تخيل أنك في جنازة شخص تحبه. الهواء متخم بالصمت. ألم عميق للحد الذي يمنعك من التنفس، ألم يتحرك بداخلك، يخرج فجأة بعنف، فتصرخ عاليًا. شخص ما يمرر لك منديلًا، وآخر يربت بيده على كتفك، وتنفجر أنت بالبكاء.
الآن، كأن فجوة داخل قلبك لن تلتئم أبدًا. لكن ربما لا يجب لجرحٍ مثل هذا أن يلتئم. لقد فقدت شخصًا، وإلى الأبد، وهذا الألم قد يلازمك، تحمله أينما خطوت.
كيف يجدر بنا أن نحزن؟ ننتحب أم نقطع وصلات الصراخ؟ هل يجب علينا ابتلاع ألمنا سريعًا؟ أم العيش معه لفترة؟ هل يكون هدفنا النسيان أم إحياء الذكرى؟
يرى بعضهم أنه لا توجد إجابة صحيحة. فنحن نختلف في شعورنا وفي طرق التئام آلامنا، وهذا أمر طبيعي. لكننا يمكن أن نستكشف مساحات هذه الأفكار في «الفلسفة الرواقية» (مدرسة فلسفية انتشرت في إطار الثقافة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد)، إذ تطرح إجابة عن أسئلة الحزن، وتقول إن الإجابة عن السؤال هي أننا لا ينبغي علينا أن نحزن أصلًا. فما حدث قد حدث بالفعل. لا يوجد شيء يمكننا فعله لتغيير الوضع. لذا عليك تخطِّي الأمر. هكذا ببساطة.
يبدو الأمر باردًا ومن دون إحساس، كما كان يبدو تمامًا في الوقت الذي عاش فيه الرواقيون. وفقًا لـ«سينيكا»، وهو أحد أشهر الفلاسفة الرواقيين، فإن منتقدي الفلسفة الرواقية كانوا عادة ما يتهمونهم بأنهم صارمون أكثر من اللازم، وذوو قلوب قاسية، لا تعرف الحب ولا الرحمة، لأن الرواقيين كانوا يؤكدون أن الحزن لا يجب أن يُترَك له مكان في الروح، ولا بد من طرده والتخلص منه.
هل كان هذا افتراءً من النقاد؟
في الحقيقة، فإن عددًا من مفاهيم الفلسفة الرواقية كانت قاسية فعلًا. إذ اعتقدوا أن الوجود العقلاني المثالي، وهو الحالة التي علينا التطلع إليها، لا يرضخ للحزن أبدًا أمام الموت. ومع ذلك، فمن الطبيعي أن نسأل: كيف لوالد ألا يعذبه حزنه على موت طفله؟
يرى «براين دي إيرب»، الفيلسوف وعالم النفس، والأستاذ بجامعة يال، في مقال له على موقع «Aeon» أن الرواقية تستطيع أن تعلمنا كثيرًا من الأمور حول طرق استجابتنا للموت تحديدًا، ولكل النوائب التي تمر علينا.
تخيل أن يموت شخص تحبه، وتكون استجابتك الوحيدة لهذا الفقد هي ترديد عبارة «يا خسارة».
يتبع الرواقيون المدرسة الفلسفة التي أسسها «زينون الرواقي» في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد. اهتم الرواقيون كثيرًا بالتمييز بين ما نستطيع وما لا نستطيع السيطرة عليه. أي إننا لا نملك مفرًّا من تنسيق أفكارنا وسلوكياتنا مع مسار الطبيعة الحتمي. إذ كانوا يصنفون من ينجح في فعل هذا بأنه إنسان جيد وفاضل. وبهذا الشكل، كانوا يصنفون الحزن على موتٍ الأحباء بأنه خطأ جسيم.
ظاهريًّا، يبدو هذا جنونًا. يُتهم مَن يفشل في الشعور بالحزن عندما يموت شخص عزيز عليه، أو حتى الفشل في الشعور بقدرٍ من الحزن يعادل حبه لمن مات، بأنه يعاني من خلل عقلي.
لكن براين يورد في مقاله، ما كتبه «دان مولر»، فيلسوف بجامعة ميريلاند، عن سلالةٍ من كائنات خيالية تمتاز بالمرونة الفائقة، وأسماهم «البشر المعدلون»، إذ إنها مخلوقات تشبهنا تمامًا، لكن ليس لديها ردود أفعال حزينة على ما يحدث من مصائب مؤلمة.
