علم الأساطير أحد أكثر العلوم تعرضًا للظلم، بين من يتعاملون معه باستخفاف باعتباره يُعنى بدراسة «خرافات الأقدمين»، ومن يصفونه بأنه «علم لا ينفع وجهل لا يضر»، ومن ينظرون إليه باعتباره «مجرد حكايات قديمة مسلية».
الإنسان لا يعامِل ما يجهل بعداء فحسب، بل ربما يزدريه ويستهين بشأنه جهلًا منه بما له من أهمية وفائدة، يدركها المطَّلعون عليه والمشتغلون به. وهذا الموضوع كُتب ردًّا على هؤلاء المستهينين به والمزدرين إياه.
عن مصطلح «الأسطورة»
كثيرًا ما يتداخل مصطلح «الأسطورة» مع مصطلحي «الخرافة» و«الخبر»، فدعونا أولًا نميزه عنهما.
الخرافة هي المعلومة اللامعقولة التي أُجمِعَ على عدم تصديقها، سواء من الذين ظهرت بينهم، أو الذين وصلت إليهم بعد ذلك.
أصل الكلمة يرجع، كما يقول محمد عجينة في كتابه «موسوعة الأساطير العربية»، إلى رجل من عصر ما قبل الإسلام كان ينتمي إلى قبيلة بني عذرة واسمه «خرافة». اختفى زمنًا، ثم عاد وادَّعى أنه كان مختطَفًا من الجن، وصار يروي ما يدعي أنه رآه، فعُرِفَ كلامه بـ«حديث خرافة»، وصار مثلًا، فيقال لكل ما لا يُعقَل ولا يُصدَّق: «هذا من حديث خرافة»، وصولًا إلى كلمة «خرافات» التي توصف بها اللامعقولات.
معيار اعتبار الحكاية أسطورة هو ارتباطها بالعقيدة التي يعتنقها أهلها، فإذا لم تكن ذات بُعد ديني، فهي حكاية خيالية أو ملحمة بطولية.
الخبر هو الحدث يُروَى، فمنه الصادق، ومنه الكاذب. يقال مثلًا: «خبر موسى مع فرعون»، أو «خبر الملك النعمان مع كسرى». هذه الأخبار تحتمل أن تكون رواية صادقة أو مكذوبة، أو أن تكون خرافة أو أسطورة، أو قصة خيالية أو واقعية.
أما الأسطورة فهي، تلخيصًا للتعريف الذي وضعه فراس السواح في كتابه «الأسطورة والمعنى»، قصة يلعب بطولتها أشخاص خارقون كالآلهة وأنصاف الآلهة في عالم تحكمه خوارق الطبيعة. هذه القصة لا يؤلفها شخص بعينه، وإنما يخلقها الوجدان الجمعي، ويتوارثها الناس ويقدسونها باعتبارها جزءًا من المُكَوِّن الديني للمجتمع، وعادة ما ينتمي زمن وقوع أحداثها إلى ما يوصف بالزمن الأسطوري، أي ما قبل العالم المعاصر للمؤمنين بها.
للدقة، خلط العرب القدامى، دونًا عن بقية الشعوب، بين مصطلحي الأسطورة والخرافة. فالأسطورة في اللغة العربية تعني «الأباطيل من الأحاديث»، وهو ما رأيناه في وصف النضر بن الحارث، أحد كبار أعداء النبي محمد، للقرآن بأنه «أساطير الأولين»، أي الأباطيل المنسوبة إلى القدماء.
معيار اعتبار الحكاية/الخبر أسطورة هو ارتباطها بالعقيدة التي يعتنقها أهلها، فإذا لم تكن ذات بُعد ديني، فهي حكاية خيالية أو ملحمة بطولية. على سبيل المثال، قصة «إيزيس» و«أوزيريس» من الأساطير لأنها جزء من «أسفار التكوين المصرية القديمة»، بعكس حكايات «هرقل» بالنسبة إلى الموروث الإغريقي القديم.
بالعودة إلى كتاب «الأسطورة والمعنى»، نجد أن معيار أن تكون الأسطورة لا تزال قائمة وهناك من يؤمن بها هو أن تُحدِث في المستمِع انفعالًا دينيًّا وتصديقًا. أما إذا توقف هذا الشعور، فهذا يعني أنها ماتت أو زال الإيمان بها، وعندئذ تُعد من الموروثات الأسطورية. مثلًا، كانت أسطورة قصة الخلق البابلية «إينوما إيليش» تُحدِث هذا الأثر في العراقي القديم، لكنها الآن باتت مجرد نص موروث ندرسه، ليس باعتباره حقيقة، بل لأنه من موروثات القدماء.
