«خليه يريب»، أو «خليه يصدي»، أو «خليه ينتن». شعارات اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي المغاربية في أقطارها الثلاثة الكبرى، منتقلةً كعدوى سريعة بين مختلف شعوب المنطقة.
في الجزائر وتونس والمغرب مثلت هذه الكلمات البسيطة، والمعبرة في نفس الوقت، إرادة شعبية تتوحد لأول مرة بشكل فريد حول قضية اجتماعية محضة، همُّها محاربة سياسة الاحتكار الاقتصادي في بلدانها بسلاح المقاطعة، مقاطعة كل ما يهدد القدرة الشرائية للمواطن البسيط الذي يهدد قُوُتَه جشع الشركات يومًا بعد يوم.
هذه المقاطعة اكتسبت زخمًا في الدول المغاربية في الأيام الأخيرة، ما دفع عددًا من وسائل الإعلام لتسليط الضوء عليها كحدث ذي طابع فريد.
غير أن السؤال المطروح أعمق من مجرد عرض مجريات هذه الحملات، أو دراسة وقعها على الاقتصادات الوطنية في بلدانها، بل هو بحث في مدى تعبيرها عن وعي استهلاكي مستجَد في أوساط هذه الشعوب جِدَّة وسائل التواصل التي وفرت للمستهلك مجالًا أوسع للتعبير عن آرائه بشأن ما تعرضه عليه السوق المحلية.
لهذا الغرض نسرد إليكم قصص هذي الحملات، مستوضحين بذلك طبيعة دوافعها، وكاشفين مدى إدراك المستهلك المغاربي لدوره في عملية الاستهلاك، باستعراض آراء مختلف الملاحظين لها، ومجموع ردود الفعل التي أثارتها لدى الرأي العام.
تونس: #خليه_ينتن
عرفت موجة المقاطعة بدايتها من القطر التونسي مع شعار «خليه ينتن»، في إشارة إلى رد فعل شعبي تجاه ارتفاع أسعار المنتوجات السمكية. الشعار والحملة لقيا تجاوبًا كبيرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، ونجحا في الخروج إلى أرض الواقع، خصوصًا بعد دخول الهيئات المدنية التونسية المعنية بحماية المستهلك على خط المقاطعة.
في حوار له على إذاعة «ميد» التونسية، يوضح سليم سعد الله، رئيس المنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك، أن سلاح المقاطعة هو التكتيك الذي ترى فيه المنظمة نجاعة في مواجهة غلاء الأسعار، الذي يرده إلى المضاربة الجشعة التي تضج بها الأسواق التونسية، نافيًا بذلك فرضية نقصان كمية السلع.
الزميلة تقوى سعد نقلت لنا، من أحد أسواق مدينة سوسة التونسية، مجموعة شهادات من عين المكان، فقد أكد أحد التجار أن الحملة الأخيرة لم تكن بالقوة التي تفرض إرادتها على سوق السمك، في حين دفعت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات وممارسة ضغط على المحتكرين، ما حسَّن نسبيًّا قيمة الأسعار.
نفس المصدر أكد أن تحديد الأسعار قضية يتحمل مسؤوليتها المضاربون وسماسرة الصيد البحري في تونس، في وقت يستجيب لها البائع البسيط مرغمًا.
الجزائر: #خليها_تصدي
في الجزائر بدأت قصة حملة المقاطعة بشعار «خليها تصدي»، واستهدفت بشكل أساسي قطاع تركيب السيارات وتجارتها في البلاد بعد أن عرضت وزارة الصناعة جدولة أسعار السيارات المركبة وطنيًّا، والتي كشفت عن هامش ربح خيالي يستغله وكلاء القطاع على حساب المستهلك الجزائري.
يقول الصحفي الجزائري عبد الحفيظ سجال إن شرارة الحملة انطلقت قبيل تعرية الوزارة لواقع تجارة السيارات لتلقى بعد ذلك دعمًا وإقبالًا شعبيًّا كبيرًا. وفي حين كان دخول الحكومة الجزائرية على الخط بدعوة وكلاء بيع السيارات إلى تخفيض الأسعار، استمر الشعب الجزائري في مقاومة الاحتكار الذي نال من قدرته الشرائية لسنوات.
«الدولة الجزائرية هي المسؤولة عن هذا الاحتقان»، هذا ما يؤكده لـ«منشور» مصطفى الراجعي، المحلل الاقتصادي ومدير مركز «هايك» للدراسات في العاصمة الجزائر، موضحًا أن قطاع التجارة الخارجية تحتكره المجموعات النافذة في البلد، والمقربة من دوائر القرار السياسي، وبخاصة أنه نشاط مربح بشكل كبير، ومدعوم من طرف الحكومة بأموال دافعي الضرائب من الشعب.
