لا يد لنا في ترتيب الحكاية، لكن القصيدة محاولة لإعادة ترتيبها، لاستدراجها نحو نهاية مغايرة ينكشف عندها المعنى. ولأن المعنى يتبدل في كل زاوية نقف فيها، يقف الشاعر في كل الزوايا.
يتلاشى الخط الفاصل بين الخاص والعام حينما تكتب الحكاية، تتسع التجربة لتشمل الآخر، وفي اللحظة التي يلتقي فيها بطلان لحكايتين مختلفتين على الصفحة ذاتها، تكون الحكاية واحدة.
حين تمتد القصيدة على مر الزمن، يكون امتدادها امتدادًا للتجربة. ربما هذا ما يردم المسافة بينها وبين الآخر الذي تنطوي عليه. هكذا تكون القصيدة وشمًا بالذاكرة، كبيت شعر ينساب بين العادي واليومي مثل:
اللي يبينا عيت النفس تبغيه
واللي نبيه عيا البخت لا يجيبه
حفظت هذا البيت قبل معرفتي بشاعرته، الشاعرة التي اشتهرت بقصيدة يتضح فيها الوجع بشفافية تشي بحكايتها، أكتب عنها لمحاولة فهم التجربة التي حرضت القصيدة، القصيدة التي ظلت تتردد لتجدد التجربة.
«يا من لقلب حب نورة تغشلاه»
الشاعرة نورة الحوشان من قرية عين قنور التي تقع بين القصيم والدوادمي، تزوجت في شبابها من عبود بن سويلم وكان شاعرًا هو الآخر، أنجبا وعاشا في حب إلى أن طلقها زوجها في حالة غضب، وكان ذلك طلاقهما الثالث، وحينما تلاشى غضبه وأدرك حجم الخسارة، قال قصيدته التي يعني فيها نورة:
يا من لقلب حب نورة تغشلاه
يومي به أو ماي الهوا بالشراعِ
إن نمت عندي وان تنبهت ما ألقاه
ما أسج عن طرياه لو كان واعي
قلبي دوى به داه ما يسمع إنداه
إلى سمع من ينهاه طقه جلاعِ
عليك يا اللي كن واضح ثناياه
يردى قنوف يوم هل النواعِ
يا من يعرف السحر هو وين مجناه
هو حب ولا ولف ولا انهزاعِ
ظلا يضمران حبًا لبعضهما، لم يتغير بمرور الزمن. تقدم الكثير لخطبة نورة التي كانت ترد بالرفض، إلى أن تزوجت من ابن أخي زوجها السابق، خالد بن سويلم.
وفي يومٍ ما، حينما مرت نورة على مزرعة زوجها السابق، بدا لها كل شيء في مكانه القديم إلا هي، حينها قالت قصيدتها الشهيرة:
يا عين هلي صافي الدمع هليه
وإلى قضى صافيه هاتي سريبه
ياعين شوفي زرع خلك وراعيه
هذي معاويده وهذي قليبه
البارحة لا مال رايه نماليه
واليوم جيتهم علينا صعيبة
إن مرني بالدرب مقدر أحاكيه
مصيبة يا كبرها من مصيبة
اللي يبينا عيت النفس تبغيه
واللي نبيه عيا البخت لا يجيبه
لم تشتهر نورة الحوشان بالشعر قبل زواجها، ولأنها لم تختر نهاية لحكايتها، كانت قصيدتها محاولة لفهم النهاية. اكتسبت نورة شهرتها في الشعر بعد هذه القصيدة، كان الوجع بابًا على الشعر، وكان الشعر وحده قادرًا على وصف الوجع، وكانت نهاية حكايتها بداية للقصيدة.
كغيرها من النساء، لم تكتفِ بمحاولات القدر لترتيب حكايتها، احتفظت بدور البطولة كامرأة تعرف الحب وتعيد تعريفه، حتى صارت قصيدتها امتدادًا لحكايا نساء أخريات.
كانت القصيدة محاولة لمحاكاة تجربة نورة، لكنها ظلت تتردد في الحكايا التي لا يتسنى لها الاكتمال، تشير لانعطافات القدر، تلمح الغياب الذي يخطف وجه الحضور، تكشف عن احتمالات الضياع في كل حكاية.