أطروحة اللاعقل: لا يوجد ما يدعى عقل أو عقلي

الصورة: Getty - التصميم: منشور

محمود رشاد
نشر في 2021/12/07

يجادل جو غوف طالب الفلسفة في جامعة ساسكس الإنجليزية في مقاله على موقع أيون بأن مصطلحي «العقل» و«العقلي» فوضويان، مؤذيان، يشتتان، ولا بد لنا من التخلص منهما.

يطرح غوف طرحًا مثيرًا للجدل وهو أنه ليس هناك شيء يدعى عقل، ولا شيء يدعى عقلي، حتى ولو كنا نفكر، ونشعر، ونعتقد، ونشتهي، ونحلم. ويدعونا أينما نواجه مصطلحات عقل وعقلي، ولا سيما حينما تحمل كثيرًا من الحمولة المثيرة للجدل، أن نتساءل عما تعنيه حقًا، ونسأل أنفسنا: ما المواربة التي تختفي تحت السطح؟

«ليس هناك شيء يدعى عقل، ولا شيء عقلي»

الصورة: Getty

يبدأ الكاتب مقاله بقوله إنه ربما أخبرك أحدهم من قبل أن شيئًا ما ظننته أو شعرت به أو خشيته، هو «كله في عقلك». وأنه هنا ليخبرنا شيئًا آخر: «ليس هناك شيء يدعى عقل ولا شيء عقلي». يدعو غوف هذا «أطروحة اللاعقل». 

ثم يوضح أن أطروحة اللاعقل تتوافق في كليتها مع فكرة أن الناس واعون، وأنهم يفكرون، ويشعرون، ويعتقدون، ويشتهون، وما سوى ذلك. أما ما لا تتوافق معه هو مفهوم أن تكون واعيًا، وتفكر، وتشعر، وتعتقد، وتشتهي وما سوى ذلك هو عقلي، جزء من العقل، أو من عمله.

ويؤكد أن أطروحة اللاعقل لا تعني أن الناس «مجرد أجساد»، بل يشدد على أن ذلك يعني أنه عندما نقابل شخصًا كاملًا، ينبغي علينا ألا نفكر أنه يمكننا فصله إلى «عقل» و«جسد»، أو أن سماته يمكن أن تقسم ما بين «العقلي» و«غير عقلي».

ويلفت إلى أن اللغة الإغريقية الهوميرية تغيب عنها المصطلحات التي يمكن ترجمتها مباشرة إلى «عقل» و«جسد». مضيفًا أنه في اللغة التي كتب بها هوميروس نجد أن الأشخاص مجموعات مترابطة متصلة، مثلما في «الروح داخل صدري تقودني» و«يداي وذراعاي يطيعان»، في نظرة مماثلة للكائنات البشرية كحزمة كبيرة متداخلة من المنظومات الذكية في تواصل شبه دائم، والتي تعضدها علوم الإدراك والبيولوجيا بشكل متزايد.

ويردف غوف أن مصطلحي العقل والعقلي يستخدمان في مناحي عديدة للغاية، ولهما تاريخ متنوع يحملان فيه ما هو أكثر من المعنى، مشيرًا إلى أن أفكار العقل والعقلي غامضة ومضللة، ولا سيما في المجالات المهمة العديدة من العلوم والطب.

تعدد المعاني يؤدي لخلط مؤذ وتشبيهات ضارة

ينفي غوف أن أطروحته عن اللاعقل تنكر أن الناس يتحدثون عن شيء ما عندما يتحدثون عن العقل والعقلي، بل على العكس، يقول إنهم غالبًا ما يتحدثون عن أشياء كثيرة في نفس الوقت.

فيوضح أنه عندما يتحدث الناس أحيانًا عن «العقل»، فإنهم يعنون الوكالة أو الأهلية (Agency)، وأحيانًا أخرى الإدراك (Cognition)، بينما آخرون يقصدون الوعي (Consciousness)، والبعض في الحقيقة استخدامهم «عقلي» يقصد Psychiatric أي ما يتعلق بالطب النفسي أو نفساني، وآخرون يقصدون نفسي (Psychological)، فيما لا يزال آخرون يقصدون اللامادي (Immaterial)، ومع ذلك فهناك آخرون يقصدون شيئًا آخر.

