يحكي «دوغلاس آدامز»، في كتابه «The Salmon of Doubt»، عن بركة ماء صغيرة تستيقظ ذات يوم وتفكر: «يا له من عالم مميز أجد نفسي فيه، إنه يناسبني تمامًا، كما لو كان قد صُنع خصيصًا من أجلي».
هذه الفكرة، التي تبدو مضحكة للوهلة الأولى، تحمل بداخلها منطقًا في رؤية العالم. البركة تستيقظ لتجد العالم مثاليًّا، مناسبًا تمامًا لحياتها كبركة صغيرة. ولأن هذه البركة طوَّرت وعيًا، في الرواية، يسمح لها برؤية ما حولها وتعيين مكانها في العالم، فإنها تنتقل إلى الفكرة التالية: هذا العالم كله مخصص من أجلي.
بنفس المنطق، لكن على صورة أكبر بكثير تشملنا نحن البشر لا برك المياه: لِمَ يوفر كوكب الأرض لنا ما نحتاجه لننجو؟ بل لِمَ يبدو أن الكون كله مخصص لما يتطلبه وجودنا بالضبط؟
الحتمية الطبيعية
يطرح المبدأ الأنثروبي هذه الأسئلة، ويبحث عن تفسير لها. فذلك المبدأ يفترض أن الكون حتمي، بمعنى أن معادلاته وقوانينه الطبيعية مناسبة لظهور أنواع حياة ذكية. من السهل شرح معناه، لكن يصعب تصنيفه: قد يكون سؤالًا علميًّا أو مفهومًا فلسفيًّا أو حجة دينية أو مزيجًا بين هذا كله.
يفيد المبدأ الأنثروبي بأن بعض الظواهر، مثل «ثابت الجاذبية» و«الشحنة الكهربية للبروتون»، و«كتلة الإلكترونات والنيوترونات»، والعالم الطبيعي الذي نعيش فيه، أمور محتومة ومصمَّمة بعناية، وأي ظاهرة منها، لو اختلفت قليلًا، فإن الحياة البشرية بأكملها ستكون مستحيلة، ما يعني أن الكون ضُبِطَ تمامًا ليناسب البشر وحياتهم عليه.
لو لم نكن نملك وعيًا، لما استطعنا أن ندرك تعقيد العالم الذي نعيش فيه ومدى ملائمته لمعيشتنا.
لكن ما هو الأساس الذي بُني عليه هذا المبدأ، بافتراض أن الثوابت الفيزيائية للكون مخصصة تمامًا لتناسب وجود البشر؟ وهل يمكن أن لا يكون للكون علاقة بالمبدأ الأنثروبي، ومن ثم يكون ظهور «الهوموسابيان» (الإنسان العاقل) مجرد عَرَض جانبي غير متوقَّع؟
يحاول «دايفيد باراش»، عالم الأحياء التطوري، أن يجيب عن هذه الأسئلة، في مقال على موقع «Aeon».
موقعنا المميز في الكون
كان عالم الفيزياء الأسترالي «براندون كارتر» أول من صاغ مصطلح «المبدأ الأنثروبي» بمؤتمر عُقِدَ في كراكوف البولندية عام 1973، احتفالًا بمرور 500 عام على ميلاد «كوبرنيكوس»، أول من وضع نظرية مركزية الشمس، وأثبت أن الأرض جرم يدور في فلكها، وذلك في كتابه «حول دوران الأجرام السماوية».
بالنسبة إلى كارتر، فإن «موقعنا في الكون مميز بشكل كبير، للدرجة التي تتوافق مع وجودنا كمراقبين»، أي إنه إذا لم يكن الكون قد انتظم بطريقة تسمح لنا بالوجود، ومن ثم مراقبة الكون، فإننا لن نكون موجودين أصلًا لننبهر بتوافقه مع وجودنا. وهو استدلال عكسي. فلو لم نكن نملك وعيًا، لما استطعنا أن ندرك تعقيد العالم الذي نعيش فيه ومدى ملائمته لمعيشتنا.
لا يوافق جميع العلماء على افتراض أن الظروف الأساسية التي تدعم وجود حياة، ظروف حساسة ودقيقة للغاية.
يشرح عالم الفيزياء الراحل «ستيفن هوكينغ»، في كتابه «تاريخ موجز للزمان» عام 1988، عددًا من الثوابت الفيزيائية والظواهر التي تتوافق مع المبدأ الأنثروبي. إذ يرى أنه «لو كانت طاقة تمدد الكون بعد ثانية من الانفجار العظيم، أقل بجزء من مئة ألف مليون مليون جزء، لانهار الكون على نفسه قبل أن يصل إلى حجمه الحالي»، ما يعني أن حدوث أي تغير طفيف يحيل الانفجار العظيم إلى انسحاق شديد.
