البَطح: أي التبسُّط.
وتَبَطَّحَ فلان: اسْبَطَرَّ على وجهه ممتدًّا على وجه الأَرض.
وانْبَطَحَ الرَّجُلُ: اِسْتَلْقى على وَجْهِهِ.
منذ مدة ليست ببعيدة شعرت ببارقة أمل ضبابية، لكن حظي وإن كان ابن الحرام، تربطني به علاقة صداقة وعشرة عُمر، سرعان ما نبهني ألا أكون من الفرحين، فالضباب الحقيقي لم يظهر بعد، وما فات لم يكن سوى لعب عيال، كل هذا الطوفان، والخطوط الحمراء والزرقاء والحظوظ «المتنيّلة بستين نيلة»، لا تكفي بل تطمع أن تزيد.
كوفيد؛ الله يلعن كوفيد واللي خلفوه، أحكَم عليّ إغلاق جميع الأبواب، حتى إن «مفتاحيه لتنوء بالعصبة» هذه المرة، والأمر متروك للسماء السابعة، وضعت ساقًا على ساق ورُحت أحتسي الشاي بالنعناع وأُدندن مع العندليب «وقال إيه جاي الزمان يداوينا».
أنا صديقة البحر، واللقاء في الجلسات الواسعة والمفتوحة حيث السماء تتنفس، ويقولون إني بارعة في صنع الأحاديث العابرة مع الغرباء، وفاشلة في التواصل من العالم الافتراضي. أحاول اكتشاف الأشياء التي فاتتني في الطفولة، أحب التسكع بلا وِجه وأخاف منه، وألقي التحية على القطط المشردة، وأحب المشي لمسافات طويلة، والتأرجح في الحديقة عندما تخلو من الأطفال، وأتحسس بيدي أوراق الشجر والزهر، وأمد بصري لغروب الشمس، وأراقب الأسماك الصغيرة في البحر وهي تتجمع عند سقوط قطعة خبز.
ولا شك أن هذا لا يخلو من مضايقات أعين المارة وملاحقاتهم، أشعر أن الدم يتجمد في عروقي وأفرّ منهم، وينقطع مزاجي الرومانسي، وأحيانًا أبدأ بشتمهم ويلوذون بالفرار.
في أزمة «كورونا»، المجانين يتحدثون عن ضرورة الاستغلال والإنتاجية في هذه الأيام العصيبة. بالنسبة لي ذهني لا يعمل بصورة جيدة الآن، وهذا سبب كاف للتبطح، وأحيانًا القلق.
استغل وقتك أو انبطح على بطنك
منذ فترة تصالحت مع القلق، اتفقنا على أن يختفي عندما أعطيه المشي حد الشبع، لكن الحظر خرق الاتفاقية.
القلق يعني أن يتحول الحمام إلى نسر خطاف، والزهور إلى أشواك، وطعامي المفضل إلى علبة تونة عفنة، والنسيم إلى ريح صرصر. أن يتحول يومك إلى منجم متهالك شديد الظلمة، كأنك تعمل بشكل متواصل وتشعر بالإجهاد دون عمل حقيقي، وتقترب من الإعياء، ولكنك يقظ، وترغب في النسيان إلا أن الذاكرة تهزمك، ويأكلك الأرق ولا يفارقك الوعي، ولا تدري متى يسقط المنجم فوق رأسك ولن يأتي أحد لإنقاذك.
أقضي أغلب وقتي في المنزل، لأني أعاني من الضوضاء، وكآبة المولات، وأتحسس من الحديث بصوت عال، وبكاء الأطفال، وأمارس المشي واللهو عندما يفرّ الناس إلى قوت يومهم، عندما تخلو المدينة، وأعود لعُشي أثناء العُطل الرسمية المزدحمة.
لكن هذا الانغلاق الإجباري يشل حركة رأسي، عقلي يرفض الإنتاج، لا أشعر برغبة في إنجاز شيء، أنا هادئة فقط وأمارس اللاشيء، أتحمل نفسي كل يوم وأعيش اللحظة، أتجنب ما يعكر مزاجي، وأعتبر هذا العمل بطوليًا الآن. أنا عاجزة عن الركض خلف ما يسمى «استغلال الوقت» في هذا الظرف، كما أني لا أحرّض أحدًا على اللاشيء، ولا أطالبهم بعمل شيء.
