بعض الأشياء، من هنا وهناك، عن الطب النفسي

التصميم: منشور

أحمد جمال سعد الدين
نشر في 2018/11/15

تُفضل الموجة الحالية من الطب النفسي أن تُعرِّف نفسها باعتبارها مجرد فرع آخر من فروع الطب; تخصص لا يختلف كثيرًا عن الجراحة أو الباطنة أو المسالك البولية. لذلك، فإن ما يسري على غيره من فروع الطب يسري عليه بالضرورة.

لا يمكن الجزم إذا كانت هذه الفكرة حاضرة في وعي المؤسسين الأوائل، أو إن كانوا قد ألزموا أنفسهم بها منذ البداية. لكن هذا على الأقل يبدو واضحًا في المراحل الوسيطة من تطور التخصص.

إذًا، يمكن فهم الرغبة الشديدة في الدمج بين التخصصات وتذويب أي فارق نوعي لو وضعناها في سياق رحلة طويلة قطعها الطب النفسي، منذ أدبياته الأولى حتى اللحظة. رحلة تضمنت تمييزًا واضحًا بالفعل، ووصمًا اجتماعيًّا وسياسيًّا، وأحيانًا علميًّا، للطبيب والمريض على حد سواء.

تحمل هذه الرغبة، في جزء كبير منها، إصرارًا على إظهار الجدية والصرامة العلمية، وغرضها الأول تعزيز المكانة والتأكيد على الأهمية بين غيره من التخصصات، وفي المجتمع بشكل عام.

فباعتباره تخصصًا مثله مثل غيره، يتعامل الطب النفسي إذًا مع الأعراض المرضية، ويستخدم أساليب علاجية مبنية على التجربة، فيصبح المرض النفسي مرضًا «عاديًّا»، لا يوجد ما يميزه عن غيره من الأمراض.

لكن الطب النفسي، بالفعل، ليس كغيره من باقي فروع الطب. يتعامل مع أمور مثل الوعي والقرار والحافز، وكذلك أمور أخرى أصعب في تعريفها، مثل الإرادة الحرة واستبصار المرء بنفسه. إضافة إلى ذلك، يمتد تأثير المباشر ومساحة اهتمامه إلى العلاقات البشرية بأشكالها المختلفة. أي إنه تقريبًا يهتم بكل ما يجعل البشر «بشرًا».

هذا التخصص كذلك هو الوحيد الذي يمكن للطبيب فيه أن يجبر مريضًا في مصحة على العلاج، وأن يفرضه عليه بقوة القانون، ويمكنه أن يفصل في حالة المريض العقلية وقت ارتكاب جريمة ما، مقررًا ما إذا كان سيُحاسب كعاقل أو غير عاقل.

يمكن فهم تصاعد نبرة الحديث عن الطب والعلاج النفسي في الوقت الحالي، سواء بالبحث عن جوانب علمية منه، أو انتشار الأساطير الشائعة. تصاعد النبرة يدل على كثير من الاهتمام، وبنفس القدر على الارتباك في التعامل.

يتحدث الناس عن المرض النفسي والطب النفسي باعتبارهما مسألة ذات ارتباط وثيق بالحياة: الضغوط أو الحداثة أو الدين أو علاقات المجتمع ببعضه. والصوت المتردد هنا يوحي بأمور كثيرة. يوحى بتردد حتى في أصول هذا العلم. ويرتبط بأسئلة كُبرى عن ماهية العقل، وما هي حدوده، وهل الجنون مرض في ذاته أم أنه مجرد طريقة أخرى لرؤية الواقع والعالم، وهو أيضاً سؤال عن السلطة: من يملك بالضبط تعريف الجنون؟

هذه ليست محاولة تأريخ أو تفكيك كامل لأحد التخصصات الطبية، أمور كهذه توجد في الكتب، لكنها محاولة لرصد محطات أساسية انطلقنا منها حتى وصلنا إلى هذه اللحظة، علَّنا نفهم ما سيحدث في المستقبل.

الأمر، ككل شيء آخر، يبدأ من اللغة

المحاولات الأولى لخلق مساحة للطب النفسي كانت منذ البداية صراعًا على التعبير واللغة والوصف. أيُّ طائفة من الناس ترغب في تعزيز علاقتها ببعض، أو بشيء ما، ونفي علاقتها  بأشياء أخرى، أوتهدف إلى خلق مساحة، علمية هنا، تبدأ أولًا من اللغة. 

