في 16 يوليو قبل 50 عامًا، انطلقت أول رحلة بشرية إلى سطح القمر. وبعد أربعة أيام ونصف من السفر عبر الفضاء، أصبح رائد الفضاء الأمريكي نيل آرمسترونغ أول إنسان يمشي على سطح القمر.
تعد هذه الرحلة اليوم قصة تاريخية يصعب تكرارها، ويبقى السؤال الملح: مع التطور التكنولوجي الذي نعيشه اليوم في شتى المجالات، لماذا لم تتكرر الرحلة؟
في صيغة السؤال إشكاليتان: الأولى أنه غير دقيق، لأن رحلة الإنسان إلى القمر تكررت تسع مرات، منها ست مرات هبوطًا على سطحه. لذا فالأدق أن نسميه «مشروع» وصول الإنسان إلى القمر بدلًا من «رحلة» وصوله. أما الإشكالية الثانية فهي أن التساؤل يسير في الاتجاه الخاطئ، والأحرى بنا أن نسأل: «لماذا يتكرر المشروع؟» بدلًا من «لماذا لم يتكرر؟». الإجابة البديهية والمثالية هي لغرض الاستكشاف والبحث العلمي، وهذه إجابة نبيلة لكنها بعيدة عن الواقع.
إن رحلات الإنسان إلى القمر لم يكن هدفها الرئيسي أبدًا الكشف العلمي، بل كان هذا عرضًا جانبيًا لهدف أكبر: تفوق أمريكا على الاتحاد السوفييتي في سباق الفضاء.
أجمل تنافس في التاريخ
لا يمكن فهم مشروع وصول الإنسان إلى القمر دون استيعاب أبعاده السياسية والاقتصادية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، بدأ تنافس استعراض العضلات بين أكبر قوتين في ذلك الوقت، أمريكا والاتحاد السوفييتي، في ما أطلق عليه الحرب الباردة. اتسمت هذه الفترة بالتنافس الشديد في شتى المجالات، خصوصًا العسكري. لكن في عام 1957، بدأت أزمة فريدة من نوعها حين نجح الاتحاد السوفييتي في إرسال أول قمر اصطناعي إلى الفضاء. أثار ذلك ذعرًا في أنحاء العالم، فقد أصبح الخيال العلمي حقيقة بوجود قمر من صنع بشري يدور حول الأرض، أداة بشرية في الفضاء. وكان التساؤل: أي تفوق تكنولوجي ذاك الذي عند السوفييت؟
أشعلت الحادثة أجمل تنافس في التاريخ، حين قررت الولايات المتحدة خوض سباق الفضاء أملًا في تحقيق الانتصار العسكري والتكنولوجي والمعنوي. لكن التفوق في بدايته بدا واضحًا للاتحاد السوفييتي، فقد نجحوا في إرسال أول إنسان وإنسانة إلى الفضاء، يوري غاغارين وفالنتينا تشيركوفا، وأول جهاز بشري يلمس سطح القمر، وأول هبوط ناجح لمركبة على القمر، والحصول على أول صورة للجانب البعيد من القمر، وغيرها، بينما حاول الطرف الأمريكي جاهدا اللحاق بمنافسه.
ومع نجاح أمريكا والاتحاد السوفييتي في إرسال البشر إلى الفضاء، كانت الوجهة التالية هي وصول البشر إلى سطح القمر، كونه أقرب جرم سماوي إلى الأرض. كانت هذه نقطة حاسمة في سباق الفضاء، يليها بناء قاعدة دائمة على سطحه. ليس هناك أي شك في مدى أهمية وصول أمريكا أولًا إلى سطح القمر، من الناحية المعنوية قبل كل شيء.
معجزة الوصول إلى القمر
إن وصول الإنسان إلى سطح القمر أشبه بالمعجزة: كيف يمكن لرحلة مثل هذه أن تنجح؟ أعني كيف لم تفشل المعدات مثلًا؟ كيف لم يمت رواد الفضاء؟ كيف لم يحدث أي خلل ولو كان بسيطًا في رحلة خطيرة كهذه؟ لا يمكن أن يكون هذا الأمر قد حدث بتلك السهولة، وفوق ذلك كله قبل 50 عامًا. هناك خدعة ما في الموضوع.
