من وجهة نظر داروينية: هل تنقذنا الحكايات من الانقراض؟

الصورة: Margaret A. McIntyre

سارة فلاح
نشر في 2019/08/08

التساؤل حول قضية جدوى القصص والروايات، والأدب عمومًا، قديم ومتكرر. يسلِّم الأدباء والنقاد بأن للقصص قيمتها العظيمة، وإن اختلفوا حول التفاصيل. لكن العلم يبدو مشككًا على الدوام. 

فلنتساءل مرة أخرى وبعيدًا عن القيم المعنوية العظيمة: هل تقدم الحكايات أي فائدة مادية؟ وهل أسهمت في تطور البشرية على نحو ما فعلت العلوم الطبيعية كالفيزياء والرياضيات؟ يحاول مقال على موقع مجلة «The Atlantic» الإجابة عن السؤال من وجهة نظر علم النشوء والارتقاء.

وفي محاولة للإجابة، يأخذنا المقال في رحلة عبر الزمن إلى عصور موغلة في القدم، قبل ميلاد المسيح وقبل عهد يوليوس قيصر، إلى أحد العصور الجليدية، وتحديدًا العصر البليستوسيني.

نراقب قبيلة متحلقة حول النار، يتفاخر أحد أفرادها بصيده. يحكي للجالسين قصة ظفره بخنزير بري، ويروي القصة بشكل ساحر، حتى إنك تكاد تسمع أنين الطريدة، وتشعر بالسهم يخترق جوفها. الجمع مأخوذ بالحكاية، لكن الراوي مهتم بفرد واحد، امرأة معروفة بولعها بالقصص، لا يطمئن حتى تصفق المرأة لحكايته بجذل. 

على بعد بضعة تلال نشاهد قبيلة أخرى، متحلقة في نفس الطقس المسائي. لكن الراوي هنا فتى مضطرب، يروي حكايته مع جاموس الماء بتشتت واقتضاب. لا يبدو أن الجمع مهتم، وبمجرد سكوته ينسون جميعا قصته. لن يتذكر أحد هذه القصة حتى يقتل جاموس الحكاية فتى آخر. 

ستنجو القبيلة الأولى، وبعد أجيال عديدة سيؤلف أحفاد أحفاد الراوي الأول والناقدة الأولى قصصًا أجمل وأكثر نضجًا. أما القبيلة الثانية فستنقرض مع باقي الكائنات خلال الانقراض الجماعي (الهولوسيني). لكن هل يُعقل أن يكون السبب وراء مصير القبيلتين مرتبطًا بالحكايات حقًا؟ 

كيف يمكن للحكايات أن تنقذ البشرية من الانقراض؟

الصورة: pexels

يجيب المقال عن هذا السؤال بالعودة إلى مبادئ نظرية التطور. فكي يتمكن نوع ما من النجاة، على أفراده أن يتناسلوا لإنتاج أجيال عديدة قادرة على تحمل تحديات الطبيعة. بحسب داروين، هناك طريقتان لزيادة النسل: الانتخاب الطبيعي، والاصطفاء الجنسي. بمعنى آخر، لا تُحدث أي صفة تأثيرًا حقيقيًا يسهم في تطور النوع إلا إن كانت تمكنه من البقاء على قيد الحياة، أو تضمن له شريكًا متفوقًا.

أهم الصفات التي تميزنا عن باقي الكائنات الحية، خاصية يسميها العلماء «القدرة على التفكير بالواقع المضاد» (Counterfactual Thinking)، هذه الخاصية هي التي تجعلك تتخيل ما سيحدث لك عندما ينفد الطعام أو تتأخر عن العمل، وفي تمثلها الأكثر تعقيدًا، تجعلنا قادرين على إنتاج روايات مثل «الحرب والسلام».

في المحصلة، أليست كل القصص في جوهرها إجابة عن سؤال «ماذا لو؟». ماذا لو هاجمني خنزير بري؟ ماذا لو أسقطنا الرئيس؟ ماذا لو أحببت ابنة الجيران؟ 

لا تمنحنا الحكايات سيناريوهات افتراضية عن المستقبل فقط، وإنما تهيئنا لمواجهتها، وتجعلنا قادرين على تجاوزها بنجاح. اكتشف العلماء أن الدماغ يعالج المعلومات المقروءة والمعاشة بنفس الطريقة، وذلك بفضل شبكة من الخلايا العصبية تدعى «العصبونات المرآتية» (Mirror Neuron).