ويرى غوف أن ما يصفه بالضبابية المفاهيمية قاتل للمنفعة من فكرة «العقل». وحتى نكون منصفين، كما يقول، فإن كثيرًا من المصطلحات تبني جسورًا، ويوضح أن ذلك معناه أنها تعرض قدرًا معينًا عامًا من الغموض غير المؤذي يدعى تعدد المعاني (Polysemy)، مع معاني مختلفة إلى حد ما في السياقات المختلفة.

العقل والعقلي لهما معانٍ مختلفة: أحيانًا تكون مبطنة، وأحيانًا ليست مبطنة كثيرًا.

تعدد المعاني يربط مجالات متفاوتة من البحث والممارسة معًا، محفزًا على إدراك التشابهات والتقاربات. ويضرب غوف مثالًا على ذلك بأنه إذا كان علماء الكمبيوتر يتحدثون عن الحوسبة (Computation)، فإنهم عادة يعنون شيئًا مختلفًا إلى حد ما عما يعنيه المهندسون، أو علماء الإدراك، أو أحدهم يتحدث مع صديق. وتربط سعة مفهوم الحوسبة كل هذه النقاشات معًا، لتساعدنا في تحديد المشترك بينها.

المشكلة في رأيه هي أن صنع مثل هذه الروابط لا يكون فكرة طبية على الدوام. فمع أنها تحفز أحيانًا على وجود تفاعلات إبداعية بين مجالات تخصصية مختلفة، وتقدم تشبيهات كان ليصعب رصدها لولا ذلك، فإن هناك حالات أخرى من تعدد المعاني تؤدي إلى خلط مؤذ وتشبيهات ضارة، وتجعل الناس يتكلمون عن موضوعات مختلفة، أو تجعلهم منغمسين في الدفاع أو الهجوم على مفاهيم معينة، بدلًا من التعرف إلى أهدافهم المشتركة. ويحذر غوف من أن هذا يمكن له أن يفاقم من سوء التفاهم والوصم.

جسور آن أوان إحراقها

الصورة: The New York Times

عودة أخرى لمصلحي العقل والعقلي، إذ يقول الكاتب إنهما من أكثر المصطلحات المنتشرة تعددًا في المعنى. المحامون يتحدثون عن قدرة «عقلية»، والأطباء النفسيون يتحدثون عن «المرض العقلي»، وعلماء الإدراك يزعمون أنهم يدرسون «العقل»، كما يفعل علماء النفس، وكذلك بعض الفلاسفة، وكثير من الناس يتحدثون عن «مشكلة الجسد-العقل»، وكثيرون يتساءلون عما إذا كان من الصواب أكل الحيوانات اعتمادًا على ما إذا كان «لديها عقل». وهذه أمثلة قليلة فقط، كما يقول. وفي كل حالة، العقل والعقلي لهما معانٍ مختلفة: أحيانًا تكون مبطنة، وأحيانًا ليست مبطنة كثيرًا.

ويؤكد أنه في كل النطاقات ذات الأهمية الكبيرة، فإن الوضوح مهم، مضيفًا أن هناك كثيرًا من الأشخاص مستعدون جدًا لتصديق أن مشاكل «المرض العقلي» هي «كلها في عقلهم». ويقول إنه لم يسمع عن أي شخص شك أن مشكلة القلب يمكن أن تؤدي لمشكلة خارجه، لكنه دائمًا ما يكون عليه أن يشرح للأصدقاء والعائلة أن المرض «العقلي» يمكن أن يكون له تأثيرات بدنية خارج «العقل».

ويطرح تساؤلًا: لِم يجد الناس كثيرًا أحد الأمرين أكثر غرابة ومفاجأة من الآخر؟ ويجيب عن ذلك بأن هذا ﻷن كثيرًا من الجسور التي مُدت بواسطة العقل والعقلي هي جسور آن أوان إحراقها، إلى الأبد.