لم تكن رحلة آرمسترونغ إلى القمر هي الرحلة المأهولة الأولى، فقد سبقتها رحلتان مأهولتان إلى القمر، ورحلات أخرى كثيرة إلى الفضاء للتأكد من سلامة المعدات. في القائمة التالية بعض من الرحلات التي تشكِّل مشروع أبولو:
- أبولو 1 في 1967: رحلة مأهولة لتجربة المعدات، مات فيها 3 رواد فضاء
- أبولو 4 في 1967: رحلة غير مأهولة لتجربة المعدات
- أبولو 5 في 1968: رحلة غير مأهولة لتجربة المعدات
- أبولو 6 في 1968: رحلة غير مأهولة لتجربة المعدات
- أبولو 7 في 1968: رحلة مأهولة إلى مدار الأرض لتجربة المعدات
- أبولو 8 في 1968: أول رحلة مأهولة إلى مدار القمر تمهيدًا للهبوط
- أبولو 9 في 1969: رحلة مأهولة إلى مدار الأرض لتجربة المعدات
- أبولو 10 في 1969: ثاني رحلة مأهولة إلى مدار القمر تمهيدًا للهبوط
- أبولو 11 في 1969: أول رحلة إلى سطح القمر، وهي رحلة آرمسترونغ الشهيرة
- أبولو 12 في 1969: ثاني رحلة إلى سطح القمر
- أبولو 13 في 1970: رحلة فاشلة إلى سطح القمر، عاد روادها إلى الأرض بعد زيارة مدار القمر
- أبولو 14 في 1971: ثالث رحلة إلى سطح القمر
- أبولو 15 في 1971: رابع رحلة إلى سطح القمر
- أبولو 16 في 1972: خامس رحلة إلى سطح القمر
- أبولو 17 في 1972: سادس وآخر رحلة إلى سطح القمر
وسبق ذلك تجارب كثيرة على الأرض والفضاء، منها عدة تجارب فاشلة. وبالطبع فإن كل تجربة لها تفاصيلها المعمقة وتكاليفها الباهظة.
يتكون طاقم كل رحلة مأهولة من 3 رواد فضاء. وإذا تأملت القائمة السابقة ستجد أن نيل آرمسترونغ لم يكن أول إنسان يصل إلى القمر، بل كان فعليًا سابع إنسان يصل إليه، بعد «فرانك بورمان» و«جيم لوفل» و«ويليام آندرز» في رحلة أبولو 8 عام 1968، و«توماس ستافورد» و«جون يونغ» و«يوجين سيرنان» في رحلة أبولو 10 عام 1969.
ربما لم تسمع بالأسماء السابقة لأنهم وصلوا إلى مدار القمر وليس سطحه، بمعنى أن مركباتهم دارت حول القمر دون أن تهبط. ومع ذلك فهم أول من يرى الأرض كاملة بأعينهم مباشرة، وأول من يتجاوز حزامي «فان ألن» الإشعاعيين، وأول من يدور حول القمر، وأول من يرى الجانب البعيد منه بالعين المجردة، وأول من يرى «شروق» الأرض من القمر.
كان نيل آرمسترونغ أول إنسان يهبط إلى سطح القمر ويمشي عليه، مع مرافقه «بز ألدرين»، ولهذا ذاع صيت رحلته مهمِّشةً كل الرحلات السابقة والتالية. هناك 24 إنسانًا ذهبوا إلى القمر، 12 منهم فقط مشوا على سطحه (في كل رحلة من الرحلات الستة لسطح القمر، ينزل رائدان إلى السطح ويبقى الثالث في الفضاء، أما بقية الرحلات الثلاثة الأخرى فكانت إلى مدار القمر دون هبوط). من هو ثالث إنسان يمشي على القمر؟ أغلب الناس لا يعرفون، ولا يكترثون.
الرحلة السابعة إلى القمر
كلف مشروع أبولو حينها 25 مليار دولار، وهو ما يعادل اليوم 150 مليار دولار. ولك أن تتخيل حجم هذا المبلغ وما يمكن أن يفعله للقطاع الصحي أو الصناعي أو التعليمي أو العسكري أو أي قطاع آخر. من يتأمل المبلغ يدرك عظم تكلفة المشروع، ويدرك كذلك استحالة دفع مبلغ مماثل اليوم لأغراض استكشافية علمية.
يدفع الإنسان في الحرب والمنافسة ما لا يضحي به في السلم والرخاء.
