حول التفاضل بين اللغات: علاقة الفرد الحميمة مع لغته

الصورة: Elaine Smith

فهد راشد المطيري
نشر في 2020/02/16

اختر أي شخص أو أي شيء من محيطك الخاص ولن يكون أقرب إليك من لغتك. حين نريد التعبير عما يجول في ذواتنا للآخرين، نستخدم رموزًا على شكل أصوات أو حروف أو أي نوع آخر من الإشارات المشفرة، أي تلك التي تتضمن معنى محددًا. وحتى حين نتواصل مع أنفسنا بصمت، أي حين نفكر، فإن اللغة تكون حاضرة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

اللغة إذًا وسيلة تواصل الفرد مع ذاته تارة، ومع محيطه الخارجي تارة أخرى، وهي بهذا المعنى حاضرة على الدوام في حياة الفرد، ولا شيء في محيط الفرد له هذا الزخم من قوة الحضور.   

حين تعيش وحيدًا في بلد أجنبي ثم تسمع عن طريق المصادفة أناسًا يتحدثون بالقرب منك بلغتك الأم، فإن مثل هذا الموقف كان يكفي في ما مضى على وجه الخصوص لكي يكون مبررًا مشروعًا للاقتراب منهم والتعرف إليهم. 

التواصل بواسطة اللغة الأم حالة خاصة من التواصل بواسطة لغة مشتركة، ذلك أن ما هو مشترك في اللغة الأم لا يقتصر على شكل اللغة أو حتى مضمونها، بل يذهب إلى أبعد من ذلك. ما هو مشترك في اللغة الأم يتضمن أيضًا شراكة بين فردين أو أكثر في العلاقة الحميمية التي تجمعهما بتلك اللغة. لا ريب أن اللغة الأم وحدها تكفي لخلق هوية اجتماعية، وسرعان ما تتعدى علاقة الفرد الحميمية مع لغته الأم إلى مَن يشاركونه تلك اللغة.

نستمع إلى الحكايات التراثية التي تناقلتها الأجيال جيلًا بعد جيل، ونقرأ التاريخ الذي خطه أسلافنا، فنرى كيف كانوا يفكرون وكيف كانوا يعيشون، مم كانوا يخافون وعم كانوا يدافعون، ماذا كانت آمالهم وإلامَ انتهت خيباتهم. نستمع ونقرأ هذا كله فنشعر بما يجمعنا وإياهم: هوية ثقافية لم يكن لها أن توجد لولا اللغة، فاللغة ليست مرآة الفكر فحسب، بل هي أيضًا ذاكرة التاريخ.

لغة الفرد إذًا تعبر عن هوياته الشخصية والاجتماعية والثقافية، وهذه الهويات مجتمعة هي قوام هويته الحضارية، ومن هنا لا عجب في أن يكون موقف الفرد من لغته الأم منحازًا في أغلب الأحيان، ولا غرابة في من يرون لغتهم الأم أفضل اللغات وأجملها.

أفضل اللغات وأجملها؟

الصورة: pixabay

خلال بعثتي الدراسية في إسبانيا، كان بعض زملاء الدراسة من الإسبان يرددون على مسامعي عبارة تُنسب إلى الملك كارلوس الخامس، وهي: «أتحدث الإسبانية مع الرب، والإيطالية مع النساء، والفرنسية مع الرجال، والألمانية مع حصاني». 

بالطبع لم يكن كارلوس الخامس يريد من تلك العبارة سوى القول بأن لكل مقام مقال، أي أن لكل موقف لغته المناسبة. وإذا كان كارلوس الخامس قد اعتلى العرش الإسباني في القرن السادس عشر، فمن الجائز أنه أراد بذلك أن يقول إن الإسبانية لغة الدين، والإيطالية لغة الرومانسية، والفرنسية لغة السياسة، والألمانية لغة الفروسية. ورغم ذلك، كان أصدقائي الإسبان يرددون تلك العبارة بحماس واعتزاز شديدين، فقد وجدوا فيها ما يؤكد سلامة موقفهم من لغتهم الأم، فهي تبلغ من الجمال والكمال بحيث ترتقي لأن تكون لغة تَخاطب مع الرب.

