لم تكن أعمال الموسيقي «إدموند أودران» غزيرة ولم تتعدّ شهرته موطنه فرنسا، سوى الأوبرا الكوميدية «La Mascotte»، التي تحكي قصة فتاة قروية تجلب الحظ، والتي تخطت حدود شهرة مؤلفها كثيرًا، حتى أن اسم العمل انتقل إلى اللغة الإنجليزية «mascot» للدلالة على الرمز الذي يُستخدم لجلب الحظ، وهو ما يُعرف في اللغة العربية باسم «التميمة».
تمائم: لا تجلبوا الحيوان إلى الملعب، ارسموه فقط
غير مُثبَت تاريخيًّا متى تحديدًا بدء استعمال التمائم في المناسبات الرياضية، إلا أن أقدم ما ذُكر عن التمائم يرجع إلى عام 1883، حين أطلق صبي أمريكي يُدعى «تشيك» بعض الخفافيش خلال مباراة بيسبول، ما اعتبره اللاعبون فألًا حسنًا.
ظهرت التميمة في شكلها الحالي واستُخدمت لأغراض تسويقية يقتنيها مشجعو الفريق، أو كشخصيات تشارك في التشجيع.
تطور استعمال التمائم مع الوقت، حتى أصبح لكل فريق تميمة خاصه به، تمحورت في أغلب الأحيان حول أشكال حيوانات لها دلالة على موطن الفريق، مثل نوع محدد من الماعز موجود في إقليم معين، أو لتعبِّر عن سِمة من سمات الفريق، كالثيران مثلاً للدلالة على القوة والضخامة، وصار من المألوف أن ترى تميمة الفريق مطرزةً على قمصان لاعبيه بدلًا من جلب الحيوان نفسه إلى الملعب كما كان في السابق، نظرًا للفوضى التي يُحدثها.
استخدام الحيوانات كتمائم أو كرمز للدلالة على مواصفات الفرق الرياضية يتوافق تمامًا مع تقديس الإنسان لبعض الحيوانات في الحضارات القديمة، فعلى جدران الكهوف والمعابد في مختلف الحضارات هناك نقوش وتماثيل لاستحضار صفات تلك الحيوانات، كالحكمة أو القوة أو غيرها.
انتقلت التمائم بصورها المختلفة إلى ملاعب كرة القدم، التي لم تخلُ من الأساس من كثير من القصص المتعلقة بالتفاؤل والتشاؤم، فجاءت التمائم متوافقة تمامًا مع أجواء تشجيع كرة القدم.
ومع التطور الصناعي المؤثر في مختلف المجالات، ظهرت التميمة المتعارَف عليها في شكلها الحالي، واستُخدمت بصورة واسعة لأغراض تسويقية، سواء كدُمية ذات حجم صغير يقتنيها مشجعو الفريق، أو كشخصيات حقيقية ترتدي زي التميمة، وتقف على خط الملعب لتحمس الجماهير من أجل التشجيع.
قد يهمك أيضًا: كلاسيكو المتعة والصناعة: من يفوز بـ«كرة القدم»؟
كأس العالم: لكل تميمة قصة
بدأ الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) يستخدم التمائم لأول مرة كأسلوب ترويجي في مسابقات كأس العالم منذ نسخة عام 1966 في إنجلترا، وكانت التميمة هي «الأسد ويلي»، وهو المفضل لكثيرين حتى الآن، ويُستعمل كمعيار للتمائم التالية.
اختارت المكسيك تميمة كأس العالم عبارة عن ثمرة فلفل حار ترتدي القبعة المكسيكية المشهورة.
ولأن لكل تميمة قصة، فقد اختير الأسد لأن المنتخب الإنجليزي يُعرف باسم «منتخب الأسود الثلاثة»، وهذا الشعار يرجع إلى القرن الثاني عشر، فالملك «هنري الأول» كان يُعرف باسم «أسد إنجلترا»، وتزوج من «أديليزا» التي كان والدها أيضًا يحمل شعار الأسد فوق دِرعه، ثم جاء الملك «هنري الثاني» وتزوج «إليانور» التي كان شعار عائلتها الأسد كذلك، وهكذا انضمت الأسود الثلاثة لتكوِّن الشعار. وفي وقت لاحق، استخدم «ريتشارد قلب الأسد» شعار الأسود الثلاثة رمزًا للعرش الإنجليزي.
تلت «الأسد ويلي» تمائم مشابهة من حيث الدلالة في كؤوس العالم اللاحقة، ما بين أولاد يرتدون قمصان الفرق المستضيفة للبطولات، مثلما حدث في المكسيك عام 1970 مع التميمة «خوانيتو»، وهي ولد يرتدي قميص منتخب المكسيك الأخضر ويعتمر القبعة المكسيكية الشهيرة.
تكرر الأمر باختلافات طفيفة في كأسي العالم ألمانيا 1974 والأرجنتين 1978 مع التمائم «تيب وتوب» و«غاوشيتو» على الترتيب، ثم جاءت التميمة «نارانجيتو» الإسبانية مختلفة بعض الشيء في كونها برتقالة ترتدي زي منتخب إسبانيا، التي استضافت كأس العالم عام 1982.
وكما اتجهت إسبانيا إلى الفاكهة، فعلتها المكسيك مع التميمة «بيكيه»، ثمرة الفلفل الحار التي ترتدي القبعة المكسيكية في كأس العالم 1986. وشهدت نسخة إيطاليا 1990 خروجًا عن المألوف، إذ اختار المصممون مجسمًا لعصا تحمل ألوان العلم الإيطالي، وتحمل كرة قدم بدلًا من الرأس، أُطلق عليها «تشاو».
