لم تمر لحظة هدوء على سوق «تسوكيجي» للأسماك في طوكيو منذ عام 1935. قبيل فجر كل يوم، تُسمع خطى الباعة في ممرات السوق المظلمة، يجهزون بضائعهم البحرية لإغراء الزبائن في أكبر سوق لبيع الأسماك بالجملة في العالم.
يبدأ العمل في الخامسة والنصف صباحًا، عدد هائل من أسماك التونة الضخمة ملقاة على الأرض، هتافات مُنغمة، أجراس صغيرة، زبائن وسياح، مزايدات، صفقات بيع رابحة وأخرى فاشلة. لكن هذا الصخب لن يستمر طويلًا بقرار من الحكومة اليابانية. ستُغلق السوق، وسيُنقل الباعة إلى مقر جديد، تاركين خلفهم إرثًا كبيرًا من التراث والأسطورة.
تعرِض سوق تسوكيجي يوميًّا ما يزيد عن طن ونصف من المأكولات البحرية المتنوعة، التي يقدر ثمنها بـ14 مليون دولار، وترى في أنحائها 480 نوعًا من الأسماك، ويطرق أبوابها 42 ألف زائر كل يوم، ويجذب مزاد الأسماك في رأس السنة وسائل الإعلام، وتباع فيه البضائع في لمح البصر.
في الخامس من يناير 2013، في الخامسة فجرًا على وجه التحديد، شهد مزاد رأس السنة ساعة حظه، وبيعت فيه أغلى سمكة تونة في العالم، بلغ وزنها 222 كيلوجرامًا، بـ1.8 مليون دولار. ورغم كل ذلك، فإن الحكومة اليابانية تخطط للتخلص من هذه السوق، مع أهميتها الكبيرة، سواء الاقتصادية والاجتماعية.
تسوكيجي: سوق وراءها حكاية
افتُتحت سوق تسوكيجي رسميًّا في 11 فبراير 1935. لكن بدأت حكايتها قبل ذلك بكثير، تحديدًا مع موت الساموراي والجنرال «أودا نوبوناغا» في الثاني من يونيو 1582، والذي يعد نقطة تحول في التاريخ الياباني.
انقسمت اليابان في القرن السادس عشر، وحكمها مجموعة من محاربي الساموراي. سيطر نوبوناغا على نصف الولايات اليابانية المتنازَعة لينهي فترة طويلة من الحروب الإقطاعية في ما بينها، وساعدت إصلاحاته على توحيد اليابان كلها بعد موته.
توفي نوبوناغا في معبد «هونوجي» في مدينة كيوتو، بعدما انقلب عليه أحد تابعيه وخانه. وأُصيب في هذا الهجوم المفاجئ، ووجد أنه لا سبيل للفرار من المعبد المحاصَر، فأضرم النيران فيه، ونفذ طقس «السيبوكو»: الانتحار عن طريق نزع الأحشاء لتلافي الوقوع في يد العدو.
علم الساموراي «توكوغاوا إياسو»، أحد موحدي اليابان، بالمؤامرة التي حيكت ضد نوبوناغا، فهرب من مدينة ساكاي، بمساعدة بعض صائدي السمك المحليين، حسب ما تقول الأسطورة. استقر الحكم لتوكوغاوا في عام 1603، وانتقل الصيادون إلى مدينة إيدو، مقر حكمه والمعروفة بطوكيو حاليًّا. منحهم توكوغاوا مزايا خاصة للصيد في الخليج ردًّا للجميل.
استمر الصيادون في تقديم نذر الولاء للإمبراطور بإهدائه أفضل الأسماك، وأصبح الخليج المقر الرسمي لأكبر سوق للأسماك في البلاد، حتى دمرها الزلزال في 1923، فنُقلت إلى مقاطعة تسوكيجي عام 1935.
يشكك بعضهم في مصداقية هذه الحكاية، ويرونها مجرد أسطورة يتداولها الناس لتسلية الزوار أو للتدليل على حقوق الصيد الممنوحة لهم منذ عصر الإمبراطور، وعرقلة انتقاله.
أزمات ومصائب
انتقل «التلوث الإشعاعي» الناتج عن التجربة الأمريكية للقنبلة الهيدروجينية «كاسل برافو» لسفينة صيد يابانية فأصيب الطاقم وحمولة السمك بالإشعاع.