ارتباط أي لغة بالمقدس يمنحها مكانة تجمع بين الحصانة والتنزيه، وجذور العلاقة بين اللغة والدين ضاربة في عمق التاريخ وممتدة إلى أكثر من حضارة إنسانية. لنقرأ، على سبيل المثال، ما تقوله الباحثة الألمانية سوزان مولايزن في بحث بعنوان «اللغة والدين»:

«هناك علاقة أسطورية طويلة الأمد بين اللغة والمعتقدات الدينية. في كثير من الثقافات والأديان، يُنظر إلى أصل اللغة أو الكلام بوصفه هدية من كائن إلهي للبشرية. في سفر التكوين، على سبيل المثال، نرى آدم وقد مُنح القدرة على تسمية نتاج الخلق. وبالمثل، آلهة مثل الإله توت (أو تحوت) في الأساطير المصرية، وبراهما في الدين الهندوسي، وأودين في القصص الملحمية الآيسلندية، يُنظر إليها كلها بوصفها آلهة خلقت الكلام و(في بعض الأحيان) الكتابة».

هل الإسبانية إذًا أفضل اللغات وأجملها وأشرفها؟ بالنسبة إلى أصدقائي الإسبان، هي كذلك، وبالنسبة إلينا أنا وأنت، العربية أفضل اللغات وأجملها وأشرفها، ولا حاجة إلى تقرير أي الفريقين على صواب، ذلك أن معيار الحقيقة غير وارد في مثل هذه الحالات.

سأوضح ما أعني من خلال تأمل الجملة البسيطة التالية: «وطني أجمل الأوطان». ما قيمة الصواب لمثل هذه الجملة؟ في واقع الأمر، ليس لهذه الجملة قيمة صواب، ذلك أنها جملة لا تشير أصلًا إلى قضية يمكن الحكم بأنها صحيحة أو خاطئة، ويعود السبب في ذلك إلى احتوائها على متغير يفتقر إلى قيمة محددة، وأعني به الياء في كلمة «وطني».

حين يصف أحدنا وطنه بأنه أجمل الأوطان، فإنه لا يرى في وصف غيره لوطنه بالوصف نفسه تنافسًا معرفيًا للوصول إلى الحقيقة.

فمن دون تحديد المرجع الخارجي الذي تشير إليه هذه الياء (مثلًا، زميلي الإسباني أو كاتب هذه السطور)، لا يمكن الحكم بمدى صحتها. 

لنفترض جدلًا أن الياء تعود إلى زميلي الإسباني تارة، وإلى كاتب هذه السطور تارة أخرى، أو بعبارة أخرى: كلمة «وطني» تشير إلى إسبانيا تارة، وإلى الكويت تارة أخرى. ولنطرح السؤال التالي: هل من الممكن أن تكون كلا الجملتين صحيحة؟ من الناحية المنطقية، لا بد أن نجيب عن هذا السؤال بالنفي كي لا نقع في التناقض. ومع ذلك، لا حاجة إلى استدعاء المنطق أصلًا في مثل هذه الحالات، فحين يصف أحدنا وطنه بأنه أجمل الأوطان، فإنه لا يرى في وصف غيره لوطنه بالوصف نفسه تنافسًا معرفيًا للوصول إلى الحقيقة، ولهذا فإن معيار عدم التناقض بين الوصفين غير وارد على الإطلاق، وما ينطبق على الوطن في هذه الحالة ينطبق أيضًا على اللغة.

لكن ماذا لو أصر القارئ على أن اللغة العربية أفضل اللغات، ليس بالنسبة إليه فحسب، بل أيضًا بالنسبة إلى معيار موضوعي لا يملك الجميع إلا الاتفاق على نتيجته؟ 

سأحاول التدليل في ما يلي على الحقيقة التالية، وهي عدم وجود مثل هذا المعيار من الناحية العلمية. لكن ينبغي لنا أولًا أن نتبين المقصود بالتفاضل بين اللغات.

ماذا نعني بالتفاضل بين اللغات؟

لنفترض أن «س» تشير إلى لغة محددة، في حين أن «ص» تشير إلى لغة أخرى مغايرة. ولنتفرض أننا حين نقول إن «س أفضل اللغات» أو «س أفضل من ص»، فإن لدينا تعريفًا مقبولًا لكل من العلاقتين «الأفضل» و«أفضل من».

يمكن لنا الآن، وعلى ضوء هذه الافتراضات المبدئية، أن ننظر إلى مفهوم «التفاضل اللغوي» بوصفه علاقة بين لغتين أو أكثر، بحيث تكون العلاقة إما مطلقة أو نسبية من جانب، وإما عامة أو خاصة من جانب آخر.

يُعبر التفاضل اللغوي عن علاقة نسبية حين يكون التفاضل مقصورًا على عامل متغير أو أكثر (هذه العوامل المتغيرة هي وسائط تبين وجه المقارنة، ولنسمِّها «ن» و«ي»، إلخ). وفي حال عدم تحديد أي عامل متغير أو وسيط، فإن التفاضل اللغوي يعبر عن علاقة مطلقة. من جانب آخر، يعبر التفاضل اللغوي عن علاقة عامة حين يجسد العلاقة «الأفضل»، ويعبر عن علاقة خاصة حين يجسد علاقة «أفضل من».

