سأُلمِّح بقدر فاشل من الإيجاز إلى محطات من تجربتي السياسية التعيسة، التي كانت مفعمة بالأفكار والآمال العظيمة، وينقصها أي مقدار جَدِّي من الإصرار والتصميم، بشكل مثير للشفقة.
البداية شيوعية: يا ولدي، هذا عمك كارل
امتلكت فضولًا شديدًا للسياسة منذ طفولتي، بصورة تناقض حياتي الرتيبة في بلد آمن ومستقر سياسيًّا مثل السعودية، كانت أكبر التهديدات التي شهدها هي الغزو العراقي للكويت، بدأ فضولي يتطور بينما أشاهد المسلسل السوري «حمام القيشاني»، الذي يحكي عن الصراع السياسي في سوريا ما بعد الانتداب الفرنسي وحتى وصول حزب البعث إلى السلطة، وتحديدًا مع شخصية أستاذ عمران، الناشط الشيوعي الذي قال مرة: «الشيوعيون دائمًا في وجه المدفع».
توجهت بعدها لوالدي، الذي لا يزال عضوًا في الحزب الشيوعي السوداني رغم اغترابه، وسألته لماذا قال الأستاذ عمران ذلك. ضحك والدي، وحكى ذلك لزملائه، وبدأت أتعرف تدريجيًّا إلى تلك المصطلحات الرنانة: الماركسية، الاشتراكية، الشيوعية، في فترة كان منهج الفقه الإسلامي في المدرسة يشدد على جواز أكل طعام أهل الكتاب (المسيحيون واليهود) ويحرم أكل لحم «البوذيين والهندوس والشيوعيين ونحوهم».
تطور استخدامي للكمبيوتر مع ممارستي بشكل بدائي للتحرير الصحفي، فأصدرت أعدادًا من صحيفة أسميتها «أخبار الدار»، تتداول النميمة عن الشيوعيين السودانيين في جدة.
دخل الكمبيوتر منزلنا في وقت مبكر من منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكان نظام التشغيل «ويندوز 95» يمثل ثورة في عالم التقنية. ذلك الجهاز المزود بطابعة وجهاز فاكس مودم موصل بالإنترنت كان ببساطة المطبعة التي يستخدمها منتسبو الحزب الشيوعي لاستلام وطباعة وتوزيع المنشورات وجريدة «الميدان»، التي كانت سرية في تلك الحقبة، وتُحَرّر في لندن.
استطعت في تلك الفترة أن أطّلع على تطورات السياسة السودانية وصراع المعارضة، متمثلة في التجمع الوطني الديمقراطي وأجنحته المسلحة، ضد نظام ثورة الإنقاذ الجديد نسبيًّا، إضافةً إلى صحيفة «الخرطوم» التي كانت تصدر، للمفارقة، من القاهرة، جنة الناشطين المعارضين السودانيين، حيث كان نظام الرئيس مبارك أحد داعميها، خصوصًا بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها في آخر زيارة له إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بتنسيق وتخطيط من المخابرات السودانية ومجموعة من الإسلاميين المصريين المدعومين من عراب النظام في ذلك الوقت، حسن الترابي.
في تلك الفترة، تطور استخدامي للكمبيوتر مع ممارستي بشكل بدائي للتحرير الصحفي، الذي كان أحد مهارات والدي، وأصدرت أربعة أعداد من صحيفة دورية أسميتها «أخبار الدار»، كانت أشبه بالصحافة الصفراء التي تتناول الأخبار والنميمة عن مجتمع الشيوعيين السودانيين في جدة.
وجدت في الصحافة شغفًا جديدًا سرعان ما بدأت أصوب طموحي تجاهه، رغم النصائح التي كانت تصيبني من أحد أصدقاء والدي، خالد العبيد، الذي كان صحفيًّا هو الآخر، واكتفى بالقول إنها مهنة المتاعب، لكني على عكس النصائح التي كانت توجه لي، عززت رغبتي في أن أكون كاتبًا صحفيًّا.
اهبطوا مصر: لأني سوداني لم أرَ السودان
في القاهرة وجدت عالمًا آخر، والتقيت للمرة الأولى سودانيين من الجنوب، هذا العالم الذي لم أعرف عنه سوى الحكايات الفلكلورية.