لا نعرف الكثير عن تطوّر المصطلحات الطبية عندما يتعلق الأمر بالطب النفسي. لكن يمكننا أن نفهم أشياء من عالم المصطلحات هذا، لو تأملنا ما وصلنا إليه الآن. 

في عالم الطب النفسي يكون الحديث عن «الوجدان» لا المزاج، ويصبح القلق «اضطراب القلق» أو «الحصر». تُستخدم «الفوبيا» لا الخوف، و«المعرفة» بدلًا من التفكير. هنا يبدو التناقض الأول في ما يتعلق بالطب النفسي. أن موضوعه ومبحثه الأساسي مترسخ ومتجذر في التجربة الإنسانية، لكنه في نفس الوقت مختلف عن هذا، وينفصل عنها جذريًّا بغرض دراستها، ولا يقتصر عليها.

ظهور المصحة

هناك ارتباط بين تاريخ الطب النفسي وتاريخ المصحات النفسية وأماكن العزل، وإن كان ظهور المصحات قد سبق أي محاولات للتعامل العلمي مع المرض النفسي بأكثر من مئتي عام.

أول ظهور لمصحات نفسية تتعامل مع المرض النفسي بتسامح كان على يد «جون كونيللي»، الذي طرح فكرة العلاج دون تقييد المرضى.

اعتزل الناس المرضى النفسيين، الذين لم يكونوا بالطبع وقتها مرضى نفسيين، بل مجانين فقط، بأشكال مختلفة. دُفِعوا دفعًا إلى الهامش، وأُبعدوا عن المساحات الاجتماعية، واقتصرت العناية بهم على ما توفره لهم أسرهم والمحيط الاجتماعي الأقرب.

في عام 1685، كان الظهور الأول للمصحة مساحةً للعزل. كان ذلك في مصحة «بيدلام»، على حدود لندن في إنجلترا، التي تعد أول مصحة نفسية في التاريخ.

يبدو أحيانًا وكأن الوعي بفكرة المصحة النفسية عند كثير من الناس قد توقف هنا. بالفعل، لم تكن هذه المصحة ومثيلاتها التي انتشرت بداية من هذه اللحظة أكثر الأماكن راحة بالنسبة إلى المرضى. يمكن فهم هذا من خلال استيعاب حقيقة أنها كانت مخصصة في البداية كأماكن إيواء للمشردين، بشكل يتبع كنيسة «بيت لحم» في إنجلترا، التي جرى تحريف اسمها في البداية إلى «بيدلام»، بعد استقبالها «المجانين» وانتشار كثير من الشائعات والأساطير حول ما يحدث فيها.

التنصل كان على مستوى اللغة أيضًا على ما يبدو. رأت الكنيسة أنها لا تريد ربط اسمها بهذه المصحة بأي شكل، فغيرت الاسم.

كانت المصحات وقتها أماكن احتجاز لا علاج. لا يوجد ما نعالجه أصلاً هنا، يوجد فقط ما يجب السيطرة عليه وإبعاده عن المجتمع والناس. الأمر الذي يرفع أي حقوق عن هؤلاء المحجوزين. ويجعل استخدام  العنف والقوة، وحتى معاملة المودعين كحيوانات لا كبشر أمراً عادياً. 

استغرق الأمر نحو مئة عام تقريبًا حتى أول ظهور لمصحات تتعامل مع المرض النفسي بدرجة ما من التسامح، على يد «جون كونيللي»، وهو طبيب نفسي بريطاني وُلد في 1794، وطرح لأول مرة فكرة العلاج دون تقييد حركة المرضى، سواء عن طريق السترات المعدنية أو الأغلال. واستخدام عدد من طريق التدريب والتعليم، وطرح فكرة العزل وسيلة للتهدئة لا العقاب.

بدت محاولات كونيللي ثورية في وقتها، لدرجة أن أحد الأطباء الزائرين من أمريكا رأى فيها قدرًا كبيرًا من التساهل، وأن الطبيعة الهادئة للمريض الإنجليزي لا بد أنها لعبت دورًا في نجاح هذه التقنية، لأن المريض الأمريكي لن ينجح معه التعامل بهذه الطريقة.