في مواقع التواصل الاجتماعي حالة جنون رهيبة لاستغلال الوقت في المفيد، لصنع الانجازات والأساطير، مما يجعل البعض يشعر بالإحباط، يتساءلون: هذا مبهر، كيف يقدر الجميع على تجاوز الكارثة بهذه البساطة كأن شيئًا لم يحدث، في حين لا يمكنني حضور دورة واحدة عبر الإنترنت؟ لماذا لا أستطيع القراءة في هذه الفترة وأنا الذي كنت ألتهم الكتب التهامًا؟ لماذا فقدت متعة السهر ومشاهدة الأفلام؟ هل أصبت بالجنون؟ هل أنا مكتئب؟ هل هذا طبيعي؟ ثم يغوصون في حالة هلع.
مهما حاولنا زخرفة العزلة، هناك من يشعر أنه في حبس، سواء كان في شقة متواضعة أو بيت من قش أو حتى في بروج مشيدة. إشعار الناس بضرورة الركض لاستغلال أوقاتهم وأن لا عذر لهم طالما الفراغ مصيرهم، والتفلسف عن العزلة ولمّ العائلة ودفء البيت أو حب الوحدة وإلخ، يُدخلهم في دوامة من التوتر والقلق وجلد الذات، كما أن الجميع لا يملك رفاهية العزلة والاستغلال لأسباب لا حصر لها، إما نفسية أو ذهنية أو عاطفية أو اقتصادية وغيرها.
استغل عزلتك أو انبطح على بطنك، الخيار لك، لا تخجل، لا تشعر بالذنب لا تضغط على روحك، ليس بالضرورة أن تتبع جدولًا، الحالة النفسية والقدرة على التركيز وصفاء الذهن درجات متفاوتة من شخص لآخر، فما بالك في هذا الوقت العصيب؟ الضغط على النفس يقود لنتائج عكسية.
لاحظت تراجع البعض بخجل أو بغضب، حول آرائهم عن العزلة، أحدهم يعبر عن مدى حُنقه لمن كانوا يتغزلون بالعزلة والوحدة والهدوء ما قبل الأزمة، وختم كلامه «نستاهل اللي يصير لنا».. لا يا شيخ؟
مشاعر متضاربة وغير مفهومة لدى البعض، يبدو أنهم يعيشون في حالة إنكار للفيروس المميت والحظر، أو عدم التفرقة بين مشاعرهم قبل الأزمة وبعدها، فلا هذا التباعد الاجتماعي غرضه الراحة من الضجيج والحصول على المتعة الذاتية، ولا هذه العزلة القسرية غرضها السكون في المنزل، الأمر في غاية الغرابة؛ يشبه حربًا عالمية صامتة، بل هي الحرب نفسها، فالعدو غير مرئي، أليست الحرب خدعة؟
هناك من اكتشف منزله للتو وآخر يفسر تفكك العالم وتشكله ما بعد الفيروس، كما أن هناك نقاشات نارية حول الاشتراكية والرأسمالية، وتبادل الشتائم والأحذية عن الوافدين (ملاحظة: لا يدخل الرجل الأبيض الأشقر ضمن هذه الفئة)، وهناك معركة البصل، وهناك معركة الفول: رأيت بأم عيني كيف يتعارك الرجال من أجل الحصول على طبق الفول، وهناك سرقات للمعقمات والكمامات على المستوى الدولي، وشعوب تمارس اللهو والغناء على الشرفات، وأخرى شمّاتة، وهناك من يهرع لشراء الأسلحة وتكديس أوراق المرحاض، وآخرون اصطفوا لشراء الحشيش والمشروبات الروحية.
ما يحدث الآن مثير للدهشة، وأجد صعوبة في تفسير ما يحدث، أنا في موقف المتفرج على المدرج.
