أفاضت وفاة رئيس الجالية الإيفوارية في تونس، «فاليكو كوليبالي»، في ديسمبر 2018، كأس صبر العديد من السود الأجانب. حَنَق كثيرون منهم لسماع تفاصيل الجريمة التي ارتُكبت في حق أجنبي أسود، يُهْضَمُ حقّهُ في الحياة بسبب لون بشرته في هذا البلد الإفريقي.
دفعهم الأمر إلى التظاهر في شوارع تونس في 25 ديسمبر من العام 2018، منددين بما يحصل لهم ولأترابهم من عنف يكاد يكون مُمَنْهَجًا، مطالبين بمعاملة بالمثل تضاهي تلك التي يتلقاها التونسي القاطن في شتى بلدان جنوب الصحراء. وإن لم ينعم السود الأجانب بالعيش دون تنغيص العنصرية المصرحة ضدهم، إلا إن الوضع لم يسبق وأن تفاقم لهذه الدرجة الدامية التي وصل إليها اليوم.
قد يتساءل المرء عن سبب هذه النزعة، ماذا دهى التونسيين يا ترى؟ هل هو إحباط ما بعد الثورة، وصار العنف ضد السود متنفسًا للتعبير عن الحنق من الأوضاع المتردية في البلاد؟ هل هي نزعة شوفينية ترمي لعلوية التونسي عمّن هم من جنوب القارة؟ لكن هل التونسي أبيض حتى يترفع عن أبناء القارة الأدكن منه ببعض الدرجات؟
لحظة، من هم الأفارقة؟
قد تسرف الدولة في مماطلتهم بِاستخدام بِيرقراطيتِها الخانقة، تعطل حصولهم على إقامة وهم القادمون بصفة شرعية طلابًا وموظفين، وقد يرفضهم المجتمع وينهكهم نفسيًا بعنصرية فجة فيرفض الاندماج والتواصل معهم بصورة قد تصل حتى عرقلة مدِّهم بسكن، لكن الموجة الجديدة من العنف قد فاقت كل تصور.
ما حصل لفاليكو، وإن كان الأول من نوعه، إلا إن حوادث العنف هذه باتت في تزايد ضد السود القادمين من بلدان جنوب القارة الإفريقية. ناهيك بحوادث الاعتداء اللفظي والتنمر المتكررة ضد السود في تونس، مثل ما حدث مع الطفلة ذات البشرة السوداء من تنمر زميلاتها وإهانة معلمتها لها في الفصل، حتى وصل الأمر إلى أن طلبت منها المعلمة خلع حذائها وشمه. تلك العنصرية اتخذت منحى أكثر جرأة وعنفًا مما كانت عليه في السنوات الأخيرة بعد الثورة التونسية.
في أواخر شهر ديسمبر 2016، وقع اعتداء بسكين على ثلاثة طلاب (فتاتان وشاب) من الكونغو، في وضح النهار وأمام مرأى الناس في قلب العاصمة التونسية. أما في صيف نفس العام فقد اعتدى نادل على تونسي أسود يُدعى جمال الكسيكسي، في نزل بالمهدية شرق البلاد.
هذه الأحداث العنصرية بدرجة أولى تثير أسئلة متعددة عن مدى إدراكنا، نحن التونسيون، لموقع هذا الوطن الصغير من القارة الإفريقية، التي تحتويه وتحيط بمعظم جوانبه.
من الأفارقة في مخيلة التونسيين؟ وهل نحن معنيون بهذه التسمية؟
الإجابة قد تكون صادمة، لكنها بديهية. فإني، وإن كنت أعي تمامًا هذا التشظي الهوياتي وأرفضه، إلا إنني لن أنزه نفسي من الوقوع في فخ الخطاب المخضب بالوعي الاستعماري. أنا أيضًا قد يزل لساني أحيانًا حين أنعت سود جنوب الصحراء بالأفارقة وأنا السوداء التونسية. وكأنني لست بإفريقية، وكأن تونس تطل علينا من شمال البحر الأبيض المتوسط، لا من جنوبه الإفريقي بامتياز.
إثر الاعتداء بالعنف على طلبة سنغاليين عام 2014، ذكَّر المعتدون الطلبة بأنه قد «آن الأوان كي يعود السود إلى بلدهم الأم إفريقيا، فعهد بن علي قد ولى». مضمون هذا التذكير مثير للسخرية والدهشة في آن واحد، فهل هناك بلد يُدعى إفريقيا؟ كيف يعود الأفارقة إلى إفريقيا وهم فيها، أو بالأحرى في شمالها؟ هذا التذكير لا يحيل إلى العنصرية الصريحة فقط، وإنما هو انعكاس لانحرافٍ ما في فهم التونسي لاسم القارة ومكونها الاجتماعي وموقع تونس منها.