الأسطورة: المغامرة الأولى للعقل
كيف يُستهان بالأسطورة وهي الدرجة الأولى في السلم الصاعد الذي ارتقت عليه مدارس الفكر المختلفة منذ القدم؟
أحسن الباحث فراس السواح اختيار تعبير «مغامرة العقل الأولى» عنوانًا لكتابه عن أساطير سوريا وبلاد الرافدين. فالأسطورة أولى محاولات الإنسان القديم للارتقاء على العالم المادي وفهم ما وراءه وتفسيره.
الإنسان الأول الذي تفاعل مع الطبيعة بالجمع والالتقاط، ثم بالرعي، وصولًا إلى الزراعة، لم يتعامل مع العالم بطريقة «هكذا وُجِدنا»، ولم يستسلم للأمر الواقع، بل سعى لاستكشاف ما وراء الظواهر الطبيعية ومراحل خلق الكون. أي إن الأسطورة تعد بحق أولى مراحل إعمال العقل.
لهذا، فإن قارئ الأساطير لا يبالغ بوصفها «الرَّحِم» التي أنجبت الفكر الديني، ثم الفلسفي، ثم العلمي. فالفكر العلمي القائم على الواقع والتجريب لم يولد ناضجًا سويًّا، بل مر بمراحل الطفولة والصبا والشباب. تلك الطفولة هي الأسطورة.
من هذا المنطلق نجد أهمية دراسة الأساطير للإجابة عن أسئلة من قبيل: كيف نشأ الفكر الديني؟ ومن أين أتت الأديان؟ وكيف نشأت الفلسفة؟ وكيف بدأ التفكير العلمي؟ فالاستهتار بالأساطير إسقاط لحلقة مهمة من قصة العقل البشري، أو أشبه بإهمال قراءة مقدمة كتاب ضخم لا غنى عن قراءته، أو بمحاولة فهم الخبر دون فهم المبتدأ.
اقرأ أيضًا: كيف بدأ الخلق: قصص بداية الكون في الروايات الدينية
من أهم عمليات قراءة التاريخ عملية التتبع التاريخي، فالحدث التاريخي لا ينشأ مستقلًّا بذاته، بل نتيجة مجموعة من الأحداث السابقة له، والمتصلة كحلقات سلسلة ضخمة. ولكي نفهم هذا الحدث، فإن علينا أن نتحسس حلقات تلك السلسلة وصولًا إلى أولها.
لو تتبعنا الفكر الديني بشكل تنازلي لوجدنا أنفسنا مع الوقت نقف أمام الأسطورة. وكذلك لو سرنا عكسيًّا مع حلقات الفكرين الفلسفي والديني.
كيف إذًّا يُستهان بالأسطورة وهي منبع كل ذلك، والدرجة الأولى في السلم الصاعد الذي ارتقت عليه مدارس الفكر المختلفة منذ أقدم العصور؟
الأسطورة أُم التاريخ
بدايةً، لو كنت ممن ينظرون إلى علم التاريخ بنفس الازدراء الذي تنظر به إلى علم دراسة الأساطير، فلا تُكمل قراءة هذه الفقرة من الموضوع.
إذا سرنا مع فرضية أن عمر الإنسان الحالي على الأرض 200 ألف عام (وهي ليست النظرية الوحيدة بالطبع)، وأن عمر الكتابة خمسة آلاف عام، سنجد أنفسنا أمام حقيقة تدير الرؤوس: المكتوب من عمر البشرية مجرد خمسة آلاف عام، بينما هناك 195 ألف عام من تاريخنا الإنساني لم يدونها أحد.
تلك المرحلة السابقة لابتكار الكتابة هي ما يوصف بما قبل التاريخ، أو لنكن أكثر دقة: ما قبل «التاريخ المكتوب». فبالتأكيد لم تكن تلك الفترة خالية من الأحداث.
استكشاف تلك الفترة الغامضة يكون بناء على معطيات، منها الحفريات والآثار ورسوم جدران الكهوف، وهي المصابيح التي نحاول من خلال ضوئها أن نقرأ ما لم يُكتَب.
استخدم الإنسان القديم الأساطير لتأريخ أحداث وقعت، فقراءة الأساطير ودراستها توقفنا على حقائق مختبئة في ثنايا ما قبل التاريخ.
في تلك المرحلة نشأت الأساطير، فتناقلها الإنسان شفاهة أو بالرسوم، ثم دوَّنها في الألواح وعلى الجدران بعد اختراع الكتابة، عندما ترسخت تلك الأساطير في ضمائر البشر باعتبارها حقائق وأمورًا واقعة.
كي نحاول سَبْر أغوار ما قبل التاريخ، وكذلك المراحل التي لم نعثر على كتابات لها في مرحلة الكتابة، نجد أنفسنا مضطرين لقراءة الأساطير بهدف استنتاج ما بين سطورها من حقائق عبَّرت عن قراءة الإنسان لتلك لوقائع زمنه.