الكوارث تغير النفوس
الحياة حركة ومن مشكلاتها؛ التغير الذي يطرأ علينا وعلى من يحيطون بنا، كما يقول الفيلسوف والمُفكِّر الروسي الكبير «نيقولا بيردييف» في كتابة «الحلم والواقع»:
«قد يكون التغير علامة صعود وتقدم وإثراء، ولكنه قد يعني أيضًا الانحطاط والانحراف والخيانة، والمسألة هي كيف نضمن ألا يصبح التغير خيانة، وأن يبقى الإنسان صادقًا مع نفسه. ومن المعروف أن الإنسان يبدي طبيعته الحقيقية في المحن والكوارث والأخطار، ولما كان من نصيبي أن شهدت تغيرات وكوارث تاريخية كثيرة، فقد لاحظت تحولات تلحق بالناس، بحيث تبعث على الدهشة. وليس هناك تجربة أشد إيلامًا من الإخفاق في التعرف على أشخاص كنا نعرفهم حق المعرفة، فخانوا أنفسهم نتيجة لتكيفهم مع ظروف الحياة المتقلبة».
ويضيف: «خبرت ذلك في روسيا، وسمعت عنه في ألمانيا، وليس من شك أنني سأعيش لأراه في فرنسا. بيد أنني شاهدت أيضًا مظاهر للتغير أبدى فيها الناس قوة روحية ملحوظة غير متوقعة في الثبات أمام ضغط ظروف الحياة المتغيرة، وأدهشتني على الأخص بعض النسوة في هذا السبيل، وإني لأعتقد أن النساء أكثر ثباتًا من الرجال على وجه العموم. ويلعب التغير دورًا مهمًا في العلاقات الإنسانية، وقد لاحظت أن للتغير في نفسي وفي نفوس الآخرين تأثيرًا حاسمًا على اتصالي بهم».
المدون السعودي فؤاد الفرحان كتب تدوينة بعنوان «لست وحدك.. عن الخوف من الوحدة فلنتكلم»، يعتقد فيها أنه لا يوجد إنسان طبيعي يأنس للوحدة لفترة طويلة، يقول: «أحيانًا تكون الوحدة فترة هدوء وانعزال لطيفة إذا كانت قصيرة ولم ندخلها بسبب ضغوط الحياة، ولكن بإرادتنا، ومهما كانت مغرية للبعض في بعض الفترات، فالحقيقة أنه لا يستلذ بطول الوحدة شخص طبيعي».
يرى الفرحان أن الوحدة إما تكسر أو تقوي: «الوحدة إما أن تكسر المرء وروحه، أو تجعله يخرج منها كشخص جديد يرى ذاته ومن حوله والحياة بمنظور جديد. مواجهته لروحه بصدق وشجاعة تجعله يراجع ماضيه، قراراته، علاقاته وصداقاته، مسيرته، فشله ونجاحاته، قناعاته ومبادئه ومرتكزاته. تجعله يتصالح مع نقاط ضعفه وقوته، يحدد بالضبط أين ومتى أخطأ ولماذا، وأين ومتى أفلح ولماذا. ثم يقرر ماذا ينوي أن يفعل بحياته».
فوجئت عندما وجدت العديد من المقالات الأجنبية تتحدث عن ضرورة التوقف بالإنتاج والاستغلال في زمن الاستهلاك الجنوني، إليك بعضًا من الشراب للاسترخاء دون الشعور بالذنب.
صحفية نيويورك تايمز نشرت مقالًا بعنوان «توقف عن محاولة أن تكون منتجًا»، تشير فيه إلى أن الفيروس سلب حياتنا الخارجية وأدخلها إلى بيوتنا، وأن هناك الكثير من الناس يشعرون بالضغط، إذ أن الإنترنت مليء بالعناوين الإرشادية التي تتدفق بشكل مستمر لتُعزز فكرة المطالبة بالإنجاز أو الشراء.
هذه الرغبة المُلحة بضرورة أداء عمل ما، والإنجاز حتى في أوقات الأزمة العالمية، تعكس ثقافة العمل الأمريكية التي لا تتوقف عن الدوران. فكرة أن كل ثانية من حياتنا يجب أن تكون «سلعية»، والدفع باتجاه الربح وتطوير الذات، وثقافة الجد والنمو والتطور بشكل دوري ومتسارع، هذا هو نمط التفكير للعقلية الأمريكية، هكذا يرى الصحفي «نيك مارتن» في مقاله على صحيفة نيو ريبابلك بعنوان «ضد الإنتاجية في الجائحة».