النجاح الجماهيري والإعلامي لحملة المقاطعة يستحيل نفيه، ما دفع عددًا من الشركات الجزائرية إلى تخفيض أسعارها.
يقول الراجعي إن سعر العملة الصعبة في الجزائر مدعوم من الدولة، نفس الدولة التي تخص تجارًا معينين بقروض استثمارية كبيرة باليورو لاستيراد السيارات، مع تسهيلات في السداد بالدينار الجزائري، وتفرض، في نفس الوقت، على المستهلك سداد ثمن السيارات بالعملة الأوروبية الموحدة. وبالتالي، فإن الربح إضافة إلى كونه مرتفعًا ومركَّزًا على قلة من التجار، فهو بالعملة الصعبة التي تفوق قيمتها الدينار المحلي بـ20000%، أي أن واحد يورو يساوي مئتي دينار جزائري.
يوضح الرجعي أنه «لو كان الاستيراد نشاطًا غير مدعوم، لكان الوضع مختلفًا»، فالتاجر سيكون ملزمًا بالشراء من الخارج بماله الخالص، وسيفتح السوق أمام حرية المبادرة والمساواة فيها، هذا ما سيرفع الأسعار في أول الأمر، لكن التنافسية الحرة في السوق تتكلف بتخفيضها. أما في حالة الجزائر، فإن الدولة عائق أمام هذه التنافسية، أولًا بالدعم، وثانيًا بالفساد السياسي الذي يخص مستوردين معينين باحتكار السوق ويقصي آخرين، ولذلك يرى الراجعي أن حل هذه الأزمة في تحرير التجارة الخارجية بالجزائر.
يتعذر علينا معرفة الوقع الحقيقي لهذه الحملة على الشركات المستهدفة، وذلك بسبب أن الطلب على السيارات يفوق بكثير الكم المعروض في السوق الجزائرية. غير أن النجاح الجماهيري والإعلامي لحملة المقاطعة التجارية يبقى أمرًا من المستحيل نفيه، ما دفع عددًا من الشركات الجزائرية إلى تخفيض أسعارها، وأدى إلى شبه بَوار في تجارة السيارات المستعملة.
المغرب: #خليه_يريب
«خليه يريب»، أو «يروب»، بهذا الشعار عبَّر المواطن المغربي عن سخطه من أسعار الحليب، التي يرى فيها إجهازًا على قدرته الشرائية، إضافة إلى كونها لا تناسب الجودة التي يفترضها ذلك الثمن.
هكذا كانت حملة المقاطعة التي دعا إليها المغاربة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بدايةً من 20 إبريل 2018، أسوة بأشقائهم في باقي الأقطار المغاربية. انتفاضة صامتة على ما يعد احتكارًا لثلاث شركات كبرى في ثلاثة قطاعات استهلاكية حيوية: شركة «Centrale Danon» لمنتجات الألبان، و«Afriquia Gaz» للبترول ومشتقاته، و«Sidi Ali Oulmes» لتعبئة المياه.
أخذت المقاطعة في أيامها الأولى طابعًا منظمًّا وراقيًا، ولقيت إقبالًا لم يكن كبيرًا مقارنةً بالزخم الذي هيَّجه تصريح وزير الاقتصاد والمالية المغربي محمد بوسعيد، الذي وصف المقاطعين بـ«المداويخ» في كلمة له تحت قبة البرلمان، ما خلق موجة عناد أعتى داخل الشعب عنوانها: «نحن مداويخ. نعم، نحن مقاطعون»، وسَّعت دائرة المشاركة في الحملة التي أخذت تتسع يومًا بعد يوم، لتنضم إليها وجوه فنية ورياضية مشهورة في المغرب، أبرزها الفنانة لطيفة رأفت.
أثارت الحملة كذلك رد فعل ساخطًا، اتفق فيه وزير الفلاحة المغربي عبد العزيز أخنوش، المسهم الأكبر في شركة الغاز المعنية في المقاطعة، مع عادل بنكيران مدير مبيعات شركة «Centrale Danon»، اللذين وصفا الحملة بأنها إجهاز على القوت اليومي للفلاحين الصغار. بل وذهب مدير شركة الألبان إلى وصف المقاطعة بالخيانة الوطنية، وهو التصريح الذي قابله المغاربة باستنكار وتهكم كبيرَين، بينما رآه كثير من الملاحظين سوء إدارة للأزمة.
تداول عدد من المغردين المغاربة صورًا تظهر سلع «Centrale» التي بارت على رفوف المتاجر، وخواء محطات بنزين «Afriquia» من زبائنها. وأظهرت مختلف التقارير الصحفية حول موضوع المقاطعة تضامنًا منقطع النظير لعموم الشعب المغربي في هذه القضية، بل وشمل الانخراط فيها حتى مَن وصفهم الوزير المغربي بالمتضررين، الذين أكدوا أن فلاحتهم تضررت بفعل ما وصفوه جشع الشركة، لا بفعل إرادة الشعب الذي هم جزء منه.