على سبيل المثال، في أسطورة/ملحمة «إينوما إيليش»، وهي قصة الخلق العراقية القديمة، نقرأ عن الصراع بين الإلهة «تيامات» التي تمثل «الماء الأوَّلي»، والإله «مردوخ» خالق العالم. ينتهي الصراع بانتصار مردوخ، ثم شقه جسد تيامات ليجعل من نصفه قبة السماء، ومن نصفه الآخر الأرض وما عليها من تضاريس.
ألا نجد في تلك الأسطورة قصة سيطرة الماء على مساحة كوكب الأرض، ثم ظهور اليابسة واضطراب سطح الكوكب، ثم استقرار القشرة الأرضية؟ ألا نجد في شق جسد تيامات إلى سماء وأرض تلميحًا لنظرية «الانفجار الكبير»، عندما كان الكون كتلة واحدة، ثم «انشق»؟
أسطورة «بعل» و«موت» الفينيقية، التي تتحدث عن بعل إله الأجواء والعواصف، وصراعه مع موت إله الموت والقحط والجفاف، ثم ابتلاع موت لبعل، وتدخُّل الإلهة «عناة» زوجة بعل، وتمزيقها جسد موت ثم نثره في الهواء وحرثه في الأرض، وانتزاعه منها بعد ذلك. ألا يمثل هذا عملية الزراعة، من نثر الحبوب وحرث الأرض ثم جني المحصول؟ ألا يمثل كذلك رؤية الفينيقي القديم للصراع بين الجفاف والخصوبة، ثم تطويعه الطبيعة لصالح الحضارة؟
من تلك الأساطير ما يحمل دلالات التغيرات السياسية، فالصراع بين «حورس» و«سِت» في الأسطورة المصرية القديمة كان يعبر عن الصراع بين إقليمي مصر (الشمال والجنوب) قبل التوحيد، وانتصار الإقليم الذي يقدس حورس، وإخضاعه الإقليم الذي يقدس ست.
نستنتج من ذلك أن الإنسان القديم كان يستخدم الأساطير لمحاولة تأريخ أحداث وقعت بالفعل، فقراءة أساطيره ودراستها وتحليلها يوقفنا على حقائق مختبئة في ثنايا ما قبل التاريخ. من رَحِم الأسطورة وُلِدَ التاريخ، فهما لا ينفصلان، حتى وإن ذوت الأسطورة ونما علم التاريخ ونضج.
على سبيل المثال، في قصة صراع حورس وست واحتكامهما إلى الإله رع، نجد هذا الأخير يشكل مجلسًا من الآلهة الكبار ليبحثوا مسألة وراثة عرش مصر، ويُبدي ميلًا إلى ست باعتباره الطرف الأقوى، فيتصارع حورس مع غريمه ويفرض موقفه بقوة الأمر الواقع.
يُرجِع الباحث سليم حسن، صاحب «موسوعة مصر القديمة»، أصل وجود الأسطورة إلى فترة ما بعد الأسرة الثانية عشرة المصرية القديمة، ويرى أنها تعبِّر عن صراع قديم بين أحد الإقطاعيين «الأسياد» الذين تجبَّروا على حق وريث سيد آخر، ثم مال المَلك إلى كفة المتجبر، لكن الطرف المطالِب بحق الإرث استطاع خلال الصراع أن يفرض موقفه بالقوة المسلحة.
إذًا، نجد أن أثر الأسطورة في قراءة التاريخ لا يقف عن حد المكتوب والشفهي، بل يتجاوزه إلى إسقاط الواقع على المعتقَد الديني.
هل تبدو الآن أهمية الأسطورة لدراسة التاريخ؟
الأسطورة، علم الفلكلور، تاريخ الأديان
يمكن مقارنة قصة ارتقاء النبي إدريس للسماء لتلقي العلوم الدينية والدنيوية بقصة أوزيريس وصعوده إلى «تاسوع الآلهة» لتعلم الكتابة والصلوات.
يُعنى علم الفلكلور بدراسة ممارسات الشعوب ومعتقداتهم التي يتغلغل بعضها في المعتقد الديني. تلك الممارسات لم تتوقف عند العصور القديمة، وإنما استمرت حتى العصر الحالي، وإن تحوَّرت وتكيَّفت مع المتغيرات لتضمن لنفسها إطالة عمر بقائها.
أما علم تاريخ الأديان، فيُعنى بقصة نشأة العقائد والأديان وتطورها عبر العصور، والمؤثرات التي أسهمت في تشكيلها.