النقلة النوعية التي حدثت في حياتي كانت ناجمة عن عجز والدي عن إلحاقي بمدرسة حكومية، بعد أن صارت مصاريف دراستي في المدارس الخاصة عبئًا متفاقمًا عليه.
المصاب دائمًا بالضائقة المادية رغم وظيفته الحكومية، حاول والدي أن يجد «واسطة» عبر أمير من العائلة المالكة لإلحاقي بمدرسة تعفيني من الرسوم، التي كانت في كثير من الأحيان تعرضني للطرد من المدرسة بسبب المتأخرات المالية.
ورغم أنني أحرزت نسبة مرتفعة في الشهادة المتوسطة فاقت 95%، عجزت تمامًا أن ألتحق بأي مدرسة حكومية، في بلد ولدت فيها وعاشت فيها والدتي ووالدها منذ صغرهما، بل وكانت تضم بين مقابرها جثمان جدي الأكبر، عبد المجيد هلالي، الذي هاجر إلى السعودية في النصف الأول من القرن العشرين.
وبسبب معارضة والدي للنظام الحاكم في السودان، ورفضه القطعي لدفع الضرائب والزكاة ورسوم جهاز المغتربين في القنصلية السودانية، كان الحل الوحيد أن نهاجر مرة أخرى إلى القاهرة، مع آمال عريضة عند والدي بأن ننجح من هناك أن نهاجر إلى أمريكا الشمالية أو أستراليا، الأمر الذي كانت والدتي ترفضه تمامًا.
في القاهرة وجدت عالمًا آخر، فبغض النظر عن مجتمع اللاجئين السياسيين السودانيين، ومكاتب الأحزاب، وأنشطتها الفنية وندواتها السياسية الحيوية، التقيت للمرة الأولى سودانيين من الجنوب، هذا العالم الذي لم أعرف عنه سوى الحكايات الفلكلورية، ومآسي الحرب، والصور النمطية، وميراث العنصرية والرق.
على الجانب الآخر، كانت مصر مكانًا فارقًا مقارنةً بتجربتي البسيطة في السعودية، لا زلت أذكر المرة الأولى التي رأيت فيها كاتدرائية «مريم العذراء» وأنا في طريقي تائهًا لمدرستي الثانوية الجديدة، واصطدمت بدهشة أخرى هي تلك الكائنات التي كان مسموحًا لها أن تختلط ببقية التلاميذ: الإناث.
وجودي في مدرسة مختلطة كان عاملًا مربكًا لشخصية لم يسبق لها أن تتعامل بهذا الشكل الواسع مع الجنس الآخر في المجال العام، خصوصًا أن مصر كانت لا تزال في مرحلة مبكرة من الغزو التدريجي لتيار الدعاة الجدد، ودعوات عمرو خالد التي نجحت لاحقًا في الفرز بين الفتيات المسلمات والقبطيات بالطُّرَح والملابس الحاجبة لكل شبر في جسد المرأة المصرية. عانيت لفترة طويلة من صدمة ثقافية لم أتعافَ منها إلا وأنا على أعتاب الجامعة.
لكن الاغتراب الذي شعرت به في صفوف الدراسة، والتعليقات العنصرية من زملائي، كنت قد وجدت ملاذًا منها في مجتمع السودانيين، الذي كان محطة مؤقتة بين السودان والعالم الجديد، الحر والديمقراطي، وانخرطت تدريجيًّا في نشاطات هذا المجتمع، بدايةً مع والدتي، التي التحقت بدورها بالاتحاد النسائي السوداني، وكنت أرافقها إلى كل فعالياته وندواته ومعارضه، كناشط نسوي.
سرعان ما وجدت تنظيمًا شيوعيًّا فرعيًّا آخر يقبل بي عضوًا فاعلًا، هو اتحاد الشباب، الذي انضممت إليه بسهولة رغم سني الصغيرة، ووجدت نفسي محررًا في صحيفته «الشرارة»، وشاركت في تحرير عدد واحد منها لاقى كثيرًا من الانتقاد، لمحاولاتي التجديدية بإعادة نشر مناقشات كانت دائرة في متنفس آخر، هو منتدى «سودانيز أون لاين»، الذي كان تجمعًا أكبر للسودانيين من مختلف الخلفيات الفكرية والثقافية في دول العالم، وبدأت عبره أولى محاولاتي للكتابة الإبداعية والسياسية.