الطب النفسي تخصصًا

كان الإشراف الطبي على المصحات النفسية مقتصرًا على إدارة شؤون المصحة دون محاولة العلاج. ما زلنا هنا نتعامل مع المرض النفسي باعتباره جنونًا، وبالتالي، لم يكن دور الطبيب المشرف على هذه المصحات إلا أن يتأكد من سلامة النزلاء، والإشراف على حالتهم الصحية العامة، ثم السماح للمريض بمغادرة المستشفى لو أظهر تحسنًا بشكل ما.

لم يكن هناك تدريب طبي يُلزم أن يكون المرء طبيبًا مشرفًا على المصحات. لو كنت طبيبًا مهتمًّا بالمرض العقلي، يمكنك ببساطة أن تذهب إلى هناك، وأن تتعلَّم بشكل مباشر.

في عام 1840، أسس مجموعة من هؤلاء المشرفين على المصحات أول تجمُّع طبي من نوع ما يهتم بأمر الطب النفسي: اتحاد المشرفين الطبيين على المصحات العلاجية في بريطانيا.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ازدهر العلاج النفسي وطرقه البسيطة بشكل ملحوظ في الوعي الطبي بين الناطقين باللغة الألمانية في أوروبا، على عكس دول أوروبية أخرى مثل فرنسا مثلًا. وبشكل متزامن، لوحظ تطور حقيقي بشكل منفصل في عدد من البلدان الألمانية، مثل ميونخ وبرلين وفيينا وزيورخ.

في هذه المدن ظهر الآباء المؤسسون للطب النفسي الحديث: «فيلهلم غريزنغر» و«موريل» و«آلزهايمر» و«بلولير»، ثم اثنان من أهم الأسماء في تاريخ الطب النفسي: «سيغموند فرويد» و«كارل يونغ».

حصل أول أستاذ في تاريخ الطب النفسي (غريزنغر) على شهادته في برلين عام 1864، ويمكننا مقارنة هذا بحقيقة أن أول أستاذ في تخصص الطب النفسي في بريطانيا حصل على شهادته عام 1948، لنعرف حجم السبق الألماني في هذا السياق.

سيغموند فرويد: هنالك وعي ولاوعي

لا توجد قصة عن العلاج النفسي يمكنها أن تتجاهل فرويد، سواء كانت تراه عبقريًّا أو مريضًا مهووسًا. في جميع السرديات، يهيمن فرويد.

اضطر سيغموند فرويد إلى ترك مجال دراسته المفضل (علم الأعصاب) ليتمكن من تدبير نفقات الزواج، الأبحاث التي كان يجريها لم تكن ذات مردود مالي يسمح له بالإنفاق على بيت، لهذا لم يكن يملك خيارات أخرى غير اللجوء إلى ممارسة الطب النفسي، بدلًا من البحث العلمي في جامعة فيينا التي كان يقضي فيها وقت فراغه في تشريح الجهاز العصبي لثعابين البحر، لم تعد هناك مساحة لتشريح ثعابين البحر، أصبح عليه الآن أن يؤسس عيادة يعالج فيها المرضى.

في عيادته الخاصة، طوَّر فرويد أسلوبًا فريدًا في العلاج النفسي، عن طريق الفحص المتمحص في تاريخ مرضاه الذين كان يقضي معهم ساعات طويلة، أطلق عليه اسم «التحليل النفسي» (Psychoanalysis).

يبدو أن فضول الباحث لم يفارقه قط، فقد كان يتعامل مع نفسه باعتباره عالِمًا يستكشف النفس البشرية، بنفس القدر الذي يعالج به مرضاه. كان فرويد، للمفارقة، واحدًا من الأطباء النفسيين الأوائل الذين رأوا أن الدواء سيكون علاج الطب النفسي بشكل أساسي.

لا توجد قصة عن العلاج النفسي يمكنها أن تتجاهل فرويد، سواء كانت تراه عبقريًّا أو مريضًا مهووسًا. في جميع السرديات، يهيمن فرويد، حتى بعد كل هذا الوقت، وبالاختلاف العنيف معه ومع أفكاره. غيَّر كثيرًا في الطريقة التي يرى بها العالِم نفسه، وكيف يتعامل مع أمراض العقل.

خلال 50 عامًا، كتب فرويد أكثر من 24 كتابًا عن الطب والنفس والتحليل النفسي. يمكننا دائمًا أن نرى تأثُّره الشديد بالنماذج العلمية التي ظهرت وقتها، تحديدًا كتاب داروين عن «أصل الأنواع».