لدينا حتى الآن مجموعتان من الصفات التي وصفنا من خلالها التفاضل اللغوي: المجموعة «مطلقة، نسبية»، والمجموعة «عامة، خاصة». حاصل الضرب الديكارتي لهاتين المجموعتين يشير إلى أربعة احتمالات ممكنة، وكل منها بدوره يشير إلى معنى محدد لمفهوم التفاضل اللغوي:

  1. علاقة مطلقة-عامة: س هي أفضل اللغات
  2. علاقة مطلقة-خاصة: س أفضل من ص
  3. علاقة نسبية-عامة: في ما يتعلق بالوسيط «ن»، س هي أفضل اللغات
  4. علاقة نسبية-خاصة: في ما يتعلق بالوسيط «ن»، س أفضل من ص

على ضوء هذه المعاني الأربعة لمفهوم التفاضل اللغوي، وحده المعنى الرابع يبدو ممكنا من الناحية العلمية. المعنيان الأول والثالث لا يحظيان بدعم أي دراسة علمية، فعدد اللغات حول العالم يتراوح بين 6 إلى 7 آلاف لغة، وليست هناك دراسة علمية تمكنت من فحص كل اللغات البشرية لتدعي أفضلية لغة ما على سائر اللغات الأخرى، سواء كانت الأفضلية مطلقة أو نسبية.

بالمثل، المعنى الثاني لا يحظى بدعم أي دراسة علمية، بل إن مثل هذه الدراسة غير ممكنة، ذلك أن حصر الخصائص التي تتصف بها أي لغة يشير إلى عملية بحث مستمرة، والادعاء بأن اللغة «س» أفضل من اللغة «ص» يقتضي حصر كل الخصائص اللغوية التي تتصف بها كل من «س» و«ص»، وهذا أمر غير وارد على الإطلاق. ومن جانب آخر، إذا استبعدنا افتراضنا السابق حول وجود تعريف محدد لمعنى الأفضلية في علاقة «أفضل من»، فإن التفاضل اللغوي في هذه الحالة يصبح مستحيلًا.

سبق أن أشرنا إلى أن معنى التفاضل اللغوي الرابع يبدو ممكنًا من الناحية العلمية، وهذا صحيح، ذلك أن بإمكاننا إجراء تفاضل بين لغتين على ضوء خصيصة لغوية أو أكثر، لكن ينبغي التذكير هنا بالحقيقة التالية: حتى مع افتراض وجود تعريف مقبول لمعنى علاقة «أفضل من»، تظل هذه العلاقة علاقة تبادلية: «س» أفضل من «ص» في ما يتعلق بالوسيط «ن»، في حين أن «ص» أفضل من «س» في ما يتعلق بالوسيط «ي». 

إذا كان هذا صحيحًا، فإن من المستهجَن أن تكتفي دراسة بالإشارة إلى وجه واحد فقط من هذه العلاقة التبادلية، وهو ما يثير الشك في أن الغرض من الدراسة لا علاقة له بعقد مقارنة علمية تتصف بالحد الأدنى من النزاهة، بل فقط إثبات نقطة تخدم أيديولوجية معينة. ومن المؤسف القول إن هناك دراسات لأكاديميين عرب حول اللغة العربية، وتنحَى هذا المنحَى غير العلمي. 

هل لغتنا العربية أفضل اللغات وأجملها؟

كل لغة لها جمالها الخاص، وكل لغة أفضل من الأخرى في ظل تعدد وجه الأفضلية. ولو كانت العربية هي الأجمل فلأنها لغتنا، ولو كانت الإسبانية الأجمل فلأنها لغتهم، ولن يستطيع أحد إثبات ذلك بواسطة معيار علمي، ذلك أنه لا وجود لمثل هذا المعيار.

حين يصف شاعران جمال امرأة، فإن ما يعنينا هنا لا يتعلق بمدى تطابق كلا الوصفين مع الواقع، فالشعر ملَكة إبداعية لها أن تتجاوز حدود العلم والمنطق، والموقف العاطفي من اللغة الأم له ما للشعر في هذه الحالة. ومن جانب آخر، حين نصف وطننا بأنه أجمل الأوطان، لا نجد تناقضًا في وصف الآخرين لأوطانهم بالوصف نفسه، وهكذا ينبغي أن يكون الحال مع الموقف من أي لغة.

مواضيع مشابهة