ونشرت أستاذة العلوم السياسية بجامعة تورونتو عائشة أحمد مقالًا بعنوان «لماذا عليك تجاهل كل الضغوط الإنتاجية الناتجة عن فيروس كورونا» في صحيفة «وقائع التعليم العالي» الأمريكية.
في البداية تتحدث عائشة كأي إنسانة مكافحة تحاول التكيّف مع الوباء، لكن بصفتها خبيرة في الأزمات حول العالم ومعايشتها لها تقول: «عملت وعشت في ظل ظروف الحرب والصراع العنيف والفقر والكوارث في العديد من الأماكن حول العالم، عانيت من نقص الغذاء وتفشي الأمراض، وكذلك فترات طويلة من العزلة الاجتماعية، والحركة المقيدة، والحبس في ظل ظروف بدنية ونفسية صعبة للغاية».
لاحظت عائشة تحوّلًا ملحوظًا من بعض أصدقائها وزملائها الأكاديميين، إذ أنهم «يقاتلون ببسالة للشعور بالحياة الطبيعية، يتدافعون لتقديم الدورات عبر الإنترنت، التزام صارم بجدول الكتابة، إنهم يأملون أنه مجرد إغلاق مؤقت وستعود الحياة لطبيعتها. أتمنى لأي شخص يتبع هذه الطريقة حظًا موفقًا مع وافر الصحة والعافية». لكنها ترى أن سُعار الأنجاز يُشكل خطورة على النفس، وليس صحيًا ولا يدعو للفخر.
وضعت عائشة أحمد 3 مراحل كي تستوعب ما يحدث حولك خلال هذه الأزمة الكارثية:
- المرحلة الأولى: التأمين والاستيعاب
أيامك وأسابيعك الأولى في هذه الأزمة تعتبر حاسمة، ولا بأس إن شعرت بالضياع أو السوء، تقبّل شعورك لا تهرب منه، اعتبر ذلك أمرًا جيدًا، هذا يعني أنك لست في حالة إنكار، ومن خلالها تسمح لنفسك بأداء أعمالك المهمة رغم حالة القلق.
ذلك لأنه لا يوجد أي شخص عاقل يشعر بالرضا خلال كارثة عالمية، لذا كن ممتنًا لشعورك بالضجر والقلق لسلامة عقلك، ركّز على الطعام والأسرة والأصدقاء، وسلامتك النفسية والجسدية، وربما اللياقة البدنية، لن تصبح رياضيًا أوليمبيًا في الأسبوعين المقبلين، لذلك لا تضع توقعات سخيفة على جسمك. لا بأس أن تبقى مستيقظًا حتى الثالثة صباحًا، أو تنسى غداءك أو دروس اليوغا.
بعد ذلك تنصح بتجاهل كل ما ينشر عن «دعارة الإنجاز والإنتاجية» على وسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الحالي، وتجاهل الأشخاص الذين ينشرون كتابة أوراق علمية، وأولئك الذين يتذمرون من عدم قدرتهم على الكتابة، هؤلاء في رحلة خاصة بهم، لا عليك، فقط ابتعد أنت عن التشويش.
- المرحلة الثانية: التحول الذهني
إذا أمنت نفسك، ستشعر بمزيد من الاستقرار، وسيتأقلم عقلك وجسدك، وستتوق إلى التحديات الأكثر تطلبًا. مع مرور الوقت، يمكن لدماغك أن يعيد ضبط نفسه للتماشي مع ظروف الأزمات الجديدة، ومع ذلك لا تتعجل أو تحكم مسبقًا على تحولك الذهني، خاصة إذا لم تكن قد تعرضت لكارثة من قبل.
للكاتب «تروي جونسون» تغريدة ساخرة عن مشكلة تحولاتنا النفسية والذهنية في هذه الفترة، يقول فيها: «في اليوم الأول من الحجر: يقرر ممارسة التأمل وتمارين الجسم. في اليوم الرابع: يضع الآيس كريم على المكرونة».
لذلك تقول عائشة: «تتطلب تحولاتنا الذهنية الأساسية التواضع والصبر، ركز على التغيير الداخلي الحقيقي. ستكون هذه التحولات البشرية صادقة، ساذجة، قبيحة، متفائلة، محبطة، جميلة». وتضيف: «كن بطيئًا ولا يهمك، دعها (الجائحة) تغير طريقة تفكيرك وكيف ترى العالم. لأن العالم هو عملنا، ربما تهدم هذه المأساة جميع افتراضاتنا الخاطئة وتعطينا شجاعة الأفكار الجديدة الجريئة».
