أبي الذي أكره: تأملات حول التعافي من الصدمات وإساءات النشأة

الصورة: Getty

نواري
نشر في 2022/04/17

«أبي الذي أكره» كتاب للدكتور المصري عماد رشاد عثمان، وهو كاتب وطبيب بشري، يناقش فيه دور الصدمات وإساءات النشأة في إعادة تشكيل شخصياتنا، وتأثيرها البالغ على علاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين. يتغلغل الكاتب في أغوار النفس البشرية، ويواجه القارئ بصراحة تامة، فتارة يبكيه وتارة يطبطب على الطفل في داخله. الكتاب ليس موجهًا لضحايا الهدر الأسري فقط، بل لمن لا يريد تكرار الأخطاء أيضًا.

الطفل في داخلك

الدكتور عماد رشاد عثمان - الصورة: IReadHub.com

«الإنسان يتغير لسببين، حينما يتعلم أكثر مما يريد، أو حينما يتأذى أكثر مما يستحق» - شكسبير.

يمهد الدكتور عماد للموضوع بأن الأسرة ببساطة هي بيئة احتضان تهدويَّة لقلق مقابلة الوجود، يدخلها الإنسان لتحميه في البدايات لحين اكتمال نمو أدواته الخاصة، التي يتمكن عبرها من مقابلة الوجود بشكل فعال وذاتي. إنها ضرورة تطورية للطفل البشري، وغياب تلك البيئة أو تصدعها لا يهدد بقاءه في طفولته فحسب، بل يعطل نمو أدواته للتعامل مع العالم من حوله. 

ولهذا فإن إساءات النشأة تعمل على تجميد النمو في مراحله النفسية الأولى، وتحرم الطفل من تكوين ذاته لمواجهة العالم، فيخرج شاعرًا بالتهديد. ولذا فإن جزءًا أصيلًا من التعافي يكمن في الحصول على علاقة شافية، أو بيئة حاضنة بديلة لترميمه واستكمال نموه، لمواكبة الضغوط والتعامل مع قلق الوجود.

الشخص الأهم الذي تتوقع منه المحبة وتستمد منه تصورك عن العالم وعن نفسك، قبل أن يلقي إليك إساءة لفظية أو بدنية قد لفظك ورفضك، وهناك في البقعة العميقة التي قررنا أن نخبئ فيها الألم والصرخة يسكننا الغضب. لم يكن مسموحًا أن نعبر عنه خشية أن يجر علينا المزيد من الإساءة، لذا تعلمنا الكبت والمواراة، وهكذا فقد استمر الغضب في البروز على السطح لغير أسبابه الحقيقية.

كل منا ببساطة يحمل في داخله طفلًا غاضبًا، وبدلًا من تخفيف استيائه والتعاطف معه، تركناه يخرج في وضع الثورة ويتحكم فينا في نوبة هياج لا ينتج منها سوى الندم. 

بالإضافة إلى ذلك، يذكر الكتاب أنه كلما كانت الصدمات مبكرة كان تأثيرها أكثر تجذرًا، وكلما كانت من الأقربين تأصلت في التكوين النفسي أكثر، فحين تسرق منا الإساءة الأمان الداخلي، يحل محله الخوف الدائم، وهنا تنمو بذرة القلق، فحتى بعد غياب الصدمة، يبقى أثرها الشعوري المبهم. 

الصدمات وعمليات الدماغ

في كتاب What Happened To You، يوضح الطبيب النفسي الأمريكي بروس بيري فسيولوجية الدماغ عند التعرض لصدمة نفسية. فالدماغ مكون من عدة أجزاء ضرورية لتنظيم العمليات الحيوية: القشرة المخية والجهاز الحوفي (Cerebral Cortex and Limbic System)، وهما مسؤولين عن العمليات المعقدة مثل التفكير والتخطيط والتحدث والوعي بالزمن، وكل اعتقاداتنا وقيمنا تُحفظ هناك.

أما الجزء السفلي فيتضمن جذع الدماغ (Brainstem)، وهو مسؤول عن العمليات الأقل تعقيدًا مثل تنظيم حرارة الجسم ومعدل التنفس ونبضات القلب. المُدخلات الحسية كالسمع والبصر تعالَج أولًا عبر الأجزاء السفلية من أدمغتنا، بينما يكتمل نمو الجزء العلوي بعد الولادة بعدة سنوات، لهذا فإن الرضيع يرى ويسمع لكنه لا يفكر أو يخطط كالكبار، إذ لم ينمُ هذا الجزء من دماغه تمامًا.