لكن، ظل غياب مجال عام ينعكس عليه النضال السياسي، ومساحة جغرافية واقعية خارج «السايبر» يمارس فيها المرء نشاطًا سياسيًّا في الشارع، عنصرًا غائبًا عن تجربتي. لم أشترك في مظاهرة أو إضراب، بل إن سودانيتي نفسها كانت دائمًا موضع تشكيك رغم إجادتي اللهجة، بينما السبب، الذي لطالما سعيت لإخفاءه عن زملائي السودانيين، هو أنني وبسبب ظروف أسرتي لم أرَ السودان طوال حياتي.
المظاهرة الأولى: فرّقتنا سيارة شرطة بالصدفة
إحدى مدارس البنات خرجت في مظاهرة في شوارع الزيتون، فقرر طلبتنا بدافع ذكوري بحت أن ينضموا إليها، فكيف لنا أن نرى فتيات يخرجن في مظاهرة ولا نشاركهن؟
كانت ثقافتي المصرية تنضج، احتضنتني القاهرة بشكل لم يسبق لجدة أو الرياض أن فعتله، وبدأت أجد نفسي شيئًا فشيئَا.
لكن الحياة السياسية المصرية لم تكن بقدر طموحاتي في أن أكون ناشطًا، بل إن الحراك الوحيد الذي أذكر أني شاركت فيه في الشارع كان مظاهرة ارتجالية قرر طلبة مدرستي أن ينظموها، تزامنًا مع اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي «آرييل شارون» المسجد الأقصى، الحدث الذي أدى إلى إنطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
إحدى مدارس البنات المجاورة خرجت في مظاهرة في شوارع منطقة الزيتون، فقرر طلبتنا بدافع ذكوري بحت أن ينضموا إليها، فكيف لنا نحن الرجال أن نرى فتيات يخرجن في مظاهرة ولا نشاركهن؟
وبذريعة الدفاع عن الأقصى، هرع أحد الطلبة يحمل زميلة هاتفة فوق كتفه صارخًا: «تحيا فلسطين». لم تكن الطرافة وغرائز المراهقة غائبة عن هذا العمل المتذرع بالسياسة، لكني خرجت في المظاهرة وسرنا بطول شارع سليم الأول في سوق الزيتون، حتى ظهرت سيارة «بوكس» عابرة مصادفةً باتجاه قسم الشرطة في شارع طومان باي، وكان ذلك فقط كفيلًا بتفتيت التظاهرة كأنها لم تكن، وتسللت ركضًا باتجاه بيتي وأنا أعيش باكورة نشاطي السياسي الفعلي، التافه.
الغابة: مفارقة قتل السودانيين في ميدان مصطفى محمود
في ليلة رأس السنة، فضّت قوات الأمن المركزي اعتصام اللاجئين السودانيين، لأن وجودهم يسبب «القرف» لسكان حي المهندسين الراقي.
غير ذلك، انتشرت أمراض غياب الثقة، والاتهام بالأمنجية والعمالة لصالح السفارة الذي كان يمارسه الشيوعيون أكثر من غيرهم، وعامل الحياة المؤقتة الذي كان يدفع أي لاجئ مهما طالت فترة إقامته في القاهرة إلى مغادرتها، إما إلى إحدى الدول الثلاثة التي كانت تمنح اللجوء للسودانيين عبر مفوضية الأمم المتحدة للاجئين (الولايات المتحدة وكندا وأستراليا)، وإما اليأس من الحصول على رد على طلب اللجوء، والعودة طواعيةً إلى السودان.
لكن الوقت كان لا يزال مبكرًا بالنسبة لي كي أعود.
كان العام 2005 فارقًا. بدأ الأمر بتوقيع اتفاقية السلام الشامل التي أنهت الحرب الأهلية في جنوب السودان، وشكلت الحكومة الائتلافية «المسخ» بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، التي لم يمضِ على تطبيقها أكثر من ثلاثة أسابيع حتى شهدت مقتل نائب الرئيس والمناضل السابق «جون قرنق»، وبدا واضحًا لي منذ ذلك الوقت المبكر أن فكرة السودان الجديد قد أُجهضت في المخاض، وأن الجنوب ذاهب إلى الانفصال لا محالة.