- المرحلة الثالثة: سيقودك التحول إلى المرونة
تستطيع أن تُنجز بهدوء دون قلق عندما تكون أساساتك قوية، سيكون عقلك مبدع، وتستطيع إنجاز مهامك. نفذ المهام السهلة أولًا وشق طريقك إلى الثقيل منها لاحقًا. «لا أحد منا يعرف إلى متى ستستمر هذه الأزمة (...) عدم اليقين يدفعنا جميعًا إلى الجنون، ومع ذلك نحن فقط في بداية تلك الرحلة، ومعظم الناس لم تتقبل عقولهم أن العالم قد تغير بالفعل».
تختم عائشة مقالها بتأكيد أن «الكوارث العالمية تُغير العالم، وهذا الوباء يشبه إلى حد كبير حربًا كبرى. حتى وإن احتوينا الأزمة في غضون بضعة أشهر، فإن إرث هذا الوباء سيعيش معنا لسنوات، وربما لعقود قادمة. سيغير طريقة تحركنا، وسيغير البناء والتعليم والتواصل. ببساطة؛ لا توجد طريقة لاستئناف حياتنا كما لو أن الوباء لم يحدث قط».
أنت أعلم بذاتك و«الجحيم هو الآخرون»
بدر الحمود مخرج سينمائي سعودي، كتب تغريدة يقول فيها: «مبدأ استغلال الوقت أساسي طيلة العمر، لكن المبالغة بمطالبة الناس باستغلال أوقاتهم وتطوير مهاراتهم في فترة الحجر قد تتحول لنوع من المثالية والترف، هنالك قلق وكآبة عامة طبيعية في هذه الفترة، وأحوال الجميع ليست متساوية، استثمر وقتك، وإن لم تستطيع لا تقسُ على نفسك وعوضها في وقت الرخاء بحول الله».
يؤكد الحمود أن فترة الصدمة مختلفة من شخص إلى آخر، البعض يتعافى والبعض لا: «التوازن النفسي هو الأساس، افعل كل ما يبقيك متوازنًا حتى لا تغرق بالمشاعر السلبية، أنت أعلم بذاتك».
أما الصحفية الأمريكية والدكتورة في دراسات الإعلام «آن هيلين بيترسون»، مؤلفة كتاب «كيف أصبح جيل الألفية جيل الإرهاق»، فتقول: «لقد اعتدنا جعل كل لحظة من أوقاتنا منتجة بطريقة ما. على سبيل المثال أنا أتمشى في نزهة، أصبح لا بد من الاستماع إلى بودكاست معلوماتي كي أكون مثقفة أو أصير شخصًا أفضل». وتعتقد آن أن هذه الرغبة الجامحة شائعة عند جيل الألفية، لدرجة أن أدمغتنا مبرمجة على خيارين، إما أن تستسلم لها أو تشعر بالإحباط طوال الوقت، لا وجود لخيار ثالث.
يحدث على الجانب الآخر من كوكبنا: الفقراء والعمال
يحيا الانبطاح ويحيا الركض. لا يوجد خاسر هنا سوى أولئك المسحوقين، من كانت لقمتهم رهينة عمل يومي ولم يصل فلس إلى رصيده. إنهم ضِعاف الخلق، أولئك الذين يعيشون في مؤخرة العالم، متكدسون، جائعون، هؤلاء من يشعرون أن لعنة الجوع ستُكشر عن أنيابها وتعض مضاجعهم، ثم تخطف أرواحهم قبل أن ينهش المرض صدورهم الضعيفة، أولئك الذين يضطرون إلى تمني الموت بغتة، وهم الذين يحبون الحياة ورغباتها ولذاتها وشهواتها، لا أن يحوم الموت فوق رؤوسهم ويأكلهم، ويُبدل وجعهم أضعاف ما كانوا عليه. المحظوظون اليوم والنعيم كل النعيم لمن يخشون التُخمة لا المسغبة.