قد يهمك أيضًا: كيف غيَّر ستيفن هوكينغ طريقتنا في النظر إلى الكون؟
قدَّم الفيزيائي الأمريكي «روبرت ديكي»، في عام 1961، أمرًا آخر يدعم المبدأ الأنثروبي، حين أشار إلى أن عمر الكون الآن 14.5 مليار سنة تقريبًا، ويبدو أنه يقف الآن في فترة عمرية مثالية، ليست كبيرة جدًّا ولا صغيرة جدًّا، لكنها مناسبة تمامًا.
لو كان الكون أصغر عمرًا، أي لو حدث الانفجار العظيم في وقت أقرب، فلن يكون هناك وقت كافٍ ليُولِّد الإندماج النووي عناصر أثقل من الهيدروجين والهيليوم، وهذا يعني عدم وجود الكربون والأوكسجين والنيتروجين والحديد، ولن تكون هناك كواكب صخرية متوسطة الحجم، ومنها كوكبنا.
لو كان عمر الكون أكبر، فإن معظم النجوم كانت ستصير أقزامًا بيضاءً وحمراء، وينفد كل وقودها، ويختفي توهجها، وفقًا لتصنيف النجوم على أساس خصائصها الطيفية، وستكون أكبر عمرًا بكثير من أن تظل جزءًا مما يطلق عليه الفيزيائيون الفلكيون: «التسلسل الأساسي». والتفاعلات الأساسية التي تجمع بين الكتلة والطاقة والجاذبية والتجاذب والتنافر الكهرومغناطيسي والقوى النووية القوية والضعيفة، تبدو متوازنة تمامًا لما تحتاجه عملية إنتاج المادة، ومن ثم الحياة.
لكن بالطبع، لا يوافق جميع العلماء على افتراض أن الظروف الأساسية التي تدعم وجود حياة، ظروف حساسة ودقيقة للغاية، إذ يجادل «فريد آدمز»، عالم الفيزياء الفلكية بجامعة ميشيغان، في أن معالم الكون الذي نعيش فيه، يمكنها أن تكون مختلفة تمامًا بسبب عوامل كثيرة، ومع ذلك تظل مناسبة لتكوُّن نجوم ووجود حياة.
يجب ملاحظة أن المبدأ الأنثروبي يأخذ شكلين أساسيين: قوي وضعيف. المبدأ الضعيف كما أشار كارتر، يفترض أن الظروف التي يمكننا ملاحظتها في الكون، هي التي ضمنت وجودنا. بمعنى أنه، إن لم تكن هذه الثوابت بالشكل التي هي عليه، فإننا لن نكون هنا لنقلق حيالها. تشكل النسخة الأضعف من المبدأ الأنثروبي لغزًا منطقيًّا. أما المبدأ القوي، فيختلف كثيرًا لأنه يحمل في جوهره معنىً دينيًّا يفيد بوجود قوى أخرى إلهية، وهو ما يصدقه من يؤمنون بوجود إله، ويرفضه الآخرون.
هل هي عملية عشوائية؟
أثار المبدأ الأنثروبي بنوعيه القوي والضعيف اهتمام كثير من العلماء، ومنهم «آينشتاين»، إذ تساءل ما إذا كان هناك خيار آخر غير الشكل الحالي للكون، وما إذا كانت الخصائص المتعددة للكون الفيزيائي، مثل سرعة الضوء وشحنة الإلكترون والبروتون، ثابتة فعلًا أم هناك بدائل. نحن حتى الآن، لا نعرف ما إذا كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يعمل بها الكون، لأننا لم نجرب غيرها.
قد يعجبك أيضًا: كيف هزم رجل دين آينشتاين؟
يبدو الأمر غريبًا عندما نفكر في أننا مجرد نتيجة عملية عشوائية بحتة. وجدنا أنفسنا نحتل الكوكب الثالث بُعدًا عن الشمس، والذي يحتوي على كمية مناسبة من الأوكسجين والماء ودرجات الحرارة المناسبة، وغير ذلك. الأمر الأكثر إدهاشًا أن الأرض لحسن الحظ ليست عملاقًا غازيًّا، وأنه مهما يكن طول شخص ما أو قِصره، فإن ساقيه دائمًا ما تكونان بما يكفي من الطول لتستقرا على سطح الأرض.