مر المشروع كذلك بعقبات كادت تنهيه كاملًا، منها وفاة ثلاثة رواد فضاء في رحلة أبولو 1، وهو ما وجه صفعة مدوية لوكالة «ناسا» الأمريكية. ومع ذلك فقد استمر رغم إرهاقه للميزانية الأمريكية، فالإنسان يدفع في الحرب والمنافسة ما لا يضحي به في السلم والرخاء. فازت أمريكا في السباق عندما وصل آرمسترونغ إلى سطح القمر، بينما فشل الاتحاد السوفييتي وتوقف بوضوح عن المحاولة مقرًا بهزيمته، وكان أكبر ما استطاع فعله إرسال عربات متجولة على القمر.
كانت آخر رحلة مأهولة إلى السطح في عام 1972، وهي نفس الفترة التي اشتدت فيها حرب فيتنام، وأدت القيود على الميزانية الأمريكية، إضافة إلى انتهاء السباق وانعدام جدوى المستعمرة القمرية، إلى إلغاء ثلاث رحلات إلى القمر (أبولو 18، أبولو 19، أبولو 20) رغم بناء الصواريخ القادرة على تنفيذ الرحلة واختيار أماكن الهبوط.
كان قرار ناسا بإلغاء الرحلات الثلاث منطقيًا. فكر في الأمر: إذا كنت رئيس ناسا في تلك الفترة، ووجدت نفسك مع ميزانية محدودة أمام خيارين كليهما مكلف: رحلة سابعة إلى سطح القمر، أو إرسال مختبر (محطة) إلى الفضاء، ماذا ستختار؟
الخيار ذو المردود الأكبر سيكون مختبرًا كبيرًا نسبيًا يزوره رواد الفضاء دوريًا لتنفيذ التجارب ودراسة تأثيرات وجود الإنسان لفترات طويلة في الفضاء (حاليًا، تؤدي محطة الفضاء الدولية هذا الدور)، أما الذهاب إلى القمر لمرة سابعة فإنه سيكلف المليارات مقابل مردود علمي واستراتيجي ضئيل نسبيًا. اتخذت ناسا القرار الحكيم بإرسال أول محطة فضاء أمريكية «سكاي لاب» إلى مدار الأرض، عوضًا عن رحلة سابعة إلى سطح القمر.
وبمرور السنوات انخفضت ميزانية ناسا بشكل كبير جدًا، وتحول الاهتمام من القمر إلى أجرام سماوية أخرى بتكلفة أقل بأضعاف كثيرة ومردود علمي أكبر، وأصبح وصول الإنسان إلى القمر مرة أخرى أمرًا مستحيل ماديًا بالنسبة إلى الوكالة الأمريكية، أو أي وكالة فضاء في العالم. المشروع الفضائي الوحيد الذي يوازي في تكلفته مشروع أبولو هو محطة الفضاء الدولية، ولم تكن لتحدث دون تعاون مادي من الدول الكبرى لبنائها.
انخفاض التكلفة
لو افترضنا أن المبلغ المطلوب للرحلة هو فقط 20% من المبلغ السابق، فإنه سيجد معارضة متفهمة من دافعي الضرائب، خصوصًا في غياب الدافع (مرة أخرى، الاكتشاف العلمي وحده ليس دافعًا)، على عكس السابق حين كانت حالة الحرب تبرر ذلك.
لماذا نصرف مثل تلك المبالغ على رحلة خطيرة، بينما يستطيع قمر اصطناعي واحد الإتيان بنتائج علمية كبيرة؟
في عام 2009، أرسلت ناسا قمرًا اصطناعيًا أطلقت عليه «مستكشف القمر المداري»، كلف نصف مليار دولار وعاد بنتائج علمية هائلة عن القمر، منها صور عالية الوضوح لسطحه.
لماذا تصرف أضعاف هذا المبلغ على رحلة خطيرة، بينما يستطيع قمر اصطناعي واحد الإتيان بنتائج علمية كبيرة؟ لو كانت تكلفة رحلة القمر 20 مليار دولار، وقلت لك بأني سأقتص من راتبك شهريًا لزيارة جديدة إلى القمر، فهل ستقبل؟ لو افترضنا أنك من عشاق الفضاء ولا تمانع بذلك، فهل تستطيع إقناع محيطك بالتضحية بجزء من رواتبهم مقابل الرحلة؟
الآن تخيل أن عليك إقناع شعب كامل بفعل ذلك. الأمر مستحيل في غياب الحافز، هذا إذا وضعنا جانبا ما يسميه الاقتصاديون تكلفة الفرصة البديلة، فكم مستشفى وكم جامعة وكم جسرًا وكم مشروعًا يمكنك تحقيقه بهذا المبلغ؟ سيكون الأمر مختلفا في حالة واحدة: إذا كان هناك حافز استثنائي، كأن تخلق دولة منافِسة منافَسة. هنا تتغير معادلة التضحية كليًا، وهذا ما حدث تحديدًا عندما وصل الإنسان إلى القمر أول مرة.