ويقول إن الطبيب والمحلل النفسي «وناقد الطب النفسي» توماس ساس يجادل بأنه ليس هناك مرض عقلي، بل يعتقد أن المرض العقلي «مشكلة معيشة»، أشياء جعلت من العيش الطيب صعبًا ﻷنها تتعلق بالأزمات الشخصية والعادات السيئة والإخفاقات الأخلاقية. من ثم فإن المرض العقلي هو المسؤولية الشخصية لمن يعانيه. وعليه، يزعم ساس أن الطب النفسي ينبغي أن يلغى كمجال طبي لأنه لا يوجد ما يعالجه. فإذا كانت أعراض الشخص لها أساس بدني في المخ وليست «عقلية»، وإذا كانت الأعراض ليس لها أساس فسيولوجي، كما يزعم ساس، فإنها لا ترقى ﻷن تكون «مرضًا» حقيقيًا.

«المرض العقلي» مجرد مرض الطب النفسي معد للتعامل معه

لقطة من فيلم One Flew Over the Cuckoo's Nest - الصورة: Fantasy Films

يوضح غوف أن هذه الحجة اعتمدت كثيرًا على فكرة أن الأمراض العقلية بعيدة تصنيفيًا عن الأخرى «النفسية»، مشددًا على أنها حالة توضح كيفية ازدواج دلالة العقل، وترتبط بنظريات ميتافيزيقية معنية عن العقلي، يمكن أن تستجلب خطأً في الطب النفسي. ويؤكد أنه مع هذا فإن كثيرًا من الأمراض العقلية لها أسباب وأثار فسيولوجية، وحتى تلك التي ليس لها سبب فسيولوجي واضح تستدعي تدخلًا طبيًا في المعتاد، ﻷن الناس يعانون من أعراض لا تزال تستحق المساعدة الطبية.

على العكس من ساس، يعتقد غوف أن المرض العقلي هو عقلي فقط بمعنى أنه نفساني، وأن الفهم العادي للعقل، وما هو وما ليس منه، ليس له علاقة بهذا.

عندما يتحدث الناس عن «العقل» و«العقلي» في الطب النفسي، فإن فكرته الأولى دائمًا كما يقول تكون «ما الذي نعنيه تحديدًا؟»، أي معانٍ لـ العقل و العقلي تُطرح؟ ما المنطقة التي يحاولون التقرب إليها؟ أي جسور يحاولون عبورها؟

يقول الكاتب إن «المرض العقلي» مجرد مرض الطب النفسي معد للتعامل معه، موضحًا أنه محدد بكثير من اعتبارات الممارسة بشأن المهارات التي يقدمها الأطباء النفسيون، بقدر ما هو محدد من قبل العوامل النظرية والفلسفية.

«ألمك المزمن مرض عقلي»

الصورة: wikimedia

يطرح غوف أيضًا أن المقترب البراغماتي يتخفى وراء التقرب إلى «المرض العقلي». وفي كثير من السياقات، يميل المصطلح عقلي ﻷن يجلب دلالات وصم غير لائقة، فيما يظهر أن الجسور الخاطئة قد مدت.

ويضرب مثالًا آخر، نتخيل فيه أنكِ تعانين من ألم مزمن طويل المدى، وتذهبين إلى سلسلة من الأطباء. بحلول هذه النقطة، ولأنكِ فرد من جماعة مهمشة (امرأة أو شخص ملون، مثلًا)، يمكن للأطباء أن يقللوا مما تقولين أو لا يصدقونك، وربما يفترضون أنك تبالغين في ألمك، أو ربما أنكِ مصابة بوسواس المرض. وبعد بعض الفحوص وبعض الأسئلة، يقال لك إن ألمك المزمن مرض عقلي، ويحولونك إلى طبيب نفسي. الطبيب النفسي، كما يقال لك، لن يصف لك أدوية أو جراحة، لكنه سيصف لك علاجًا نفسيًا، معروف أيضًا باسم «العلاج بالكلام»، وأحيانًا «العلاج العقلي».

ربما تظنين، ولك بعض المنطق، أن الطبيب لا يصدقك أيضًا. أنت تعلمين أن هناك شيئًا ما خاطئ، وألمك حقيقي، لكن الطبيب هنا يخبرك أن ألمك عقلي، وأنكِ في حاجة إلى علاج عقلي. ربما يظنون أن لديك وهم، أو أنكِ تكذبين بسبب اضطراب شخصية ما؟ وبينما أنتِ تدافعين عن واقعية حالتك بإقناع الأصدقاء والأسرة والزملاء، ناهيك بالمتخصصين الطبيين، وهو يقول إن ألمك ليس «عقليًا».