ثم ماذا يفعل الغَرْثان بثرثرة نجيب محفوظ فوق النيل وهو مصاب بهذيان الجوع ورهبة المجهول؟ ربما يُحول أوراقها لنيران يقلي عليها البيض بعد أن فرغت أنبوبة الغاز؟ وفي حلقه غصة من الشتائم لو سمعه مظفر نواب لذُهل؟ أم تود أن تهديه رواية الجوع ليزداد جوعًا؟ أو يحولك أنت وروايتك اللعينة لكباب مشوي مع حلقات البصل؟
بل احذر أن تقترح عليه رواية الجريمة والعقاب فيسقط الفأس على رأسك. ثم تتراكض الصحف لسبق بعنوان عريض: «متسول يقتل اليد التي مدت يد العون له»، وآخر: «الضحية التي حرّضت القاتل على قتله».
الكاتب المصري كريم محمد يفتح لنا أبواب البؤس في تدوينته «يكفينا ثقلُنا الذي نحتمل»، يصف فيها دعاة الاستغلال بالسادّية دون أي مبالاة بحالة القلق والهلع التي تصيبنا في هذه الفترة اللعينة.
يقول: «الأغلب يمارسون ساديّة غير بشريّة على الآخرين بوعظهم باستغلال أوقاتهم، مع الحرص على غسل أيديهم لمدة 20 - 30 ثانية (يا للدقة) والتعقيم الدائم، وزجرهم بكل ما أُوتو لأن يجلسوا في البيت، واستغلال كل أوقاتهم فيما هو مفيد ومجدٍ ونافع. في الحقيقة، يُصاب المرء بالجنون من هؤلاء «الشّبيحة»، حسني النيّة وسيئيها على السواء، الذين لا يحرّكهم شيء سوى النفع والجدوى، ولا يفكّرون أبدًا في أبعاد القلق التي تحيط بالكائن البشري، سيّما في بلداننا التي لا يخفى أمرها على أحد، وأقلّها أنّ موتك عمومي ولا معنى له، كوجودك تمامًا».
يستغرب كريم النظرة الغريبة الذي يمارسها البعض ضد من لا يود استغلال وقته، حتى لو كان يملك الإمكانيات المادية ولديه فراغ لا محدود. «الأوامر العُليا من الساديين الكبار باستغلال الوقت، والتفكير، وتنظيم اليوم، هي لا إنسانيّة ببساطة لأنّها رفاهية لمَن يتكلّم عنها، وليست إمكانًا، وحتى وإن كانت إمكانًا فهي إمكان لا يُلام أو يُزجر تاركه، لأن الملل الصفة الألصق والأكثر بشرية فينا، هو وحده كفيل بقتل أي رغبة لدى الإنسان. بالكاد يمكن للبشر في ظروف كابوسية كهذه أن يحتملوا ثقلهم الذي لا يُحتمل».
يُشير كريم بحنق إلى أن الفقراء والمسحوقين لا عزلة لهم، بل يعتبرون العزلة بحد ذاتها رفاهية بغض النظر عما يحدث الآن.
ويضيف: «من الناس الجالسين قهرًا في بيوتهم من يعانون اقتصاديًّا، وليس بحوزتهم اشتراكات على نتفليكس أو رفاهية متابعة لا كاسا دي بابل أو أفلام أمازون. العُزلة رفاهية، رفاهية ليست فقط مادية، بل وجودية، مَن يمتلكها يتكلم من موقع معين».
لطالما أرقتني مسألة الكوارث مثل الزلازل والأعاصير، وترديد كليشيهات مثل: «قدر الله.. عقاب الله.. غضب الطبيعة»، لكن بالصدفة قرأت في كتاب «الخوف السائل» لعالم الاجتماع «زيغمونت بومان» إشارة إلى أنه في إعصار كاترينا، الأعنف في تاريخ أمريكا والذي وقع عام 2005 في نيو أورلينز، كان الجميع على علم مسبق بالكارثة، ما أعطى لهم الوقت الكافي للبحث عن مأوى، لكن المأساة أنه لم يكن بوسع الجميع الهرب والتصرف، وحتى لو هربوا وتكدسوا في الشاحنات فسيفقدون كل ما يملكون في الدنيا من ممتلكات ومدخرات في بيوتهم ولن يعوضهم أحد، فئة محدودة استطاعت الهرب، أجرة الفنادق وتذاكر الطيران كانت مكلفة.