لو أننا نتعامل مع الإنسان، والجنس البشري بأكلمه، باعتباره منتجًا للطبيعة لا مخلوقًا متجاوِزًا، فإن العقل يتوقف عن كونه ميزة يتفرد بها الإنسان، ليصبح مسألة خاضعة للبحث العلمي، ويجب وضعه على طاولة التجريب.

يمكن كذلك ملاحظة تأثر فرويد بأفكار «الديناميكا الحرارية»، التي ظهرت في القرن التاسع عشر وهيمنت على السياق العلمي وقتها، والتي تقول ببساطة إن الطاقة لا تفنى أبدًا، لكنها تتحول من شكل إلى آخر.

استخدم فرويد هذا المجاز للتعبير عن نظرياته في الكبت. الأفكار التي لا نريد التفكير فيها لا تختفي، بل تذهب إلى مكان آخر في عقولنا، مكان غامض مخيف اسمه «اللاوعي». تتصارع في هذا المكان الأفكار والذكريات والمخاوف والرغبات التدميرية، بعيدًا عن العقل البشري، لكنها في هذا الصراع، وعندما يصبح من المستحيل السيطرة عليها، تخرج إلى السطح مسببة عددًا من المشكلات.

رغم أن أفكار فرويد أصبحت أقرب إلى التاريخ الآن، فإنه يمكن ملاحظة آثار لها في كثير من الأساليب العلاجية التي لا تزال مستخدَمة في الطب النفسي. «العلاج الديناميكي» مثلًا، الذي يعتمد على الحوار بين الطبيب ومريضه.

ربما سيظل فرويد في اللاوعي الحديث إلى الأبد.

أول نموذج طبي (الطب النفسي الحديث)

يمكننا أن نؤرخ لعصر نهاية المصحات ببدايات عام 1920، مع تصاعد الاهتمام بالطب النفسي بعد الحرب العالمية الأولى، وظهور الحاجة إلى علاج المصابين بالصدمة العصبية من الجنود الذين عادوا من الحرب.

في تلك الفترة، كان قد بدأ يظهر بالفعل عدد من الأساليب العلاجية التي أثبتت نجاحًا ما. وهذا النجاح تسبب في تغيير النظرة إلى المرض النفسي ذاته.

إذا كان هذا «الجنون» يتحسن بالفعل عند استخدامنا الدواء، فربما ليس جنونًا، بل يناسبه أكثر أن نطلق عليه «المرض النفسي». عندها، تتحول المصحات من أماكن احتجاز وعزل إلى مستشفيات نفسية تستلزم إجراءات طبية، حتى لو لم نكن نعرف بعد ما هي الإجراءات بالضبط.

تضمنت هذه الإجراءات العلاجية أمورًا غرائبية في طبيعتها بعض الشيء، يمكننا أن نحدد أسلوبين علاجيين بشكل أساسي في هذه المرحلة:

  1. استخدام الملاريا لعلاج الاضطراب العصبي الناتج عن الزهري
  2. العلاج بالصدمات الكهربائية

«فاغنر غوريغ» كان الطبيب النفسي الأول (من اثنين فقط) الذي حصل على جائزة نوبل، وذلك عن جهوده في علاج الزهري الدماغي بواسطة الملاريا.

قبل أن تكون هناك علاجات ناجحة للزهري، أظهر عدد من المرضى تأثرًا كبيرًا في حالتهم العقلية، خصوصًا في مراحل حياتهم الأخيرة. كان ظهور الأعراض عادة دراميًّا وعنيفًا في تأثيره. أشهر من أصيب به الفيلسوف الألماني نيشته. تأثُّر الحالة العصبية كان أمرًا شديد الصعوبة وثقيل الوطأة.

تكوَّن علاج غوريغ بالأساس من حَقن مرضى الزهري بطفيليات الملاريا، ثم مراقبة التأثير تحت عناية فائقة بينما تبدأ الحمى، مع تكرار هذه العملية لمدة 12 دورة، ثم يمكن بعدها علاج الملاريا بالكينون العادي.

كان هذا العلاج شديد الخطورة، لكن لم يكن هناك بديل أصلًا.

علاج الملاريا هذا كان أمرًا شديد التقدم في تلك الفترة من التاريخ، واستعاد الثقة في الطب النفسي بشكل ما، وأبرز قدرته على التعامل مع الحالة العقلية بعلاج طبي عادي.