«عقلي» قد تكون نقيض حقيقي أو بيولوجي أو جسدي

ويضيف غوف أن صحيفة الغارديان نشرت مؤخرًا سلسلة من المقالات تبحث الألم المزمن، إحداها كانت بعنوان «المعاناة من ألم مزمن دائمًا ما كان يقال إن كله في الرأس. نعلم أن هذا خاطئ».

وفي مقالات أخرى واسعة الانتشار عن الموضوع، كان التحويل إلى طبيب نفسي يرى أنه معادل لعدم التصديق والإهمال، أو وصفًا بالمعاناة من وسواس المرض. وهناك من يدعون إلى ألا يعتبر الألم العضلي الليفي المتفشي أو الفيبرومالغيا (حالة تسبب ألمًا مزمنًا) حالة نفسية ﻷنه «حقيقي» وليس «متخيلًا».

يقول غوف إنه من المفهوم أنه قد ينتابك الانزعاج لاعتبار حالتك «مرضًا عقليًا». لكن ماذا عن الأطباء؟ ما الذي يريدون أن يأتيك من هذا التفاعل؟ ربما يصدقون قطعًا أنك تعانين ألمًا لا إراديًا شديدًا، سببه فرط تحسس الجهاز العصبي المحيطي نتيجة «إعادة التوصيل». الألم الناتج عن إعادة توصيل النظام العصبي يدعى أيضًا «ألم التحسس المركزي»، الذي اعتُرف به مؤخرًا تصنيفًا طبيًا مهمًا من الألم.

ويقول إنهم لا يظنون بالضرورة أنكِ تكذبين أو متوهمة، ففي التذرع بـ«المرض العقلي»، ما ربما ظنوا حقًا أنه من الأفضل مداواته بالعلاج النفسي، وأن أفضل من يديره ويفهمه هو الطبيب النفسي.

بغض النظر عن مشروعية انزعاجك، كما يقول، ربما يكون طبيبك محقًا أيضًا. ويوضح الكاتب أن مصطلح عقلي في جملة «مرض عقلي» يعني نفساني أو متعلق بالطب النفسي (Psychiatric) فحسب. ويردف أن الأطباء ربما كانوا يعلمون أن الأطباء النفسيين والباحثين في الطب النفسي مستمرون في لعب دور في الدراسة المعترف بها لألم التحسس المركزي، وربما يكون لديهم تفاؤل بشأن فعالية العلاج النفسي، لأنهم يعلمون أنه فعال في تخفيف الكثير من أعراض الألم العضلي الليفي المتفشي والألم المزمن، وربما حتى إلى تقليل الألم نفسه. ربما يكونون حتى قرأوا مراجعة حديثة وجدت أن العلاج النفسي يمكن أن يكون فعالًا كسبيل للتدخل في النظام المناعي، فعالًا إلى حد تخفيف الالتهاب المصاحب لروماتيزم المفاصل مثل الأدوية الشائعة.

يوضح غوف أنكِ والطبيب أو الطبيبة ربما تتفقان فعلًا بشأن طبيعة حالتك، ومع هذا فأنت تشعرين بخذلان مفهوم بعد تحويلك إلى طبيب نفسي.

المشكلة، كما يطرح غوف، هي فكرة أن الطب النفسي يتعامل مع «الأمراض العقلية»، الاضطرابات في العقل. والفكرة الشائعة أن الأمراض العقلية هي اضطرابات في العقل، والطب النفسي يعالج المرض العقلي.

ويضيف إنه إذا نظرنا في القواميس والكتب الدراسية وتصنيفات التشخيص، فهذا هو تصنيف الطب النفسي ومجاله الذي سنجده. ويذهب غوف إلى أن المشكلة الأساسية هي أن الـ عقل والـ عقلي يأتيان بارتباطات غير لائقة على نطاق واسع في التشخيص في المجال الطبي، موضحًا أن «عقلي»، في نهاية الأمر، يمكن أن تكون نقيض «حقيقي»، أو «بيولوجي»، أو «جسدي».