أتيح للجمهور التصويت على تميمة كأس العالم 2002 عبر فروع مطعم ماكدونالدز، لكن لم تحقق التميمة النجاح المطلوب.
عادت الأمور إلى المألوف مع تطور كبير مع كأس العالم أمريكا 1994، إذ صوّت مواطنو الولايات المتحدة لاختيار تميمة كأس العالم للمرة الأولى، وذلك لشد انتباه المجتمع الأمريكي لفعاليات كأس العالم، إذ لا تُعتبر كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى هناك، على خلاف البلدان التي استضافت كؤوس العالم في ما سبق، ووقع اختيار الجماهير على التميمة «سترايكر»، وهو كلب ضخم يرتدي زي المنتخب الأمريكي.
وتمامًا كما فعلها «ويلي» في المرة الأولى، استطاع «فوتيكس»، تميمة كأس العالم في فرنسا 1998، جذب الأنظار، وحاز ذلك الديك الأزرق إعجاب الأطفال والكبار، وحقق الغرض الترويجي منه بصورة فائقة، وانتشرت آنذاك موضة ارتداء قمصان عليها «فوتيكس»، وظهر على شارات التشجيع والكوفيات.
«فوتيكس» كان المنتَج النهائي لشهور من العمل لفريق بقيادة مصمم الغرافيك «فابريس بيالوت»، وتعرض لسلسة من التقييمات والاختبارات في جميع أنحاء فرنسا لضمان أن يكون مناسبًا. وربما استطاعت تلك التميمة أن تعيد نجاح «ويلي»، لأنها عَبّرت في الأساس عن لقب المنتخب الفرنسي، فالديوك شعار فرنسا للدلالة على اليقظة، تمامًا كما كانت الأسود شعار الإنجليز.
في كأس العالم 2002 بكوريا واليابان، ظهرت أساليب جديدة للترويج والمنفعة التجارية، إذ أُتيح التصويت على التميمة لمستخدمي الإنترنت وعبر فروع مطعم ماكدونالدز في الدول المضيفة، ليستقر الاختيار على التميمة «أوتو» و«كاز» و«نيك»، مدرب واثنان من اللاعبين شكلهم غير مألوف، ولم يحققوا النجاح المطلوب.
فتح موقع «فيفا» الرسمي باب التصويت كذلك لاختيار تميمة كأس العالم 2006 في ألمانيا، وعاد الشكل التقليدي في صورة الأسد «بيلي».
حصل تطور جديد في تصميم التمائم مع النمر «زاكومي»، تميمة كأس العالم 2010 في جنوب إفريقيا، إذ اخترعت اللجنة المنظمة قصة تخيلية لها، فزاكومي وُلد في 16 يونيو عام 1994، و16 يونيو يشير إلى انتفاضة الطلاب في جنوب إفريقيا للاحتجاج ضد الفصل العنصري في المدارس، أما 1994 فهو العام الذي أدلى فيه الجنوب إفريقيين بأصواتهم للمرة الأولى لانتخاب حكومة ديمقراطية.
أما تميمة كأس العالم في البرازيل 2014 فكانت على شكل حيوان المدرع، وبدأ الأمر مع حملة قادتها «كاتينغا»، الجمعية غير الحكومية المعنية بالبيئة، من أجل التوعية بأهمية ذلك الحيوان الذي تعرضت أعداده لانخفاض ملحوظ في السنوات الأخيرة قبل البطولة.
استجاب «فيفا» للحملة، وطرح على البرازيليين ثلاثة أسماء للتصويت لمدة ثلاثة أشهر، وصبّت النتيجة في صالح الاسم «فوليكو».
قد يعجبك أيضًا: كيف استغل الساسة شغف جماهير كرة القدم؟
تنتهي تمائم كأس العالم بـ«زابيفاكا»، الخاصة بكأس العالم روسيا 2018. اختيرت «زابيفاكا» عن طريق عملية مكونة من ثلاث مراحل، في المرحلة الأولى جُمعت اقتراحات من الأطفال الروس عبر الإنترنت، وبعد الاستقرار على ثلاثة نماذج لثلاث شخصيات (ذئب ونمر وقط)، وهي اختيارات اجتمع عليها أغلب الأطفال، بدأت المرحلة الثانية، ففُتح الباب أمام طلبة الجامعات لتصميم نماذج للتميمة، ثم كانت المرحلة الأخيرة بالتصويت على ثلاث تصميمات.
اشترك أكثر من مليون شخص في التصويت على موقع «فيفا»، وأُعلنت النتائج في عرض مباشر على التلفزيون الروسي، وفاز الذئب «زابيفاكا» رسميًّا.
تطورت التمائم علي مدار التاريخ من حيث الشكل والاستعمال، إلا أنها بقيت كرمز يعبِّر عن الحدث المرتبط بالتميمة. التميمة تذكار مهم لدى عديدين، وبمجرد رؤية «فوتيكس» ستتذكر هدفي زيدان في نهائي كأس العالم 1998، بينما لا يحظى «فويلكو» بشعبية داخل البرازيل، إذ شهد هزيمتها المذلة على يد الألمان. وهكذا تلعب التمائم دورًا كبيرًا في التعبير عن البطولات المختلفة، وبعضها يحصل على شعبية تفوق أحيانًا لاعبي كرة القدم أنفسهم.