوى خطأ بيولوجي، جينٌ لم تكتمل صفاته الأنثوية، وأن الإناث عليهن الإطاحة بالحكومة والقضاء على النظام المصرفي والتخلص تمامًا من جنس الذكور، التي رأت أنهم عالقون في منزلة وسط بين القِرَدَة والإنسان.
في كتابها «المانيفستو»، تؤكد «سولانيس» أن الإناث عليهن منع تكاثر الذكور بطُرُق علمية، وهو الأمر الذي ثبت صحَّته فيما بعد من خلال تجارب علمية، تمكنت من الوصول لوسائل حمل دون الحاجة للسائل المنوي، بل وتحديد جنس الجنين كأنثى.
إن الذكور، كما ترى «فاليري سولانيس»، إناث غير مكتملي الأنوثة، وهو ما يجعلهم كائنات غاضبة تسعى للسيطرة على العالم وعلى الإناث بدافع من هذا النقص.