كان الشغل الشاغل للسلطات هو القبض على الناهبين، وقتلهم بالرصاص من دون تمييز، سواء أكان السارقون يسرقون أجهزة إلكترونية أم يسرقون الطعام والشراب، وذلك قبل الذهاب إلى إطعام من يموتون جوعًا، وإيواء المشردين، ودفن الموتى، فكان يبدو أن الدافع وراء إرسال القوات هو أن النظام والقانون الذين وضعهما الإنسان أضحيا مهددين، وليس الرغبة في إنقاذ ضحايا الكارثة الطبيعية.
يقول بومان إن الإعصار نفسه لم يكن نتاج بشر، لكن تبعاته كانت بوضوح نتاجًا بشريًا؛ وقد عبر عن ذلك «ديفيد غونزاليز»، المراسل الخاص لصحيفة نيويورك تايمز بحسب ما ورد في كتاب «الخوف السائل» قائلًا: «منذ أن محت الرياح والمياه الأحياء والمدن على ساحل الخليج، كان هنالك شعور بأن العِرق والطبقية علامتان ضمنيتان تمیزان الناجين والضحايا. وكما الحال في الدول النامية، حيث يتضح الفشل الذريع في سياسات التطوير الريفي خلال أوقات الكوارث الطبيعية كالفيضانات والجفاف، قال كثير من القادة القوميين إن بعض المدن الأكثر فقرا في الولايات المتحدة تُركت عاجزة أمام الخطر بفعل السياسات».
«مارتن إسبادا»، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة ماساتشوستس، يؤكد ذلك قائلًا إننا «عادة ما ننظر إلى الكوارث الطبيعية باعتبارها محايدة واعتباطية إلى حد ما، ولكنها كانت دومًا تؤكد أن الفقراء في خطر. من الخطر أن يكون الناس فقراء، ومن الخطر أن يكون الناس سودًا، ومن الخطر أن يكون الناس من أمريكا اللاتينية».
الفيلم الكوري «Parasite» تجسيد حي لهذا التناقض الطبقي الصارخ، كيف أن هناك من يشعر بالسعادة الغامرة للأمطار ورائحتها وألوان القوس القزح، وفي الجهة المقابلة تعني الهلع والغرق في الطين وألوان العفن.
يرى بومان أن الظلم المتزايد ليست مشكلة جانبية عابرة يمكن إصلاحها، وليس نتيجة لأعمال متهورة ومفتقرة إلى الرقابة الكافية، وليس نتيجة لخلل مؤسف، بل مسألة في عمق الجذور عند تأسيس النظام الاقتصادي العالمي الذي يهدف لراحة وسعادة البشرية، أو بالأصح بعض البشرية لا الكل، فالباقي ليسوا مجرد هوامش أو منبوذين، بل «نفايات التقدم الاقتصادي وفضلات العالم الحديث وخارج طوق الفكر الاقتصادي» كما يطلق عليهم بومان بسخرية، مجرد زوائد دودية يريد العالم الخلاص منهم.
من يتحدث بهذه الطريقة إما أعمى، وليس على الأعمى حرج، أو جاهل في عقله مخزون هائل من الأحذية، أحذية المضللين وتجار الأخبار وعبيد المال، أو غبي وعنصري مصاب بجنون الأنا، أو مُتخم يعرف الحقيقة كرشته تصل إلى أسفل قدمه، يرتدي «كرفتة» براقة يضحك على الجاهل والعنصري، أما أنا سأصاب بانهيار عصبي وتقرح في القولون والمرارة وانسداد في الشرايين بسبب هؤلاء الأربعة.
«انطلاقًا من هذا اليأس المقيم، تعرض علينا فرصة لكي نعيد التفكير بآلة يوم الحساب التي صنعناها لأنفسنا. فلا شيء يمكن أن يعود إلى طبيعته»، هكذا تقول الروائية والناشطة السياسية الهندية «أرونداتي روي»، التي كتبت عن العمال الهنود عندما أرادوا العودة إلى قراهم بعد أن طردهم أصحاب العمل ومالكو البيوت، وكأنهم فائض لا ضرورة له، وحين توقفت وسائل المواصلات اضطروا إلى بدء مسيرة طويلة إلى قراهم. مشوا أيامًا وليالي، مئات الكيلومترات، وبعضهم مات في الطريق.