في حديث له مع موقع «Le Site Info» المغربي، أكد مسؤول في «Centrale Danone» أن الشركة تكبدت خسائر مهمة تتراوح بين 15 و20%. ولتدارك الأمر تعتزم الشركة تحويل مخزون الحليب الفائض إلى مسحوق، في وقت أغلقت بورصة الدار البيضاء يوم 30 إبريل 2018 أبوابها على وقع تَصَدُّر كلٍّ من شركتي الحليب والغاز ترتيب أكبر الخاسرين.
في محاولة أخرى لتدارك الموقف قدمت «Centrale Danone» اعتذارها في بلاغ رسمي للرأي العام في الثاني من مايو 2018، مبينة فيه أن التصريحات التي بدرت من كوادرها لا تمثل الموقف الرسمي للشركة، وأن أسعارها لم تتغير منذ صيف 2013.
مع ذلك تستمر المقاطعة معلنةً أن هدفها تَراجع الشركات المستهدَفة عن أسعارها، في وقت يراهن الطرف الآخر، أي الشركات، على احتمال أن تلين صلابة المغاربة في مقاومة منتجات الألبان في شهر رمضان.
المقاطعة: انتفاضة اقتصادية أم وعي استهلاكي؟
«لا يمكننا التحدث عن وعي استهلاكي للشعوب المغاربية بقدر ما يمكننا وصف هذه المقاطعة بانتفاضة إلكترونية ضد غلاء المعيشة». هكذا يؤكد مهدي جوهري، الصحفي في الجريدة الاقتصادية المغربية «La Vie Eco»، موضحًا أن هذه الحملة لم تقاطع المنتَج في حد ذاته، أو بسبب جودته، بل استهدفت ثلاث شركات كبيرة في ثلاثة قطاعات مختلفة، وهي المسيطرة على أسعار السوق.
زد على ذلك، يضيف الصحفي المغربي، أن الوعي الاستهلاكي يفترض مسبقًا تأطيرًا من طرف هيئات حماية المستهلك، التي التزمت موقفًا محتشمًا جدًّا في قضية هذه المقاطعة: «نحن أمام نضال شعبي ضد غلاء المعيشة، يتخذ شكل مقاطعة سلمية موسعة، في وقت أجهزت فيه الحكومة على القدرة الشرائية للمواطن بسياسات تحرير السوق، وفي المقابل أبقت الأجور ثابتة متجاهلة المطالب النقابية في هذا الصدد».
المقاطعة إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن المستهلك المغربي أصبح يعرف حقوقه، وأهمها حقه في الاختيار.
التحليل نفسه موجود لدى سلمى سهلي، عضوة حزب العمال التونسي، التي تشير إلى أن حملة المقاطعة في بلدها لم تكن قوية، وأن عقلية المقاطعة لم تزل غير طاغية، في حين تبقى المقدرة الشرائية المتحكم الوحيد في استهلاك المواطن التونسي. ولأن هذه المقدرة وصلت في الآونة الأخيرة إلى أكثر مستوياتها تدنيًا، فإن عدم الاستهلاك واقع مفروض، وليس اختياريًّا.
المحلل الاقتصادي الجزائري مصطفى الراجعي يوضح لـ«منشور» أن هناك أزمة جهل بالمعطيات التي تتحدد الأسعار على أساسها، ما يجعل المواطن المغاربي بعيدًا كل البعد عن تطوير وعي استهلاكي، وفهم سليم لحقوقه وواجباته كمستهلك: «سلاح المقاطعة يمكن أن يؤدي إلى نتيجة في صالح المستهلك المغربي، لأن السوق المغربية أكثر انفتاحًا وتنافسيةً مقارنة بالجزائر، التي ترى هذا الأمر لا طائل منه لانغلاق السوق وضعف العرض فيها مقابل الطلب».
غير أن لرئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، السيد بوعزة خراطي، رأيًا مختلفًا، فقد أعلن أن المقاطعة إن دلت على شيء فإنما تدل على أن المستهلك المغربي أصبح يعرف حقوقه، وأهمها حقه في الاختيار، مؤكدًا أن الجامعة المغربية تثمِّن تصاعُدَ هذا الوعي، وترى ضرورة الحذر من أن تكون هذه الخطوة النضالية الراقية ذات خلفية سياسية، أو موجَّهة في إطار المنافسة غير الشريفة.
يقر خراطي بأن هيئات حماية المستهلك تركز في نضالها الدائم على مراعاة ما أسماه «الرباعي الضروري» الذي يقوم عليه واقع الاستهلاك: المستهلك والمورد والحكومة والرأي العام، وأن الجامعة المغربية لحقوق المستهلك تدعم هذه المقاطعة ما دامت تستجيب لشروط الحياد السياسي والتنافسي الاقتصادي.