ومع أن قطاع الفضاء لا يتلقى اليوم إلا الفتات من ميزانيات الدول، فإن هناك من يتساءل عن جدوى رحلات الفضاء، ويعتبر القطاع بأكمله هدرًا للأموال العامة. الانخفاض النسبي اليوم لتكلفة رحلة القمر مقارنة بالماضي لا يجعلها رحلة رخيصة في المطلق، فما زالت قيمتها أكبر من قدرة العلماء على إقناع العامة بالدفع من أجلها، وقد يتغير ذلك خلال السنوات القادمة.
لماذا لا يكون الأمر برمته مجرد كذبة؟
وصول الإنسان إلى القمر حقيقة علمية، وهذا يعني أن هناك دراسات علمية محكمة متكررة حولها، وأن المجتمع العلمي يعي تفاصيلها، وأن باستطاعة أي أحد يملك الأدوات المناسبة التأكد من صحتها.
يميل المشككون في وصول الإنسان إلى القمر إلى تكرار الأسئلة البسيطة، مثل رفرفة العلم وغياب النجوم والحزام الإشعاعي ومسألة الظل، وهذه أسئلة عادية جرى الرد عليها مرارًا وتكرارًا. هناك صور التقطها «مستكشف القمر المداري» تُظهر بوضوح آثار رواد الفضاء على سطح القمر، لكني سأعتبر عملي ضمن فريق المستكشف عاملًا مؤثرًا في الحيادية (بعض المشككين قد يروني عميلًا أقضي يومي كله في فبركة البيانات لخداع الاتحاد السوفييتي والحفاظ على سمعة نيكسون)، لذا فإني هنا سأسلك طريقا آخر في الرد.
تخيل أنك محاضر في الجامعة، وفي يوم الامتحان غاب أغلب الطلبة، ثم وصلتك رسالة من أحدهم يؤكد فيها أنهم استأجروا باصًا كبيرًا من أجل السفر في رحلة، لكن الباص تعطل عليهم في طريق العودة. الآن، كيف تكشف ما إذا كان كلامهم صادقًا أم كاذبًا؟ الطريقة المباشرة بسؤالهم منفصلين عن تفاصيل الحادث، ولو كانت إجاباتهم متفقة فهم صادقون، ولو اختلفت فهم كاذبون.
استرجاع الأحداث من الذاكرة يختلف عن استرجاعها من الخيال، لأن الذاكرة وإن لم تكن معصومة فهي تبدأ من واقعة واحدة، أما الخيال فهو كالبصمة يختلف تمامًا بين البشر. من يتذكر ليس كمن يتخيل، فحتى لو أخبرت الطلبة مسبقًا بأنك ستسألهم عن تفاصيل الرحلة في الاختبار، فإن كشفهم سيكون سهلًا، لأن الأسئلة لا نهائية ويصعب الاتفاق عليها جميعًا.
الآن تأمل في رحلة الإنسان إلى القمر، وفكر مع نفسك في أعقد سؤال عن أدق تفاصيل الرحلة، ستجد مختلف المهندسين المختصين (موجودون في أماكن متفرقة في أمريكا) يتفقون على الإجابة. لن تجد أيًا منهم يتوتر أو يتهرب من الإجابة، أو حتى يؤلف إجابة من عنده، لأنه ببساطة لا ينقل من قصة خيالية تختلف أحداثها وفق خيال الفرد، بل ينقل عن رحلة تاريخية حدثت واقعًا، وكل مشكلة يمكنك التفكير بها قد مرت عليهم، وإلا لما نجحوا في الوصول.
بالإضافة إلى أن اتفاق العلماء على صحة الرحلة هو أمر يدعو للتأمل، فهل كلهم مغفلون بحيث لا يستطيعون كشف التفاصيل غير العلمية في الرحلة؟ أنا لا أدَّعي هنا أن العلماء على حق لمجرد كونهم علماء، لكن تعمق أي إنسان في تفاصيل رحلة القمر سيؤكد له أن الأمر ممكن علميًا ومنطقي جدًا، ولو أراد أي أحد تنفيذ حسابات بسيطة (تتطلب معرفة بالتفاضل والتكامل)، سيجد أن الصاروخ يستطيع فعلًا إيصال الإنسان إلى القمر.