يقترح علينا الفيلسوف الإنجليزي «نيال شانكس» أن نتخيل أمامنا ورق كوتشينة، ثم نخلط الأوراق بعشوائية ونُقلِّبها. ما هي إمكانية أن تتمكن من التنبؤ بالتسلسل الكامل للأرواق دون أي محاولة للغش؟
فرصة أن يصيب تخمينك للورقة الأولى هي 1 على 52. وفرصة أن يكون تخمين أول ورقتين صحيحًا 1/52 × 1/51 = 1/2652. فماذا لو خمنت كل الأوراق وأصبت؟ مع ذلك، من الاحتمالات شبه النهائية، من الوارد فعلًا حتى لو كان الأمر صعبًا، أن يكون تخمينك للأوراق كلها صحيحًا.
كذلك، عند النظر في احتمالات ما قبل حدث بسيط وبعده، مثل موقع كرة غولف قبل أن يضربها اللاعب. يتطلب الأمر معجزة لنعرف أين ستستقر الكرة في النهاية، لكن النتيجة، أيًّا ما تكون، لا تبدو معجزة لنا إطلاقًا، لأن ملعب الغولف مناسب لحركتها، وهي بالتأكيد ستستقر في مكانٍ ما في نهاية الأمر. يبدو الأمر مشابهًا لاندهاشنا من حقيقة وجودنا في كون يسمح بوجودنا. ففي رأي نيال شانكس، كان لا بد لنا من أن ننتهي في المكان الذي يناسبنا أكثر. لأننا لو كنا في مكان آخر، لن نكون موجودين أصلًا لنندهش.
لا يقترب الكون من الكمال إطلاقًا، لكن مثل جسم الإنسان مناسب بما يكفي لضمان وجودنا.
تقدم الفيزياء تفسيرات أخرى، ومنها فرضية «الأكوان المتعددة»، التي يصعب فهمها قليلًا، فهي تعيد النظر في احتمالات ما قبل الحدث وبعده. إذ يرى الفيزيائي الفلكي «مارتن رييس» أن «الكون ومتجر الملابس يجمعهما شيء مشترك، عندما تدخل إلى متجر كبير ذي تشكيلة متنوعة من الملابس، فإنك لن تفاجأ إذ وجدت رداءً يناسبك تمامًا. وبالمثل، إن وجودنا في كون يناسبنا تمامًا من بين عدة أكوان أخرى، لا يجب أن يثير دهشتنا».
يقترح شانكس أن فرضية الأكوان المتعددة تفعل بالمبدأ الأنثروبي، ما فعلته فرضية كوبرنيكوس لرؤية الأرض مركزًا ثابتًا للكون. بعد كوبرنيكوس و«كيبلر» و«غاليليو» وغيرهم، أصبحنا ندرك أن الأرض مجرد كوكب واحد من بين عدة كواكب أخرى، في مجرة واحدة ضمن مجرات أخرى.
ربما نسكن كونًا واحدًا من بين كثيرين آخرين. افترض كوبرنيكوس أن المدارات الكوكبية تأخذ شكل دوائر مثالية، وافترض غاليليو الأمر نفسه. حتى أتى عالم الرياضيات والفلك «يوهانس كيبلر»، وأظهر لنا أنها بيضاوية، وليست دائرية.
قد يهمك أيضًا: كوكب الأرض يطلب منا التوقف عن الإنجاب
تقترح «ميكانيكا الكم» كذلك تفسيرًا آخر لأحد ألغاز المبدأ الأنثروبي، وهو تفسير يبدو أغرب من فرضية «الأكوان المتعددة».
ماذا لو حدث انتقاء طبيعي للمجرات، أو حتى للأكوان، بحيث إن الأكوان التي توفر احتمالات حياة أفضل، هي الأكثر عرضة لتكرار أنفسهم؟
لو كان هذا الأمر صحيحًا، فبمقارنة عدد المجرات التي لا تضمن وجود حياة، لا بد من أن يكون هناك عدد كبير من المجرات التي تضمن وجود حياة، ما يوفر فرصًا أكبر لحيوات مثل حياتنا. يقترح الفيزيائي النظري «لي سمولين» فكرة «الانتقاء الطبيعي الكوني»، إذ لا تقتصر الأمور على المجرات وحسب، بل أكوان كاملة تكرر نفسها. ولو كان هذا صحيحًا، فربما يفسر وجود ثقوب سوداء، لأنها غالبًا ستكون الطريقة التي تتكرر بها الأكوان.
كل هذه الاحتمالات والتفسيرات بعض مما يثيره المبدأ الأنثروبي. وحتى لو لم نختر إجابة بعينها، فإن ذلك المبدأ نجح بشكل ما في توسيع إحساسنا إلى ما هو أبعد وأكبر من أنفسنا. مع ذلك، فإن الإدراك متضارب المشاعر بأننا لسنا مركز الكون، لا يجب أن يسبب لنا شعورًا بالضآلة أو اليأس، لأن كوكبنا ومجرتنا وكوننا يضمنون وجود حياة عليه، ومن ثم وجودنا، وهذا ما يهمنا بالفعل.