نعلم أيضًا أن القصص تزودنا بمعرفة تاريخية وثقافية غنية، وتساعدنا على تطوير أنفسنا عاطفيًا، لأننا بفضل الحكايات نصير أقدر على التعاطف مع الآخر وعلى فهم ذواتنا. بحسب المقال، تجعلنا الحكايات أكثر تفوقا في مواجهة ظروف الحياة العملية والعاطفية. 

لكن ماذا عن شريك الحياة؟ هل تساعدنا الحكايات على اجتذاب الجنس الآخر؟ وفقًا للمقال فالإجابة هي نعم بالتأكيد. لأن غواية الحكاية تُبقي راويها أيضًا. نحن نُعجب بشدة ونتعلق بالروائيين والمبدعين، تسحرنا شخصياتهم بقدر ما تسحرنا أعمالهم الروائية. وعندما يبدع كاتب ما نصًا ساحرًا، فإننا نُفتن بشخص الكاتب تمامًا كما نُفتن بنصه. 

قراءة الروايات تجعلنا ألطف، أكثر شاعرية، تصنع منا محاورين بارعين، تمنحنا سحر الكلام.

من هنا يأتي احتفاؤنا بالكُتاب المبدعين، وتنظيمنا للجوائز الأدبية، وبناؤنا للنصب التذكارية، في فعل لا يختلف في جوهره عن تصفيق أسلافنا المتحلقين حول النار والمنبهرين براويهم. 

لكن الحكاية لا تمنح سحرها لكاتبها فقط، بل لقارئها أيضًا. قراءة الروايات تجعلنا ألطف، أكثر شاعرية، تصنع منا محاورين بارعين، تمنحنا سطوة اللغة وسحر الكلام. تلك المعرفة الغنية بمختلف نواحي الحياة التي نكتسبها من الروايات تجعلنا أعمق وأقدر على فهم الآخر وكسب وده. 

هكذا يبدو فعل سرد الحكاية وقراءتها في مستواه الأكثر بدائية: اصطفاءً جنسيًا، تمامًا كما يفعل ذكر الطاووس حين ينفش ريشه.

عن أي حكاية نتحدث؟

الصورة: NPS

يتساءل المقال: هل تفي أي حكاية بالغرض؟ أم إن هناك نوعًا خاصًا من الحكايات المجدية التي تدفع بالبشرية نحو الأمام؟

يعتقد العلماء أننا نعيش في نهاية عصرنا الجيولوجي، وأننا على شفى عصر جليدي جديد، إذ يشهد الكوكب معدلات انقراض لا مثيل لها.

نشاهد اليوم الزيادة المستمرة لروايات الجريمة والرومانسية، وهوس الجمهور الدائم بجرائم القتل وقصص غزو الزومبي للعالم. لكن هذا الإقبال ليس معيارًا للجودة، وإنما فقط انعكاس لغرائزنا الأولية، لأنه يتمحور حول الجنس أو النجاة من الموت.

على الحكاية الجيدة أن تساعدك على النجاح في حياتك وعلاقاتك الواقعية. لكي نحكم على جودة الحكاية، يجب أن نفكر: هل تساعد على إنشاء أجيال أكثر تطورًا، أجيال قادرة على مجابهة تحديات الواقع؟

هل ستبقى الحكايات طوق نجاة للبشرية؟

يحذر المقال من أن الميزة التطورية هذه قد تؤدي إلى نتائج عكسية وتتحول إلى خطر يهدد بقاءنا. فبحسب مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، يقضي الفرد في أمريكا ربع حياته اليقظة تقريبًا في عوالم من الخيال. فبالإضافة إلى الروايات، هناك الأفلام والمسلسلات وألعاب الفيديو. 

نحن غارقون في العوالم الافتراضية لدرجة أننا نسينا كيف تُعاش الحياة الواقعية. إننا نعيش عصرًا تستهلك فيه البشرية قصصها بشراهة لم يشهدها أي عصر مضى. قصصنا اليوم لا تهيئنا لمواجهة الواقع، بل تسرق واقعنا منا. وبذلك نكون معرضين لخطر حقيقي.

يعتقد علماء الجيولوجيا أننا نعيش في نهاية عصرنا الجيولوجي، وأننا على شفى عصر جليدي جديد، إذ يشهد الكوكب معدلات انقراض لا مثيل لها. لكن ما دمنا نختار الحكايات بحكمة، ونعرف كيف نتعلم منها دروسًا نطبقها في حياتنا الشخصية، فقد نتمكن من النجاة، كما نجا أسلافنا البليستوسيين قبل آلاف السنين.

مواضيع مشابهة