العلاج بالصدمات الكهربائية

ظهر العلاج الكهربائي ذو الجرعات الضعيفة عام 1938، حين بدأ الطبيب الإيطالي «أوغو سيرليتي» في استخدام الكهرباء للتعامل مع مرضى يعانون الفصام. كانت النتائج مثيرة للتأمل، فبينما تسببت الجلسات في تهدئة كثير من مرضى الفصام، كانت نتيجتها الأهم علاج المرضى الذين يعانون الاكتئاب، إذ أظهر عدد منهم تحسنًا ملحوظًا بعد هذه الجلسات.

بالطبع، يبدو هذا التصور شديد الصعوبة بمنظورنا الآن. لكن علينا أن نتذكر أن هذا كان عام 1938، وأن غالبية المرضى النفسيين الذين كانوا يدخلون المستشفيات كانوا يقضون حياتهم بالكامل فيها.

ما زلنا لا نعرف بالضبط السبب الذي يجعل من هذا العلاج تقنية ناجحة، لكنها تظل كذلك رغم عدم معرفتنا السبب، ما يفسر استمرار استخدامها حتى هذه اللحظة، رغم سمعتها السيئة التي عادة ما تستمد سطوتها من تأثير الدراما وتصويرها في صورة أداة تعذيب.  

الثورة الدوائية

مثل عدد من أهم الاكتشافات في التاريخ، كان العثور على تأثير «الكلوربرومازين» الدوائي في الناحية النفسية مصادفة بالكامل.

أحد اختصاصيي التخدير الفرنسيين، في بداية عام 1933، لاحظ أن استخدام هذا الدواء بعد العمليات الجراحية يُهدئ مرضاه دون أن يخدرهم أو يفقدهم الوعي بشكل كامل.

التقط هذا الخيط، بعدها بنحو عشرين عامًا، اثنان من الأطباء النفسيين: «جان دولاي» و«بيير دينيكير»، وكلاهما فرنسي الجنسية، وبدءا في إجراء التجارب المعملية والسريرية على الدواء في مستشفى سانت آن الباريسي، وأصابتهما النتائج بحالة من الذهول.

عند تجربة الدواء على المريض العاشر، سجَّل العالمان، بشكل منفصل، شعورهما بأنهما على أعتاب اكتشاف غير معتاد. كانت حالات المرضى تتحسن بمعدلات ملحوظة، ويصبح من الممكن استعادتهم من نوبات المرض، ولو لفترات. خلال الخمسينيات، أصبح الكلوربرومازين أحد أهم خطوط العلاج النفسي الدوائي في العنابر المرضية.

التأثير المباشر الأول في ما يتعلق بهذا الدواء، حسب وصف كثير من أطباء تلك الفترة، أن حالة العنابر نفسها أصبحت أكثر إنسانية.

أمكن لطاقم الرعاية الصحية في المستشفيات أن يعرفوا أكثر عن حالة مرضاهم (الذين سمح لهم الدواء بتحييد المرض بعض الشيء) باعتبارهم عاديين لا مرضى. عندها، تحوَّل هدف العلاج إلى التفاعل مع المريض، لا السيطرة عليه وتهدئته تحت العقاقير المخدرة.

الأدبيات المسجَّلة من تلك الفترة تُظهر حالات من الدهشة على طاقم التمريض. فجأة، اكتشفوا أن هؤلاء الأفراد الذي يُحدِّثون أنفسهم طيلة الوقت، ويتشاجرون مع كائنات غير مرئية، ويصرخون دون سبب، عندما يتعاطون الدواء يعودون إلى هيئة أكثر إنسانية وقدرة على التفاعل، بل ويتبادل بعضهم محادثات عادية في حالات بعينها.

خلال السنوات الخمسين الأخيرة، ظهرت مجموعة واسعة من الأدوية النفسية تتشابه في الفاعلية، وتختلف بشكل واسع في أعراضها الجانبية.

امتد التأثير الدوائي كذلك إلى المساحات الاجتماعية نفسها. بوجود الدواء، أصبح بإمكان المرضى أن يخرجوا من المستشفى تحت رعاية أهلهم، بل بدأ التفكير في فكرة ثورية وقتها اسمها «إعادة التأهيل». أصبح بالإمكان تخيل حياة للمريض العقلي خارج أسوار المستشفى.