يؤكد الكاتب أن لدينا مشكلة في سوء التواصل، تنبع من فوضى أفكار العقل والعقلي. المصطلحان عقل وعقلي يمكن أن يستخدما في كثير من السبل، ويمكن أن يحملا الكثير من المعاني المختلفة، فأحيانًا يشيران إلى قصور في الواقعية، وأحيانًا إلى علاقة بالطب النفسي، وأحيانًا يعنيان شيئًا مختلفًا تمامًا.

يطرح غوف تخيلًا، أن تخبرك طبيبتك أنك مصاب بـ«مرض نفسي»، لكنها تشدد على أن النفسي ليس «عقليًا» في أي منحى مهم. تخيل إذا قيل لك إنه ربما يوصف لك «العلاج بالكلام»، مع التشديد على أن كثيرًا من الحالات التي ليست «في العقل» يمكن أن تتغير بالعلاج بالكلام أو العلاج النفسي، الذي يمكن أن يؤثر على كل «الأعصاب» تقريبًا، والأجزاء اللينة من الإنسان. ولنتخيل، على نحو أكثر تفاؤلًا حتى، أن الناس لا يستنتجون تصنيف أن المرض نفسي يجعله عقليًا بشكل تلقائي، أو يظنون أنه ﻷن الحالة يمكن أن تتأثر بالحالات «العقلية» مثل معتقدات المرء أو توقعاته، فهي إذًا غير بيولوجية أو غير جسدية أو «كلها في العقل».

يقول غوف إن عدم جلب أفكار العقل والعقلي يجعل التواصل أكثر سهولة كثيرًا، فربما تخرج من محادثة مع طبيبك وأنت تشعر أنك مُصدّق، وأنه يمكن للطبيب النفسي مساعدتك. ومع هذا فإن طبيبك لم يفعل شيئًا مختلفًا في الحقيقة، فيما سوى تسكين تخوفك من أن مرضك لا يؤخذ بجدية، بينما مسار الفعل في ما غير ذلك هو نفسه تمامًا.

الاكتئاب والشيزوفرينيا ليست «موجودة في عقلك» أقل من الألم المزمن

الصورة: Getty

وبينما يمكن أن يكون الألم المزمن نفسيًا، ليس تخيليًا أو غير بيولوجي، ومصطلحات عقل وعقلي تشوش هذه الأمور معًا، فإن مشاكل العقل والعقلي ليست قاصرة على علاج الألم المزمن، بل يؤكد غوف أنها تضيف إلى الوصم المحيط بالأمراض النفسية الأخرى بوصفها «عقلية» أيضًا: «الاكتئاب والشيزوفرينيا ليست "موجودة في عقلك" أقل من الألم المزمن».

إضافة إلى تعزيز الوصم المحيط بالمرض العقلي، يؤكد غوف أن فوضى «عقلي» تؤجج أيضًا الجدالات المضللة للإصلاحات الراديكالية ﻷجل إصلاح (بل وحتى إلغاء) الطب النفسي كمجال طبي. فعلى ناحية الطرف الآخر من آراء ساس المعارضة للطب النفسي، يؤيد كثير من الناس اندماج الطب النفسي وعلم الأعصاب. ويعتمد ذلك على «نظريات عقل» فلسفية معينة، رائجة في علوم الإدراك: «بعض الناس يعتقدون أن العقل هو المخ، وآخرون يظنون أن العقل هو البرنامج الذي يعمل على الذهن، على النحو الذي يعمل عليه نظام الويندوز على جهاز الكمبيوتر».

ينبغي علينا إخراج مصطلحي «العقل» و«العقلي» من الطب النفسي

علم النفس وعلوم الإدراك لا يدرسان الشيء نفسه تمامًا.

يفسر غوف أن هذه الحجة تعتمد على مفهوم مفاده أنه لأن الطب النفسي يتعامل مع المرض «العقلي»، فإنه ينبغي أن يحيل إلى وجهات النظر الفلسفية الخاصة بالـ«عقل» الرائجة في علوم الإدراك. ويقول إن المسألة أن «العقلي» في المرض العقلي هو نفساني فحسب، وهو ما لا يتحدث عنه هؤلاء الفلاسفة والعلماء.