بدا ذلك واضحًا بالنسبة لي مع مطلع العام 2006، ففي ليلة رأس السنة، فضّت قوات الأمن المركزي المصرية اعتصامًا طويلًا لللاجئين السودانيين، أكثرهم من الجنوبيين، وراح ضحيته 25 لاجئًا، لأن وجودهم في ميدان مصطفى محمود، احتجاجًا على إيقاف مفوضية اللاجئين ملفات لجوئهم، كان يسبب «القرف» لسكان حي المهندسين الراقي، بسِحناتهم السوداء ووجودهم الفوضوي بين الخيام، التي فُضّت بقوة الهراوات والمياه في صقيع الشتاء.
لم يجد هؤلاء تضامنًا لا من حكومة السودان ولا حكومة جنوبه، مع تجاهل من سفير النوايا الحسنة عادل إمام، ليواجه الجنوبيون مصيرهم المعتاد أمام الموت دون نصير.
المفارقة الأكبر التي كنت أستشعرها كانت أن يلاقي جنوبيون هذا المصير في ميدان يحمل اسم الكاتب الذي عرفني لأول مرة إلى الجنوب، إذ نشر مصطفى محمود في السبعينيات كتابًا أسماه «الغابة»، تغنَّى فيه بالسودان وجنوبه وطبيعته الساحرة، التي وجدها أبهى بما لا يقارن مع ديستوبيا مدينته القاهرة، التي بدأتُ أغرق فيها وفي إحباطها الذي لا شفاء منه.
العودة خِلسة: في السودان وجدتُ الحب
بعد عامين من تجربة السفر منفردًا بدأت أتساءل: لماذا أكتفي بمشاهدة الوطن العربي، في حين أن الأولَى كسر الحاجز النفسي الذي خلقه والدي بيني وبين السودان؟
مع دخولي الجامعة، بعد صراع طويل ومتعثر مع امتحانات الثانوية العامة، وإخفاقاتي الأكاديمية المتكررة، اتجهت أكثر للاختلاط بالوسط الثقافي المصري، بعيدًا عن الأنشطة السياسية للسودانيين التي انحسرتْ بعد توقيع اتفاقية القاهرة، التي عادت بموجبها أحزاب المعارضة السودانية لمزاولة نشاطها الدونكيشوتي من داخل السودان.
باتت القاهرة مكانًا مصريًّا صرفًا لأول مرة في حياتي اليومية، فازت واحدة من قصصي القصيرة بترتيب متأخر في جائزة عبد المنعم الصاوي للقصة، وصرت أتعامل بشيء أكثر من الجدية مع اهتماماتي الأدبية، وانخرطت في شبكة من المعارف في ساقية الصاوي، المركز الثقافي المعروف بتبني مواقف أخلاقية محافظة ربما توصف بالرجعية، في حي الزمالك الراقي.
وشيئًا فشيئًا، بدأت أتعرف إلى نشاطات مؤسسة المورد الثقافي، التي تبنتني دون قصد في سلسلة من الملتقيات وورش العمل، في المسرح والأدب والإدارة الثقافية، ووفرت لي فُسحة لمعرفة الوسط الثقافي على المستوى الإقليمي، وبدأت زيارة دول ما كان لي أن أحلم بزيارتها في تلك السن المبكرة، بدءًا ببيروت وعمان وحتى مراكش والدار البيضاء.
بعد عامين من تجربة السفر منفردًا، بدأت أتساءل: لماذا أكتفي بمشاهدة الوطن العربي وأنا أتمتع بأولى خطوات الاستقلالي عن أسرتي، في حين أن الأَوْلَى كسر هذا الحاجز النفسي الذي خلقه والدي بيني وبين السودان؟
وعقب حضور ملتقًى للكُتاب الشباب في لبنان، استطعت أن أسافر إلى سوريا للمرة الثانية لحضور حفل لزياد رحباني في قلعة دمشق، ووجدت أنه من السهل أن أسافر إلى بلد لا أحتاج للحصول على تأشيرة لدخوله، وتسللت سرًّا دون أن أُطلع أسرتي إلى السودان.
كان ذلك بعد أشهر قليلة من نشر مجموعتي القصصية الأولى، وبناءً على علاقات إلكترونية كنت قد كونتها من تجربة التدوين والكتابة على الإنترنت، استطعت بسهولة أن أتعرف إلى الوسط الثقافي في الخرطوم وأنشط في فعالياته، بسهولة تفوق ما أحدثته في القاهرة خلال سبع سنوات من الإقامة.