يتضح أن إفريقيا بالنسبة لكثير من التونسيين مكان واحد متشابه استشرى فيه الوباء والفقر، مكان ذو مكون اجتماعي أسود متماثل غارق في التخلف، يندرج ضمن الصورة التي صنعها المستعمر عن القارة السوداء. حتى الصحف وبعض المواقع الإعلامية المرموقة في تونس اليوم تقع في هذا الخلط وهي تعنون تقاريرها عن موضوع العنصرية، فتصف الطلبة السود الأجانب بالجالية «الإفريقية» مرارًا.
تشمل الأزمة حتى النخبة التي وُهبت عينًا ثاقبة وتفكيكية في فهم الأمور وتحليلها. ففي مقاله عن «مظاهر العنصرية في بلد التسامح والحرية: تونس»، يتماهى الروائي كمال الرياحي مع ذلك الخلط. يكتب عن العنصرية مستنتجًا أن الأمر يَمَس كلًا من «الأسود التونسي والأسود الإفريقي»، منسجمًا مع ما اعتادت النخبة والعامة نعت السود الأجانب به، دون مُساءلة أو نقد لتلك التعابير التي تعكس الفهم الإشكالي للذات التي تسحب نفسها من هذه الـ«إفريقيا»، وتشكل نفسها بمعزل عن جغرافيتها.
هل تعي النخبة التونسية مدى إشكالية الانزلاق نحو هذه المفاهيم المغلوطة؟ وهل تدرك كيف تترجَم تلك العبارات إلى نظرة مشوشة للهوية الإفريقية عامة؟
أزمة الهوية: أفارقة أم مغاربة؟
رغم موقعها الجغرافي المتجذر في القارة الإفريقية، فإن امتداد تونس المتوسطي والشرق أوسطي يكاد يجتثها من مكانها ويُغيب البعد الإفريقي لهويتها. حتى دستورها الأكثر تقدمية، بوصف الأغلبية، ينكر هويتها الإفريقية ويتماهى مع تسميات ومفاهيم استعمارية بحتة تستأصلنا ضمنيًا من القارة.
تونس، حسب دستورها الجديد الذي صودق عليه عام 2014، بلد عربي اللغة، دينه الإسلام. هكذا جاء التعريف في الفصل الأول من الدستور. أما الفصل الخامس فيبلور موقع تونس الجغرافي كجزء من المغرب العربي الذي، حسب محتوى الفصل، تعمل تونس على «تحقيق وحدته وتتخذ كافة التدابير لتجسيمها».
يحيل هذا إلى تأصل مشكلة مفاهمية تمتد جذورها لفترة الاستعمار، الذي ما فتئ يعمق الهوة بين بلدان شمال إفريقيا وبقية القارة، ويؤسس لوجود تونس ضمن مجال جغرافي شبه مُركب يدعى المغرب العربي أو «إفريقيا الأوروبية»، كما أسماها الفيلسوف الألماني هيغل في كتابه «محاضرات في فلسفة التاريخ».
اسهب هيغل في تعيين حدود الإفريقيات الثلاثة: الآسيوية التي تضم مصر، والأوروبية التي تجمع دول ما يُعرف بالمغرب العربي، وتلك الأصيلة أو إفريقيا بعينها، أي بلدان جنوب الصحراء السوداء البعيدة عن المتوسط ودول المركز الأوروبية.
ها نحن اليوم نخطو وراء الرصين هيغل وننعت القادمين من جنوب الصحراء بالأفارقة الأحرار، وننسى أننا بهذا نفصل أنفسنا عنهم، مؤمنين بعلوية ترسبت من بعض ممارسات العبودية التي مارسها أسلافنا على ساكني بلاد السودان والحبشة قديمًا، وتشكلت ببقايا خطاب الاستعمار الذي انصعنا لسلطته، فأوهمنا بالانتصار لنا، وأدرجنا في موقع أرفع من مكانة مستعمراته جنوب الصحراء.
يبقى الجانب اللغوي عاملًا مهمًا في تعميق الهوة بين بلدان شمال القارة الناطقة بلسان عربي وجنوبها، وإن كانت كل هذه الأبعاد الهوياتية المترامية الأطراف تثرينا وتميزنا، فإننا قد لا نَعدل في احتفائنا بها بالتساوي.