عقولنا مبرمجة على الشعور والتصرف قبل التفكير، وهذا ببساطة يفسر ما يحدث للمرء من أعراض بعد التعرض لصدمة، فعندما يتعرض الشخص لأي محفز من المحفزات التي كانت سببًا في صدمته الأولى كصوت انفجار أو صرخة أو رائحة مميزة أو لون ما، فإن هذه المدخلات تعالَج مباشرة في الجزء الأسفل من الدماغ، وما هي إلا لحظات قبل تفعيل نظام الاستجابة للضغط وتعطيل بقية أجزاء الدماغ.

وبما أن جذع الدماغ لا يستطيع تحديد الزمن، فإن الشخص يسترجع تفاصيل تلك الذكرى بل ويعيشها بحذافيرها، حتى تصل المدخلات أخيرًا للقشرة المخية ويبدأ الشخص، وبعد جهد جهيد، في استيعاب أن هذا الحدث قد أصبح من الماضي.

لا عجب أن تتغير نظرة الطفل تمامًا إلى الحياة والأشخاص من حوله، وأن تضطرب علاقاته، فالصدمات كما تعيد تشكيل شخصيته تعيد تشكيل دماغه تمامًا. 

ما يجب علينا فهمه أن الصدمات ليست مقتصرة على حوادث الفقد والحرب، فقد تنشأ نتاج مواقف أقل صخبًا كالإهانة أو الإساءات اللفظية أو علاقات الوالدين المضطربة أو الاحتراق الوظيفي، وهذا ما يؤكده بروس قائلًا: «حتى عند غياب أحداث صادمة كبرى، فإن الضغوطات غير المتوقعة أو الممتدة لفترات طويلة كافية لجعل أنظمة الاستجابة للضغط لدينا بالغة الحساسية والنشاط ومفرطة في رد الفعل، مما يؤدي إلى خلق عاصفة داخلية».

«الخلل فيَّ أنا»: الأطفال كأكياس رمل للتنفيس

الصورة: Getty

ربما لم يفهم أحد أن بعض التوجهات الناقمة على العالم والساخطة على السماء والرافضة لفكرة الغائية والحكمة التي ترتكز عليها الأديان لم تكن سوى نتاجًا لتجارب أفقدت الأمان، ولكن هذا الغضب في حقيقته ليس سوى عرَضًا من أعراض وجع دفين.

تخلط نفوسنا الناشئة بين الله والسلطة الأبوية، فمثلًا قد يؤدي الخلط بين نموذج الأب الناقد وبين الله إلى نشوء ضمير جلاد وصوت خفي دائم الصفع. ولذا فإن كثيرًا من المتعثرين في علاقتهم بالله قد يكون تعثرهم بسبب مشكلات في ارتباطهم بالوالدين، حدث جراءها تحويل انفعالي لغضبهم من السلطة الأبوية إلى الله والدين. 

ربما يكون أحد أكثر أنواع الإيذاء نعومة وخفاء، والذي قد لا يحدث بقصد الإساءة، هو إفراغ الأبوين لما يختلج في صدريهما من خيبة وألم تجاه بعضهما ورواية تفاصيل معاناتهما على أسماع الأطفال، خلطًا منهما بين الصداقة والاستغلال.

يتحول الأطفال إلى أكياس رمل للتنفيس، يفرغ فيهم الوالدان كل شحناتهما السلبية، فينشأ الطفل مشحونًا بمشاعر مستوردة، وتحتشد في نفسه أحاسيس دخيلة، ويمتلئ بانفعالات لا ينتمي لها، فيؤدي ذلك إلى الغضب وانعدام الأمان والقلق وغياب الثقة.

يؤكد الدكتور عماد في كتابه أن النشأة تحت سطوة أبوية لا تجعل الأبناء يكبرون ليكرهوا آباءهم، وإنما يكبرون وهم يكرهون أنفسهم.

يكبر كل من تعرض للإساءة من قبل والديه وهو يشعر بأنه غير مستحق للحب وأن أحدًا لا يمكن أن يقبله كما هو، فيفكر لا واعيًا: «الخلل فيَّ أنا»، كجزء من محاولة المحافظة على صورة الأبوين المثالية، إذ لا يمكن أن نراهما على خطأ، لذا فنحن الخطأ. 

وهكذا نفهم لماذا لا يستطيع الذين يعيشون وسط أسر معطوبة تملؤها الصراعات أن يحبوا أنفسهم، فقد حدث تشوه في بنية التواصل الوجداني. 

يعاني بعضنا من التسلط الأبوي، في محاولة مستميتة باسم التربية والمصلحة لإنتاج طفل بمواصفات قياسية يتحول إلى بالغ منتج بفعالية. يبدأ الطفل رحلة تدريبية مكثفة من «افعل ولا تفعل» و«لازم يتأدب ويعرف إن الله حق»، يستخدم خلالها الآباء الدين والتقاليد مبررًا لما يمارسونه من سلطة على الأبناء.