نتيجة لذلك، كما يخلص غوف، ينبغي علينا أن نكون متشككين في الاحتكام إلى العقل والعقلي في الطب النفسي. فالمرضى النفسيون بالتأكيد لا يريدون عبء المزيد من الوصم، وفهم الحالات النفسية صعب كفاية بدون المزج وسوء التواصل. ويقول إنه دون وجود سبب للاحتفاظ بهما، ينبغي علينا إخراج مصطلحي «العقل» و«العقلي» من الطب النفسي. بل وليس هذا فقط، لأن «هذه المصطلحات تعيث فوضى في علوم الإدراك وعلم النفس أيضًا».

«تمامًا مثلما يُقصد أن يكون الطب النفسي فرعًا من الطب يتعامل مع المرض العقلي، كذلك علوم الإدراك وعلم النفس يُفترض أنها العلوم المعنية بدراسة العقل».

ورغم هذا، يؤكد غوف أن علم النفس وعلوم الإدراك لا يدرسان الشيء نفسه تمامًا. فمجالات مثل القياسات النفسية تعد تاريخيًا جزءًا جوهريًا من علم النفس، لكن هناك شك أن تكون جزءًا من علوم الإدراك.

وعلى النقيض، يوضح غوف أن علوم الإدراك لديها اهتمام موروث أوسع بالتنظيم الذاتي ومعالجة المعلومات والتكيف السلوكي من أسلافها، ولا سيما علم السبرانية أو علم القيادة أو التحكم في الأحياء والآلات ودراسة آليات التواصل في كل منها. ويضيف أن مجالات علم النفس وعلوم الإدراك لا تصطف كذلك مع مجال الطب النفسي، فالحس يظل بشدة تابعًا لمجال علم النفس وعلوم الإدراك، ولكن العمى والصمم ليسا أمراضًا نفسية.

تكيّف مفاجئ للنظام المناعي

تتضمن مجالات علم النفس وعلوم الإدراك أيضًا سعات غالبًا ما لا يُقصد استحضارها عند الحديث عن «العقل» في الحياة العادية. يضرب غوف مثالًا لذلك بالنماذج الإدراكية التي تغطي الطريقة التي تبقى بها الأعضاء الحيوية على قيد الحياة عبر الاسْتِتْباب أو التوازن الداخلي (حفظ عامل داخلي مستقر في الجسم مثل معدل ضربات القلب ودرجة حرارة الدم) وحفظ التغير (تعديل تلك المعاملات والسلوك اعتمادًا على السياق).

ويضيف أن هناك طرقًا لرسم خريطة للمناعة بمصطلحات علوم الإدراك. ففي الستينيات والسبعينيات، كشف عمل عالم النفس الأمريكي روبرت أدر سمة مفاجئة للنظام المناعي، بعد أن درّب الفئران على تجنب مادة محلاة غير مؤذية عبر وضعها إلى جانب مادة كيميائية مثيرة للغثيان تدعى سيكلوفوسفاميد. وعند اختبار نجاح التدريب عبر وضع مادة التحلية فحسب، بدأت الفئران في الموت. وكلما كانت المادة محلاة أكثر، ماتت الفئران أسرع.

الجهاز المناعي يلعب أدوارًا مهمة في التحكم في السلوك الاجتماعي.

كان هذا لغزًا، وتبين أن السيكلوفوسفاميد «كابت للمناعة»، مادة كيميائية تُبطل الجهاز المناعي. لقد «تعلم» الجهاز المناعي أن يُطفأ استجابة لمادة التحلية وحدها، وهذا ترك الفئران غير منيعة أمام مثيرات مرضية غير مؤذية عادة في بيئتهم، مما قتلهم. بكلمات أخرى، اكتشف أدر أن النظام المناعي يمكن تعديله حسب تكييف بافلوف الكلاسيكي.

يقول غوف إن هذا أدى إلى إنشاء مجال «المناعة العصبية النفسية»، وهو الحقل الذي يتضمن إلى جانب أشياء أخرى علماء النفس الذين يدرسون الجهاز المناعي. وكشف الباحثون لاحقًا عن حقائق أكثر إثارة بشأن «التوصيل» والإشارات التي تربط الجهاز المناعي والمخ.