لا يخلو سلوك العنصريين من التونسيين تجاه السود من الموجَّه ضد مواطنين أيضًا من احتقار وتمييز سلبي، فحادث الاعتداء اللفظي على غفران بينوس، مضيفة الطيران التونسية ذات البشرة السوداء، وغيرها من الحوادث التي طفت على السطح بعد انهيار نظام بن علي، ما هي إلا دليل على تشابه الفريقين السود الأجانب والسود التونسيين في مصابهم.
قد لا يلاقون نفس المعاملة التي يلقاها الأسود الأجنبي، بسبب تموضعهم الجغرافي المتمركز بعيدًا عن العاصمة التي تتسم بدرجة أعلى من انتشار العنف، إلا إنهم لا يزالون يرزحون أسرى لموروث العبودية الثقيل. يستمر نعتهم بـ«الوصيف» و«الشوشان» و«الخادم»، وغيرها من التعبيرات التي لكثرة تداولها صار معناها متصلًا بالسواد، وتظنها الأغلبية مرادفة للون الأسود، فتسهب في استعمالها دون أي حساسية لوقعها في النفوس.
هذا الارتباط بمعنى السواد وصل برئيس البلاد، الباجي قايد السبسي، لوصف جنوب إفريقيا بـ«الوصفان» في مقابلة له مع قناة حنبعل التونسية في أكتوبر 2012، دون أي حساسية أو تقديم أي اعتذار، وهو المصطلح الذي يعني بلاد السود. بالنسبة للباجي قايد السبسي، مر الأمر وكأنه لم يكن.
على مواقع التواصل الاجتماعي، نددت مجموعة من السود الناشطين ضد العنصرية بتلك اللامبالاة بخرق قواعد اللياقة السياسية في اختيار السبسي لألفاظه، غير عابئ بمشاعر مواطنيه السود أو سكان بلدان جنوب الصحراء، الذين نعتهم ضمنيًا بالعبيد في وصفه لهم بالوصفان. وإن خلت نواياه من خبث أو عنصرية صريحة، فهو أيضًا مجرد عينة من المجتمع الذي يخلط بين اللون الأسود وصفة العبودية، التي لا تزال ملتصقة اليوم بالسود في تونس.
محاولات ومبادرات
جهات متفرقة في قطاعات الإعلام تحاول تطبيع الأسود كمكون متجانس مع النسيج الاجتماعي التونسي، مثل أغنية أسماء عثماني لمناهضة التمييز، عدا الحرص على وجود السود أكثر في بعض المسلسلات، وإن لم تخلُ أدوارهم من التصوير النمطي مثلما يصور مسلسل «جنون القايلة»، إذ تلعب المرأة السوداء الوحيدة في المسلسل دور الخادمة.
وفي التعليم، أدرج المركز الوطني البيداغوجي بمعية وزارة التربية صورًا لأطفال سود في كتاب السنة الأولى من التعليم الأساسي، ويمثَّل السود في صفحات متعددة من الكتاب. هناك تمثيل لمختلف أنواع الشعر ودرجات ألوان البشرة بكامل الملحق.
لكن تلك المبادرات أتت في الأغلب رد فعل على أحداث مست السود، خصوصًا بعد تأسيس منظمات للدفاع عن حقوقهم، مثل جمعية «آدم للعدالة والمساواة» المنحلة، وجمعية «منامتي».
أما الإعلام التونسي فيلوك نفس المواضيع التي تفضل طرح ذات الأسئلة البدائية، التي لا تزال تتساءل عما إن كنا نعاني من مشكلة العنصرية في تونس اليوم أم لا.
يُطرح الموضوع في المجمل بطريقة «مناسباتية»، إذ يتضح وجود السود التونسيين في حال تعرض أحدهم للعنصرية. أما في الأيام العادية فقد يطول غيابهم وتغييبهم عن المشهد الإعلامي، لدرجة تجعل ظهور مذيع نشرة جوية أسود على قناة تونسية حديث مواقع التواصل الاجتماعي، التي لا يسعها إلا الاحتفاء بهكذا خطوة، راجيةً أن تتحلى النخبة بإرادة سياسية لترسيخ مبادئ احترام الآخر، وتخرج السود التونسيين من التغييب الشبه ممنهج لهم من الحياة العامة والسياسية.