مثلًا، أنشأ الفينيقيون القدماء المعابد للإله بعل، الذي عُرف عندهم بالخصوبة والنماء، وتقربوا إليه ليُنعِم عليهم بالزرع. ومع الزمن تسلل تقديس بعل إلى المعتقدات اليهودية، فتقرب إليه أهل المملكة اليهودية الشمالية، وأسسوا له المعابد، خصوصًا في عهد الملك «أخآب» تأثرًا بزوجته الفينيقية «إيزابيل».
وعندما اشتدت حملة رجال الدين والأنبياء على هذه الممارسة المُصَنَّفة بأنها شِركية، استبدل به الأهالي شخصية «مار إلياس» (النبي إلياس، الذي تقول قصته إنه حارب تقديس بعل، وأعطاه الله القدرة على التحكم في الخصوبة والجفاف)، وأنشؤوا له الهياكل والمقامات التي ما زالت قائمة في سوريا ولبنان، وإلى يومنا هذا يقول بعضهم عند الزراعة: «يا مار إلياس الأخضر، بارِك زرعنا الأخضر».
علماء الأديان وتاريخها ومقارناتها حتى الآن يدرسون تأثير إيمان المصري القديم بقصة إيزيس وأوزيريس، وموت الأخير وبعثه، في سرعة إيمانهم بالمسيح وصلبه وقيامته والأم المقدسة مريم (التي تعادل في القصة المصرية القديمة إيزيس أم حورس)، وتعظيمهم فكرتي الاستشهاد والقيامة.
يدرس علماء الأديان أيضًا أثر فترة السَّبي البابلي لليهود، واطلاع هؤلاء على قصص الآلهة العراقية المحارِبة، مثل «مردوخ» و«أشور» و«إنليل»، على الرؤية اليهودية لـ«يهو» إله بني إسرائيل المحارب الغيور القاسي على أعدائه.
عند دراسة الموروث الإسلامي يمكننا أن نقارن تصوير بعض الرواة المسلمين لقصة النبي إدريس وارتقائه إلى السماء لتلقي العلوم الدينية والدنيوية بقصة أوزيريس وصعوده من حين إلى آخر إلى «تاسوع الآلهة» لتعلم الكتابة والتخطيط العمراني وبناء المعابد والصلوات.
لفهم تلك الموروثات الفلكلورية، علينا أن نتتبع طرف الخيط وصولًا إلى الأسطورة، ثم ندرس كيف تكيفت تلك الأسطورة المنتمية إلى دين قديم مع معطيات الدين الجديد، لتصبح من معتقدات بعض معتنقيه.
أليس في ذلك ردٌّ على من يصفون دراسة الأساطير بأنها علم لا ينفع، وهم غالبًا ممن يرون أنَّ لا علم إلا ما كانت فيه فائدة دينية؟ هل يمكنهم أن يمارسوا عملهم في «تنقية» معتقداتهم من البدع الدخيلة، بحسب وصفهم، إلا بدراسة أصولها؟
المشتغلون بعلمي التفسير والحديث، حين يصفون خبرًا ورد في هيئة تفسير قرآني أو حديث نبوي بأنه من الإسرائيليات، يجدون أن عليهم فهم الموروثات اليهودية وأصولها. تلك الأصول يجد علماء الأساطير تداخلًا لها مع أساطير الشعوب التي اختلط بها اليهود القدامى، ما يعني أن هناك نقطة التقاء بين علم الأساطير من ناحية، والعلوم الدينية من ناحية أخرى.
كقاعدة: أي معتقَد ديني هو أسطورة بالنسبة إلى المعتقَد الآخر، إلا ما كان متطابقًا تمامًا.
على هذا الأساس، تكون الأمور غير المتطابقة في التوراة مع القرآن، في نظر علماء التفسير والحديث، أساطير. ومما ينسب إلى النبي محمد أنه أمر الصحابي زيد بن ثابت بدراسة كتب اليهود حتى لا يتداخل ما فيها مع الموروث الإسلامي، أي إنه عمليًّا أمره بدراسة «أساطير» يهودية. ألا يعني هذا أن دراسة الأساطير «علم نافع»، وأن إهمالها «جهل يضر»؟
كيف نستسلم إذًا لوصف علم متصل بالتاريخ والفلسفة والدين والفلكلور بأنه «مجرد حكايات»، أو «علم لا ينفع، وجهل لا يضر»؟ هذا القول شديد التهور، فهو مثل خلخلة عمود مهم يقوم عليه بنيان الحضارة الإنسانية، ودعامة أساسية للعلوم الإنسانية، ومُبتدأ لفهم خبر الفكر الإنساني. وهو كذلك استهتار بعلوم شديدة الأهمية، إذ لا يخلو علم منها من احتياج إلى دراسة الأسطورة.