يوضح الكاتب أن النظام المناعي يستجيب بطرق معقدة للتوتر والصدمة، مردفًا أن عدم التوازن في النظام المناعي يرتبط بعدد من الأمراض النفسية المتعلقة بالصدمات، مثل اضطراب ما بعد الصدمة واضطراب الشخصية الحدية (كلاهما يرتبط عادة بالصدمات). ويضيف أن الجهاز المناعي يلعب أدوارًا مهمة في التحكم في السلوك الاجتماعي. ويعطي غوف مثالًا على ذلك، فبعض العلماء يعتقد أن الاكتئاب يمكن أن تكون له آثار جانبية على النظام المناعي، إذ يقلل الحافز الاجتماعي لتقليل خطر انتشار المرض، والفكرة هي أن النظام المناعي جرى تحفيزه ليحمل «معتقدًا» خاطئًا أن الشخص معدي.

يرى غوف أن التمسك بتفسير أن علوم الإدراك وعلم النفس تدرس «العقل» يخلق انطباعًا مضللًا عما تفعله هذه المجالات، ويثير احتمالات أسئلة غير مجدية مثل ما إذا كان ينبغي علينا اعتبار الجهاز المناعي وقدراته «عقلية» ﻷنه نفسي وإدراكي. مرة أخرى، كما يقول، الجسور التي مدها العقل والعقلي ثبت أنها لا تساعد.

يقول غوف إن مجال المناعة العصبية النفسية لاقى صعوبة في قبوله على نطاق واسع، وخاصة بين علماء المناعة، موضحًا أن جزءًا كبيرًا من هذا كان ﻷنه يعتبر نوعًا من «طب العقل والجسد»، وهو مصطلح ينطبق على كثير من المغالطات ومجال تطوير الذات المبالغ فيه بقدر ما ينطبق على البحث الطبي المشروع. ويضيف أن الجسور التي مُدت بين نوع ما من الطب الهولستي والاحتيال وعلم المناعة العصبية النفسية تدين بالكثير إلى مصطلحي العقل والعقلي.

لا توجد مشكلة في وصف الفيزياء بأنها دراسة الأشياء الفيزيائية

الصورة: كونا

يشير المقال إلى الحديث عن علم النفس بأنه دراسة النفسي، وعلوم الإدراك بأنها دراسة الإدراك. ويقول الكاتب إن هذا ربما يكون منطقًا دائريًا، لكنه يعكس فحسب حقيقة أن هذه المجالات مسؤولة عن اكتشاف هذه النطاقات، وأننا ببساطة لا نعرف ما يكفي بعد لنقول تحديدًا ما ينبغي أن تكونه هذه المجالات في مصطلحات مستقلة تمامًا، موضحًا أنه ليس هناك من لديه مشكلة في وصف الفيزياء بأنها دراسة الأشياء الفيزيائية، ولا أنها تدرس القوانين الأساسية للحركة.

يقول غوف إنه عندما نرى مصطلحات مثل العقل والعقلي تسبب كثيرًا من الأذى، يكون لدينا سبب جيد للتخلص منها. فبدلًا من الحديث عن «العقول» و«العقلي»، من الأفضل أن نناقش المصطلحات الأكثر دقة ونفعًا، والمتعلقة بما نفعله.

الأنباء الطبية هنا كما يقول أن هذه المصطلحات موجودة بالفعل إلى حد كبير، وتعمل جيدًا تمامًا بمجرد أن تكسر روابط العقل والعقلي. علم النفس لديه النفسي (Psychological)، وعلوم الإدراك لديها الإدراك (Cognitive)، والطب النفسي لديه النفساني (Psychiatric). وخارج هذه المجالات لدينا الكثير والكثير: وعي (Consciousness)، خيال (Imagination)، مسؤولية (Responsibility)، وكالة/أهلية (Agency)، فكرة (Thought)، ذكرى (Memory).

يطرح غوف في ختام مقاله فكرة أن العمل النسوي عن الاستقلال الارتباطي والارتباطية نفسها، والسلف التاريخي مثل هوميروس، قدما طرقًا واعدة لتطوير تصورات الناس التي لا تستدعي العقل، موضحًا أنها مفاهيم يفهمها الناس حسب الكليات، ليس لأن لديها جوهرًا داخليًا موحدًا، بل بسبب الطريقة التي تندمج بها علاقاتها وبيئاتها.

مواضيع مشابهة