اقتصر العلاج الدوائي في البداية مع الحالات الحرجة والعنيفة. لكن بحلول 1970، لاحظ الأطباء أن المرضى يُظهرون تحسنًا ملحوظًا لو استمروا على العلاج، بشكل يمنع تكرار النوبات العنيفة والمتكررة.

هذه لحظة ظهور مصطلح «العلاج المداوم» (Maintenance therapy)، الذي يهدف إلى الحفاظ على المريض من المرض المزمن حتى في حالة عدم ظهور أعراض، تحسبًا لأي نكوص محتمل.

بدءًا من تلك اللحظة، وخلال السنوات الخمسين الأخيرة، ظهرت مجموعة واسعة من الأدوية النفسية، تتشابه في الفاعلية، لكنها تختلف بشكل واسع في أعراضها الجانبية.

الأدوية الأولى كانت تتسبب في بعض حالات التصلب وتيبُّس العضلات، أما الحديثة فيقتصر تأثيرها على بعض الزيادة في الوزن. وتتوفر الآن أدوية تُحقَن في الوريد أو العضلات، وعلى فترات متباعدة نسبيًّا، تسمح للمريض بالابتعاد عن الأقراص والحبوب.

لم يقتصر عالم الأدوية النفسية على أدوية الأمراض العقلية ثقيلة الوطأة، لكن النجاح في هذه المساحة شجَّع على الاستثمار في البحث عن أدوية تتعامل مع أمراض مثل الاكتئاب والقلق.

عند اختيار الطبيب الدواء بعناية، ومتابعة تأثيره عن قرب، تتحسن الغالبية العظمى من المرضى.

حتى عام 1958، لم يكن هناك علاج أنجح من جلسات «تنظيم كهرباء المخ» (ECT)، لكن هذا تغيَّر بظهور مضادات الاكتئاب. أصبح بإمكان المريض الآن التعامل مع شكل دوائي آخر للعلاج، وبتأثير يدوم لفترات أطول.

من المهم هنا أن ندرك أنه، رغم أن العلوم الدوائية استطاعت تطوير عدد من العقاقير والأدوية لكثير من الأعراض المختلفة، فليست هناك حلول سحرية حتى الآن.

لا يوجد دواء قادر على شفاء أعراض كل المرضى. تأثير الدواء العلاجي يتفاوت من مريض إلى آخر بالفعل، بل في حالة المريض نفسها في أوقات مختلفة.

لكن الجانب المضيء من حكاية الدواء الطويلة هذه أنه عند اختيار الطبيب الدواء بعناية، ومتابعة تأثيره عن قرب، تتحسن الغالبية العظمى من المرضى.

الطب النفسي، مثل أي فرع من فروع الطب، نشاط براغماتي يهدف إلى حل المشكلة وتوفير العلاج. إنه يقطع أشواطًا طويلة من التطور.

مثل أي تخصص آخر، لكن ليس تمامًا

يصعب الإجابة عن سؤال التشابه والاختلاف بين الطب النفسي وغيره من التخصصات بالفعل.

يختلف الطب النفسي عن غيره من التخصصات من حيث طبيعة العلاج ودرجته ومساحة التدخل، إضافة إلى طرق التشخيص المعتمدة بالكامل على المقابلة بين الطبيب والمريض، لكنه أيضًا يلتزم بالمعايير العلمية التي على أساسها يطور تشخيصات ويضع علاجًا دون آخر. يصعب الإجابة عن السؤال، وربما ما يهم أن نتائجه تثبت نجاحًا.

التخصصات مختلفة عن بعضها، يعرف هذا أي ممارس للطب. الطريقة التي يتعامل بها طبيب الجراحة غير التي يتعامل بها أطباء الأمراض الباطنية. كلٌّ يرى الأشياء بعين طبعه، وكل تخصص يتعامل بالفعل مع المرض بشكل مختلف عن غيره، وبأنماط يسهل أو يصعب تمييزها، لكنها موجودة.

هذه مسألة ليس لها حل، وربما ستظل جزءًا أصيلًا من تكوينها.

***

في المشاهد الأخيرة من آخر أجزاء سلسلة روايات «هاري بوتر»، يقول السيد «دمبلدور»، الشيخ ذو اللحية الطويلة: «بالطبع يحدث هذا في دماغك يا هاري، لكن ما الذي يجعله غير حقيقي؟».

مواضيع مشابهة