لم أكتفِ فقط بمقابلة بقية أفراد أسرتي، وأعمامي وعماتي الـ13 الذين لم يسبق لي أن رأيتهم من قبل ولا حفظت أسماءهم، بل وقعت في الحب، وبدأت علاقتي الغرامية الجادة الأولى.
الذراع الطويل: أنت الذي شاهدناه في التلفزيون؟
أتت زيارتي الأولى للخرطوم بعد أسابيع من الهجوم العسكري المباغت عليها من حركة «العدل والمساواة»، التي كانت تحصر معاركها ضد الحكومة وميليشيات الجنجويد في إقليم دارفور المتأزم.
بعد عودتي، تعززت ثقتي أكثر بقناعاتي السياسية، وصرت أجد مسوغًا للعودة إلى النشاط السياسي من المهجر. وعبر أحد الناشطين في حركة المناصرة العربية لأزمة دارفور، استضافني برنامج على قناة «الحرة»، الممولة من دافعي الضرائب الأمريكيين، والصوت الإعلامي العربي للحكومة الأمريكية، للحديث عن النزاع في دارفور، وكنت أنا الضيف السوداني الوحيد بين صحفيين مصريين وسعوديين.
وجدتُ في ذلك فرصة للتعبير عن الجانب الثوري من شخصيتي، وعندما استغل المذيع العماني كوني سودانيًّا وسألني عن رأيي في توجيه المحكمة الجنائية الدولية الاتهام للرئيس عمر البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، قلت بصراحة إني أدعم تقديم أي مجرم للعدالة أيًّا كانت الوسيلة. قلت هذا مدعومًا بكوني نكرة، شخص لا تعرف السلطات السودانية عنه شيئًا يُذكر، والأهم أني أقيم خارج السودان.
بعد اللقاء الذي بُثّ على الهواء مباشرة، تعرفت أكثر إلى الضيف السعودي عبد العزيز البرتاوي، الذي كان يعمل بشكل مؤقت في القاهرة، ومنهمكًا في شراء الكتب وقراءتها، وقررنا أن نخرج من استوديوهات القناة إلى أحد مقاهي وسط البلد للتعرف وإكمال النقاش. وبينما ندخن ونشرب القهوة، اتجهت إلى «المبولة» (المِرحاض) داخل المقهى، وبعد انتهائي استوقفني اثنان من السودانيين يجلسان إلى طاولة مجاورة، لم يصعب عليّ أن أميز من ملامحهما انتمائهما إلى غرب السودان.
سألاني بترحاب إن كنتُ نفس الشخص الذي رأياه منذ قليل يتحدث في التلفزيون عن الحرب الدائرة في وطنهم، فأجبت بشيء من الغِبطة، ودعياني للجلوس بحجة أن المذيع لم يتح لي مجالًا كافيًا للاسترسال وشرح أفكاري التي نالت إعجابهما، خصوصًا أني من شمال السودان.
شعرتُ بشيء من الريبة، لكنني قررت أن أكمل جرعة الأدرينالين حتى نهايتها في تهور واضح، وأخبرتهما بأنني لطالما كنت سعيدًا بالناتج النفسي لعملية «الذراع الطويل» وهجوم حركة العدل والمساواة على العاصمة.
سألني أحدهم مهتمًّا: لماذا تقول ذلك وأنت من سكان الخرطوم؟ فقلت لهم: رغم أني لا أدعم هذه الميليشيات، فأنا سعيد لأن هذه المعركة كسرت إحساس الأمان الواهي لدى سكان الخرطوم، وجعلتهم يستشعرون الخطر ويدركون أن الصراع الدائر في دارفور ليس في بلد آخر، أو يدور بعيدًا عن حياتهم المترفة في العاصمة. واسترسلت في نقدي بأن الخرطوميين العروبيين لا يجدون غضاضةً في الخروج للتظاهر وإطلاق الحملات لدعم الفلسطينيين في قطاع غزة، لكنهم يتجاهلون تمامًا إخوتهم الذين يعانون الإبادة والمجاعة في البلد نفسه.
ابتسم الرجلان مع شعور بالإطراء، وأدركت لحظتها أنني لم أعرف اسميهما بعد. وعندما صافحني ثالثهما، تلى عليّ اسمه: «فلان الفلاني، حركة العدل والمساواة مكتب القاهرة».
أدركتُ منذها، أني رجل مبروك.