إنهم نفايات العصر الحديث كما سماهم بومان. وبينما كانوا يمشون تلقى بعضهم الإهانة والضرب بوحشية من قبل رجال الشرطة الذين تولوا إنفاذ أمر الحصار ومنع التجول، فأُجبر الشباب على جلوس القرفصاء والقفز كالضفادع على منحدر الطريق السريع. وبالقرب من مدينة باريلي الهندية، جرى تكديس مجموعة كبيرة من الأشخاص ورشهم بمواد كيماوية.
بيل غيتس، في مستهل رسالة مفتوحة نشرها مؤخرًا، يقول إن «هذا الفيروس يذكرنا بالقمع، بأولئك الذين يقضون حيواتهم كلها في الظلم والمعاناة. وفي حين أن الكثيرين يرون كورونا كارثة كبيرة، فإنني أفضل رؤيته مصححًا عظيمًا، مرسَل لتذكيرنا بالدروس المهمة التي يبدو أننا نسيناها، والأمر متروك لنا، إن تعلمناها أم لا».
أما المفكر نعوم تشومسكي فقد أشار إلى أن تراكم المشاكل ما قبل الأزمة فاقم من هذا الوباء، مُحذرًا من أن كابوسًا رهيبًا آت لا محالة، وأن العالم الذي نعيشه اليوم لن يعود كما كان بعد كورونا.
تجنبوا الانهيار، كلنا سنموت: غنوا وارقصوا وتغزلوا واضحكوا
الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك كتب مقالًا بعنوان «دليل النجاة من الحجر في زمن كوفيد»، يوصي فيه: «تجنبوا الانهيار العصبي، افعلوا أي شيء متاحًا الآن، لا تفكروا كثيرًا في الخطط الطويلة، فكروا في اليوم». ويرى جيجك أن «هذا ليس زمنًا للبحث عن الأصالة الروحية».
المدون عبد الله الوهيبي نشر تدوينة بعنوان «المسرات في زمن كورونا»، الجزء الأخير منها عن الطبيب والأديب الأندلسي ابن خاتمة الأنصاري، الذي شهد ظهور وباء الطاعون في الصين وانتشاره في مدنها، فأسعف المرضى والمصابين، ورأى أن النفس البشرية في زمن الوباء بحاجة لأخبار الفكاهة وأشعار الغزل للترويح عن النفس، و«مجالسة من تلهج النفس بحديثه وينصرف الفكر إليه»، ويوصينا بالبعد عن كل ما يحزن النفس ويجلب الهم والغم. حتى أن الدكتورة آن بيترسن توصينا بالتعاطف خلال هذه الفترة فهو المفتاح، لذا حاول أن تهدأ وخذ الأمور ببساطة.
ربما يكون الألم العاطفي شعورًا لا مفر منه في هذه الأزمة، مثل القلق والخوف والحزن والغضب، وإذا أنكرت وجوده أو حاولت قمع مشاعرك ورفضت التعامل معه للتهدئة وضبط نفسك، سيثور عليك فجأة في يوم ما، لأن «أسلوب المواجهة القمعي للعاطفة يزيد من الضغط ويؤدي إلى تكاليف صحية على المدى الطويل» كما يقول «رولف ربير»، أستاذ علم النفس في جامعة أوسلو، وقد يُسهم أسلوب المواجهة القمعي في العديد من الاضطرابات لاحقًا، لأنك ببساطة سجنته ولم تعترف به كشعور.
مشاعرنا المتضاربة في هذه الأزمة تقودني إلى ما ذكرته مجلة وايرد الأمريكية بإشارتها لمرحلة مخيفة، وهي أن الجنس البشري الآن في نفس المركب، ويحاول العيش دون قتل بعضه بعضًا، وربما هذا هو العمل الأكثر أهمية.
أما أنا فلم أخذ شيئًا من الحياة حتى يسلبها مني الكوفيد اللعين، كل ما في الأمر أن صراعاتي الحقيرة باتت مؤجلة إلى وقت غير معلوم.