يشرح مولر أنه في حالة موت أحد أحبائهم أمام أعينهم، فإنهم يهزون رؤوسهم، ثم يستمرون في ما كانوا يفعلونه مثل مشاهدة التلفاز. ولو كان الشخص الذي فُقِد زوجَ أحدهم، فإن الزوجة سرعان ما تتزوج مرة أخرى بمجرد أن تتمكن من العثور على رفيقٍ آخر مناسب، والذي يحدث غالبًا في غضون أسابيع. اختصارًا لهذه الصورة، ها هي أخرى: تخيل أن يموت شخص تحبه، وتكون استجابتك الوحيدة لهذا الفقد هي ترديد عبارة «يا خسارة». ما يصفه مولر حول تلك السلالة المُتخيلة هو ما ينصح به الرواقيون: ألا نحزن، ولا للحظة واحدة!
أليس هذا قاسيًا؟
مولر ليس المفكر الوحيد الذي يستنكر هذه الفكرة. فقد استخدم ويليام شكسبير الفكرة ذاتها في مسرحية «هاملت». فعندما تزوجت والدة هاملت سريعًا بعد وفاة والده، علَّق ابنها على زواجها بأن الوحوش الشريرة كانت ستحزن أكثر من شهر واحد.
قد يهمك أيضًا: لماذا نحب الأغاني الحزينة؟
ما وراء البديهيات:
يرى الرواقيون أنك إن فشلت في أن تحزن على فقدان من تحب، فهذا لا يعني أنك لم تحبهم، ولا أن مشاعرك لم تكن حقيقية. بل يتسامحون مع هذا، ويشعرون بالشجن حياله كذلك، ويجادلون بأن الإنسان يمكنه أن يحب شخصًا ما بصدق، دون أن يتأثر بموته إلى درجة كبيرة.. والسبب؟ أنهم عاشوا حياتهم مستعدين نفسيًّا لحتمية الفقد والموت.
هذا ما يختلف بين حواسنا وحواس الرواقيين، أو الإنسان الذي يرغب الرواقيون في الوصول إليه.
لكن «إبيكتيتوس»، وهو فيلسوف رواقي عاش منذ ألف سنة في روما، يرى أنه لا يجب على المرء أن يكون من دون شعور كالتمثال، وأنه لا بد له من الحفاظ على علاقاته الاجتماعية. وأكد أننا كائنات اجتماعية تختبر الحب بأشكاله المختلفة، مشددًا على أنه إذا وُلد لنا طفل، فإننا لا نستطيع إلا أن نحبه ونرعاه لأن هذه هي طبيعة الأمور، وهذه هي الطريقة التي نمارس بها حياتنا الطبيعية.
لكن، ألا يشمل حبنا لهذا الطفل ورعايتنا له أن نشعر ولو بقليل من الحزن عندما يعاني أو يموت؟ يتعارض اللاحزن الذي تروِّج له الرواقية أحيانًا مع الطبيعة البشرية، ومع رد الفعل التلقائي تجاه من نحبهم. وكما يزعم بعض الرواقيين، فإن الفضيلة لا يمكنها الوجود دون المعصية، لأن وجود الحزن يرتبط بوجودِ الحب.
تنهمر الدموع حتى لو قمعناها، وفي سقوطها راحة للعقل. فلِمَ لا؟
في كتابها «الرواقية والعاطفة» (2007)، تؤكد «مارغريت غرافر»، أنه لم تكن لدى مؤسسي المدرسة الرواقية أي نية لإلغاء المشاعر العاطفية أو نفيها، وإنما كان مسعاهم، من خلال تأمُّل النفس، هو معرفة مشاعرنا الطبيعية وتحديدها. فكثرة المشاعر التي نختبرها، وارتباكها وتزاحمها،كانت دائمًا ما تثير استياءهم، وربما ارتباكهم كذلك. ترى أنه لم يكن هدف الرواقيين القضاء على كل ما نشعر به من مشاعر، وإنما أرادوا فهم أنواع ردود الأفعال العاطفية التي قد تصدر من شخصٍ خالٍ من أي أفكار وتوقعات مكتسبة.
هنا تكمن أهمية الاستعداد النفسي وإدراك حتمية الموت. إنها وسيلة منهجية لتحرير النفس من الأفكار غير المثمرة حول الحياة والموت. وعندما نتخلص من هذه الأفكار، فإننا نقترب أكثر وأكثر من الحكمة والعقل. وهو ما يقصده سينيكا، عندما يقول إن هناك بعض المشاعر التي تطالب بأحقيتها. تنهمر الدموع، حتى لو حاولنا قمعها، وفي سقوطها راحة للعقل. فلِمَ لا؟
علينا إذًا أن ندع الدموع تنهمر إن حضرت.. إن ما يتدفق هو ما لا يمكننا التحكم فيه، وليس ما هو مطلوب ومتوقَّع منك أمام الآخرين. دعونا لا نضيف شيئًا إلى حزننا وحدادنا الطبيعي مما قد يبالغ فيه آخرون. دع كل هذا يستغرق ثانية، ثم التقط أنفاسك وانهض.