يتربى الأبناء على القمع والترهيب والنهر في عالم يطالبهم بالمثالية، ويُعاملون كمشروع تفوق يحقق الآباء طموحاتهم من خلاله، أو تُنشأ الفتاة مثلًا على عقيدة العورة حتى تصلها رسالة ضمنية غير ملفوظة تتمثل في أن وجودها بذاته عورة ينبغي إخفاؤها. تصل للطفل رسالة أنه غير مستحق للحب ما لم يصِر شيئًا يطلبه منه أبواه أو المجتمع، وهنا يتخلى الإنسان عن حقيقته ويسعى لصنع ذات مفبركة تتوافق مع مقاييسهم.

مراحل التجاوز

الصورة: Getty

«إن أقصى وأرقى نشاط يمكن للإنسان أن يفعله هو الفهم، فأن تفهم يعني أن تصبح حرًا» - سبينوزا.

تخزن أذهاننا كل الذكريات المؤلمة، وتكرر استحضارها لتحمينا من تكرار الوقوع فيها. وبقدر الألم المرافق لأي حادث، يكون مقدار الإلحاح الدماغي في التذكير به. البوح هو تحرير المشاعر العالقة، وكأننا نخبر عقلنا بأننا نتذكر: «اطمئن، فلا حاجة لمزيد من التذكير». قد يكون البوح عن طريق التحدث إلى شخص نثق به أو معالج نفسي، أو حتى بالكتابة أو الرسم وغيره. 

ثم إن الطريق المؤدي لتجاوز أي شيء يكون من خلاله، فتجاهل الأمر أو إنكاره أو التلهّي عنه مجرد محاولات تسكين مؤقتة للألم. التعافي يحتم المجازفة بالخروج من منطقة الراحة الزائفة، فلا بد أن تعبر بالآخرين، بالالتحام بهم والانغماس في التفاعل معهم، لأن الحياة ستستمر في السير، والتعافي لن يكتمل سوى عبر مجازفة القفز نحوها.

ولكي يتم التعافي بصورة مكتملة وسليمة، علينا أولًا أن نفهم مساره وأن نعطي أنفسنا الوقت الكافي للمرور على مراحله الواحدة تلو الأخرى حتى نصل إلى الشفاء التام.

  • المرحلة الأولى: الإنكار 

يتجلى الإنكار في تجاهل الألم أو ادعاء تجاوزه، بتكوين صورة مثالية زائفة، أو محاولة تبرير المأساة كقول إنها كانت ضرورة تربوية أو أن المرء هو من تسبب بها لنفسه، ما يجعل المحيطين بنا غير قادرين على فهم استغاثاتنا، لأنهم لم يعتادوا طلبنا للمساعدة أو اعترافنا بالضعف.

  • المرحلة الثانية: الغضب

تلك الحالة التي تعتري الناجين من الغضب وعدم القدرة على الغفران وتكرر ذكريات الإساءة وتحميل الآخرين مسؤولية الشتات والتمزق الداخلي هي حالة طبيعية للغاية، لا حاجة للامتلاء بالذنب، لا بأس أن تتوقف قليلًا لتغضب أو تبكي على خيبتك وخساراتك، فالغضب ضرورة للتحرر.

  • المرحلة الثالثة: استعادة الذات

في هذه المرحلة نبدأ بالتركيز على الحل لا المشكلة، ونتحمل مسؤولية التعافي ولا نكتفي بالشكوى، وأهم ما ينبغي فعله الآن هو منع التعرض للمزيد من الأذى ووضع الحدود. لا تحاول الإسراع، فعملية التعافي تحتاج منا لبعض الوقت.

  • المرحلة الرابعة: التجاوز 

عندما نتوقف عن الشعور بأننا عالقين في الماضي، نبدأ في التصالح مع ما حدث، فقد حان وقت المضي قدمًا. كما أن فهم المؤذي يساعدنا في التعافي، فأقسى الأفعال أحيانًا تحدث بدوافع طيبة ونوايا حسنة، وهذا لا يبررها، لكن التشوه في الحقيقة كان في الفعل والاعتقاد وليس الشعور.

وأخيرًا وليس آخرًا، علاقتنا بذواتنا هي مرتكز كل اضطرابات علاقاتنا بالآخرين، والحب السليم للنفس لا يتعلق بالدرجة بل بالنوع، فهو ليس شيئًا كميًا يقبل التفاضل، ولذا فإن العلاج النفسي في حقيقته هو نوع من المصالحة مع الذات ومحاولة فهمها والتعاطف معها وقبولها. وفي النهاية، يبدو أنه ليكتمل الشفاء لا بد أن تلتفت إلى الشخص الوحيد الذي عشت طوال حياتك في محاولة للهرب والتخلص منه: أنت.

مواضيع مشابهة