يهرع بائعو الأسماك طوال اليوم وسط الزحام، حاملين أطنانًا من الثلج للحفاظ على بضائعهم من العطن. والسوق لا تملك أدنى درجة من الحماية، ما تسبب في نشوب حريق هائل في عام 2017، استمر 15 ساعة قبل السيطرة عليه.
لم يكن الحريق الأزمة الأولى التي واجهت سوق تسوكيجي. إذ وقعت ضحية تجربة الولايات المتحدة الأمريكية للقنبلة الهيدروجينية «كاسل برافو»، في جزيرة بيكيني الاستوائية عام 1954.
انتقل «التلوث الإشعاعي» الناتج عن هذا التجربة ليصيب منطقة واسعة من المحيط الهادئ وجزر مارشال، أي ما يعادل 200 ميل بعيدًا عن موقع الانفجار نفسه. لم تحذر الحكومة الأمريكية سكان المناطق المحيطة من تبعات «كاسل برافو»، ولم تُعلِمهم بتوقيت إجراء التجربة.
فكانت سفينة الصيد اليابانية «Lucky Dragon 5» على بعد 90 ميلًا فقط من جزيرة بيكيني وقت الانفجار، وبدأ الرماد الإشعاعي، بعد ساعة ونصف، في التساقط على ظهر السفينة، فأصيب الطاقم كله وحمولة سمك التونة بالإشعاع، ودخلت السفينة المحملة بالأسماك الملوثة إلى سوق تسوكيجي.
اتخذت الحكومة اليابانية أقصى التدابير الوقائية وقتها، وفحصت كل سمكة تدخل سوق تسوكيجي قبل عرضها للبيع. وقع عدد ضخم من أسماك التونة تحت طائلة التلوث الإشعاعي، وفسدت الثروة السمكية في محيط جزر المارشال، وكسدت التجارة، وظل الخطر موجودًا رغم أن الصيادين حاولوا الصيد بعيدًا عن محيط الإشعاع. وحتى على بعد ألف ميل من كاسل برافو، شمال جزر المارشال موقع التجربة الهيدروجينية، توجد سمكة مصابة وسط كل عشرة أسماك.
أولمبياد طوكيو 2020
ليست تسوكيجي مجرد سوق لشراء السمك. فتتضمن مساحات لشراء كل شيء يتعلق بالطبخ عامة.
عجلت أولمبياد طوكيو 2020، بنقل سوق تسوكيجي التي تحتل موقًعا متميزًا، ترغب الدولة في استغلاله لإنشاء طريق سريع جديد، يُسهل على لاعبي الأولمبياد الانتقال من القرية الأولمبية إلى الاستاد الوطني، لتجنب الازدحام الذي سيؤثر في المشاركين في أثناء دورة الألعاب.
تثير عملية نقل سوق تسوكيجي الجدل. إذ يؤمن «يوشيكاتسو إيكوتا»، تاجر الأسماك ومؤلف 11 كتابًا عن طرق طهي السمك المختلفة، بضرورة نقل السوق. يظهر إيكوتا في البرامج التليفزيونية للترويج لفكرته باعتبارها خطوة ضرورية نحو الحداثة.
ليست تسوكيجي مجرد سوق لشراء السمك. فالسوق الأوسع تتضمن مساحات لشراء كل شيء يتعلق بالطبخ عامة، بداية من الأطعمة المجففة حتى أدوات الطبخ. يتجول الزائرون في هذه المساحات للتنزه وتناول الأطعمة الخفيفة.
صمدت سوق تسوكيجي أمام الحرائق والانفجارات الهيدروجينية والظروف المناخية السيئة، دون أن تغلق أبوابها، وتملصت من محاولات النقل السابقة. ففي 2001، أرادت الحكومة نقل السوق إلى خليج طوكيو. لكن حال دون ذلك، المخاوف من تربة الموقع الجديد الملوثة، وتكلفه النقل الباهظة التي تصل إلى نحو ثلاثة مليارات دولار ونصف، دون تنفيذ الخطة التي تأجلت 15 عامًا. لكن السوق تواجه أمر النقل مؤخرًا، أمام تجهيزات أولمبياد 2020 التي ستقام في اليابان.