قد يهمك أيضًا: احزنوا: لماذا يجب أن يؤلمنا الموت المتوقع؟
تمارين لمواجهة الحزن
علينا أن نعي إمكانية أن نفارق هذا العالم في أي وقت، وأن هذا الأمر ينطبق على كل من نحبهم بصدق. الحياة هشة للغاية، وقابلة للتقلُّب والتغيُّر. علينا أن نعي أننا لسنا خالدين، ولا يوجد شيء يمكن فعله حيال هذا. وكل ما يمكن أن يحدث في وقتٍ ما، يمكن أن يحدث الآن. هذا ما يمكن أن نستفيده من الرواقية. يدعو سينيكا إلى أنه في اللحظة التي نستمتع فيها بشيء ما، علينا أن نضع نصب أعيننا الحقيقة التي نخشاها.
وفقًا للفيلسوف «بيتر آدامسون»، أستاذ الفلسفة بجامعة لندن، فإن هذه الفكرة قد تكون الأكثر رعبًا في كل ما وصل إلينا من الفلسفة القديمة. لكن هذا الرعب قد يمكن فهمه والتعامل معه، حينما نفهم أن هذه الفكرة لا تعني أن نمنع أنفسنا من الاستمتاع بالحياة، لكنها تذكير بأهمية الحفاظ على النفس، والتسلُّح بالفهم لحماية أنفسنا، حين نصبح وجهًا لوجه مع حقيقة الحياة القاسية: الموت.
هذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن الرواقيين لا يمتلكون رفاهية الحزن، فهم يحزنون فقط بالقدر الذي تسمح به الطبيعة، لأنهم قضوا حياتهم في التدريب على هذه الفلسفة. وهذا يعني أنهم استطاعوا تخليص أنفسهم من الأفكار المكتسبة غير الطبيعية، وتعلُّم كيفية مواجهة ما هو حتمي. لذلك، عندما يضربهم الموت ويخسرون طفلًا أو صديقًا أو زوجةً أو أخًا دون توقع، فإن استجابة الرواقيين لهذا تعكس استعدادهم الذي حققوه بصعوبة، ولا تعكس افتقارهم إلى الحب والمودة، لكنها قد تعكس ذلك تمامًا بالنسبة إلينا نحن غير الرواقيين.
يمكن أن تكون مشاعر الرواقيين تجاه من يحبونهم أكثر ثراءً من مشاعرنا نحن غير الرواقيين، لأنهم يُذكِّرون أنفسهم في كل لحظة بمدى قيمة هذه اللحظة. وعندما يختبرون موت شخص عزيز، يشعرون ببداية حزنٍ في صدورهم، لكنهم يحولونه إلى ذكرى طيبة تُدخل السرور إلى قلوبهم.
هل من الصعب تجنُّب الوقوع في فخ اليأس، أو الغرق في أحزان الحداد على موت من نحب، ومع ذلك نكون قد أحببناه بصدقٍ حينما كان على قيد الحياة؟ قد لا يكون الأمر صعبًا كما نعتقد.
أولًا، كما يلاحظ مولر، هناك أدلة تجريبية كثيرة على أن البشر يتخطون الخسائر الشخصية أسرع مما كانوا يتوقعون. أي إن معظم الناس، لتجنب التعميم، لا يعانون من حزنٍ وضيق طويل الأمد عندما يفقدون من يحبون.
لكن هذا لا يعني خطأً في النظام، بل إن تلك المرونة في تخطي خسارة من نحب تلعب دورًا مهمًّا ومنهجيًّا في جعلنا أكثر قوة أمام ضربات الحياة الحتمية ونكساتها. بمعنى أن التأقلم مع الخسارة جزء من طبيعتنا ومهاراتنا في التكيف أفضل مما نعتقد.
ثانيًا: هذه القدرة التكيفية بداخلنا ما يسمح لنا بأن نحب إنسانًا ما بكل صدقٍ وهو على قيد الحياة، لكن موته لا يمنعنا عن الحياة. قد يتضح هذا في إحساس زوجةٍ باستعدادها للمخاطرة بحياتها من أجل زوجها، بينما قد تتخطى خسارته دون معاناة. تبين أن هذه صفة مميزة نمتلكها: المزج بين الحب الصادق والتخطي غير العنيف.
هذا تمامًا ما يفعله الرواقيون الذين بدت أفكارهم قاسية وغريبة في بداية حديثنا. قد يرجع ذلك إلى دعوتهم إلى هذا وافتخارهم بقدرتهم على مواجهة الحزن والانتصار عليه. لكن هذه القدرة التكيفية نمتلكها جميعًا، دون إدراكٍ منا. بل ويمكننا أن نعرف من خلالها كثيرًا من الحقائق حول المشاعر التي تستولي علينا حتى نظن أنها خالدة، وهي في حقيقتها شديدة الهشاشة.