قضى رئيس الجالية الإيفوارية فاليكو كوليبالي نحبه متأثرًا بجراحه، بعد تعرضه لاعتداء بعشرين طعنة بسلاح أبيض في الحي الذي يقطنه في العاصمة، بعد رفضه الانصياع لأوامر معتدين أرادوا سلبه متاعه.
ربما لا تكون دوافع جريمة القتل هذه عنصرية كما يرمي كثير من المتفاعلين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يتسم الوضع عمومًا بتزايد معدل الجريمة، خصوصًا مع الأوضاع السياسية الراهنة. لكن لو سلمنا بأن ما حدث ليس عنصريًا صرفًا، فإن الإقدام على إلحاق كمية الضرر المفرط، وغير المتكافئ مع ما كان يملكه كوليبالي من متاع، لا يمكن أن يكون ألا تجسيدًا لرخص أرواح بني لونه.
التقارير التي تلت الحادث أكدت أن المجرمين لم يسلبوا الضحية هاتفه إلا بعد قتله. هذا الفعل يثبت بخس قيمة حياة الأسود الوافد في عقلية التونسيين، التي لا تعطي القيمة ذاتها لمن هم ليسوا على نفس درجة البياض كما يظن التونسيون أنفسهم. إنها عقلية ضمان الإفلات من عقاب إهدار حياة الأسود، إذ لا قيمة لها. فبتأكُّد تهميش تلك الأقلية الأجنبية وعدم السماع لشكاويها عند رفعها للسلطات، يسوغ للمجرمين استهدافهم بالذات لأمانهم من العقوبة.
رد فعل صناع القرار والشعب بعد انتشار خبر وفاة كوليبالي يميل حتمًا لعزل الجريمة وتصنيفها في عداد الجرائم العادية التي قد تمس أي مواطن تونسي. هل سيتجرأ هؤلاء بتصنيف جريمة ضد أبيض أوروبي في تونس على أنها حادث عادي؟ هل سيتغاضون عنها؟
هذا الموقف السلبي لا يبدو فقط مشكَّلًا بثقافة إنكار العنصرية التي ينزه التونسيون أنفسهم عنها، بل يفضح مدى الكره المبطن ليس للأسود فقط، بل للذات أيضًا. فاللامبالاة بأي مكروه أو مصاب قد يحل بمن هو غير أبيض، بمن فيه التونسيين، لا ينم إلا عن مدى بخس أرواحنا في لاوعينا. هذا الوضع عامة ليس مقتصرًا على تونس، وإنما هو شائع في الجنوب العالمي، حيث الاستخفاف بأرواح يندرج أصحابها درجة دون الأبيض في سلم درجات الألوان الكوني.
إقدام أحدهم على هذا الفعل الشنيع بعد أشهر قليلة من تجريم العنصرية، هل هو استخفاف بجدية الدولة وإرادتها السياسية لتطبيق القانون ومحو كل أشكال العنصرية؟ فالواضح أنه مثل قوانين أخرى قد تعد راديكالية سبق وأن تبنتها تونس، تتواصل اليوم الهوة بين التطبيقي والنظري. نعم، فعلتها تونس وجرمت العنصرية، لكن كيف سيطبق هذا القانون السباق من نوعه؟
ها هي تونس اليوم تحتفي بمكانة جد مرموقة كدولة جرمت العنصرية، لتكون الأولى عربيًا والثانية إفريقيًا. أما الواقع فلا يعكس كل تلك التقدمية النظرية. الواقع التونسي اليوم يقتضي ثورة جديدة، ثورة اجتماعية وفكرية تعي أولًا مدى الضرر الذي ألحقه بنا الاستعمار المباشر، ونصف قرن آخر من استعمار غير مباشر عبر أنظمة شمولية لم تهتم بتقويض رواسب الفكر الاستعماري، الذي نخر فينا حتى أوصلنا مرحلة كره الذات.
قانون تجريم العنصرية قد يكون هامشيًا للأغلبية، لكن تجاهله والإخلال به يُفصح عن اتساع الهامش واحتوائه لأولئك الذين يغضون الطرف عن الجرم بسبب الشوفينية المفرطة.
لا يعي غالبية العنصريين التونسيين اليوم، الذين أدرجوا موت فاليكو كوليبالي في رفوف اللامبالاة، أن استعلاءهم هذا لن يرتقي بهم أبدًا إلى مستوى المركز. فالتونسي النمطي، وإن ترفع، لن يرتقي لأن روحه بخسة أيضًا كروح كوليبالي، ولن تتساوى مع الأبيض الأوروبي ولو نصع بياضه.