هناك قصة طريفة يكررها المشككون ولم أستطع تجاوزها هنا، وهي اعتراف المخرج ستانلي كيوبريك بأنه فبرك أحداث الرحلة، والاستشهاد بفيديو قصير للاعتراف. الرد حتى قبل مشاهدة الفيديو هو بأن اعتراف كوبريك لا يساوي شيئًا أمام الأدلة العلمية، والتحجج برأيه سقوط في مغالطة الاحتكام إلى السلطة. في الفيديو الكامل يظهر ممثل اسمه «توم» يحاول تقمص شخصية كيوبريك، والذي يبدي ندمه الشديد على فبركة الرحلة.
توفي كيوبريك عام 1999، ونيل آرمسترونغ في 2012، أما فيديو الممثل فجرى تصويره في 2014. وفي إحدى لقطات الفيديو يسأل المذيعُ توم عما قاله له آرمسترونغ قبل وفاته، فيرد توم المندهش من السؤال بنبرة خافتة محاولًا تنبيه المذيع: «لقد توفيتُ قبله». ورغم وضوح التمثيل، بل وسذاجته في تلك اللقطة، فإن الانحياز التأكيدي يعمي الإنسان من التثبت من مصدر معلوماته.
متى ستتكرر الرحلة؟
في إبريل 2019، أعلنت وكالة ناسا عزمها العودة إلى القمر عام 2024، وقد لاقت دعمًا من الإدارة الأمريكية الحالية. وأعلنت كذلك عن حاجتها إلى نحو 30 مليار دولار من أجل تحقيق الهدف. يعني هذا أن على الحكومة الأمريكية استقطاع مبلغ من قطاع ما وتحويله إلى ناسا، وعلى الوكالة إعادة تنظيم ميزانيتها داخليًا من خلال التخلي عن بعض المشروعات أو أجزاء منها، غالبًا تلك المتعلقة بالأرض أو علوم الكواكب.
لكن هناك عوامل كثيرة قد تؤدي إلى فشل المشروع، أولها تغير الإدارة الحالية، وهنا قد تتغير أهداف وسياسات الإدارة الجديدة، وعليه فقد يُلغى المشروع أو يؤجل، ومن المرجح أن اختيار 2024 تحديدًا يعود إلى رغبة الإدارة الحالية في تحقيق الإنجاز في عهدها (أُلغي عديد المشاريع العلمية في أمريكا لأسباب مختلفة، أشهرها مشروع مُسرع الجسيمات الذي أُلغي عام 1993 بعد أن صُرف عليه نحو ملياري دولار).
على الجانب الآخر، قد تظهر عوامل جديدة تجعل أمر العودة إلى القمر أكثر جدية، مثل إعلان الصين عن تعجيل مشروعها بإرسال البشر إلى سطح القمر، سيخلق هذا تنافسًا جديدًا وحافزًا أكبر للتضحية. أيضًا، نجد أن القطاع الخاص يعمل منفردًا على رحلات سياحية إلى القمر، مثل رحلة «سبيس إكس» إلى مدار القمر (وليس سطحه)، التي دفع جزءا كبيرًا من تكلفتها الملياردير الياباني «يوساكو مايزاوا». يبدو أن البشرية وصلت أخيرًا إلى زمن تتساوى فيه تكاليف رحلة القمر مع الثراء الزائد لبعض الأفراد، لكن هذه الرحلة لن تحدث قبل عام 2023.
لا يمكن غزو الفضاء دون تمويل ضخم ودافع حقيقي، واختفى اجتماع هذين الأمرين خلال السنوات الماضية، لكنه بدأ الآن بالعودة تدريجيًا مع سعي الحكومات لبناء قاعدة على القمر وتنافس الشركات على الرحلات السياحية. كان الوصول أول مرة إلى القمر حدثًا استثنائيًا وليس تقدمًا طبيعيًا للبشرية. فعليًا، لو لم يكن الاتحاد السوفييتي موجودًا، لما وصل الإنسان أبدًا إلى القمر.
إذا لم يكن استعمار القمر جزءًا من الخطط القادمة لوصول الإنسان إليه، فإن الرحلات ستعود إلى مرحلة الانقطاع التي شهدناها في السابق. قد تصل أمريكا مرة أخرى، وبعدها الصين، ثم تتكرر الأزمات الأرضية، ويعود السفر إلى القمر إلى كونه رحلة مكلفة لا جدوى لها، وذكرى من الماضي يشك فيها أحفادنا.