سور الأزبكية واحد من الحواضر الثقافية التي تشكل جزءًا من تاريخ مصر، وهو مجموعة من المكتبات المختصة ببيع الكتب القديمة والمستعملة في وسط القاهرة.
اكتسب السور اسمه من أصل المكان الذي أقيم فيه، حيث كانت تلك المكتبات منافذ لبيع الكتب القديمة على سور «حديقة الأزبكية» العريقة التي تأسست في عهد الخديوي إسماعيل في وسط المدينة، باعتبارها جزءًا من الثورة الجمالية التي أقامها الخديوي في القاهرة، إذ كانت في البداية منافذ للبيع دون سند قانوني، إلى أن أمر الرئيس جمال عبد الناصر بترخيص تلك المكتبات من مجلس محلي محافظة القاهرة في خمسينيات القرن العشرين، لما رآه مكانًا يحكي تاريخ المنطقة.
على الرغم من تغيير معالم المكان، وتهدم الجزء الأكبر من الحديقة، ظلت تلك المكتبات في مكانها أعلى محطة المترو، تحكي تاريخًا يوشك أن يذهب طي النسيان.
يشهد سور الأزبكية إقبالًا كبيرًا من جماهير القراء هذه الأيام عقب افتتاح معرضه الأول للكتاب، والذي جاء تعويضًا للبائعين عن عدم مشاركتهم في معرض القاهرة الدولي للكتاب، إثر قرار جمعي من أصحاب مكتبات السور بعدم المشاركة في المعرض، بعدما قررت إدارة المعارض بالهيئة العامة للكتاب تقليص عدد الأماكن المخصصة لتجار السور إلى 33 مكانًا فقط، مع رفع القيمة الإيجارية للمكان الواحد، فيما يضم السور 133 مكتبة.
في هذا الصدد يقول حربي محسب، كبير التجار في سور الأزبكية: «انتقلت أرض المعارض هذا العام إلى مكان جديد بمنطقة التجمع الخامس البعيدة عن قلب العاصمة، ما تسبب في مشاركة عدد صغير منا فقط، فكان قرارنا عدم المشاركة، إذ لا يجوز أن يشترك بعضنا بينما يُحرَم الآخرون».
كانت للتجار رؤيتهم في إعادة النشاط إلى المكان التراثي بذلك المعرض، إذ بحثوا عن أفضل المواسم التي يمكنهم فيها تحقيق مبيعات تعوضهم عن عدم المشاركة في معرض القاهرة، فجاء اختيارهم الفترة من 15 يناير إلى 15 فبراير 2019، لأسباب يشرحها محسب لـ«منشور» قائلًا: «اخترنا موعد إقامة المعرض في فترة إجازات نصف العام الدراسي، لأنه توقيت مهم بالنسبة إلينا والقراء على حد سواء. كنا جهزنا بضائعنا للاشتراك في المعرض الدولي، لكن الظروف حالت دون ذلك، فكان قرارنا إقامة المعرض هنا في مكاننا لمدة شهر كامل».
يضيف محسب: «قدرتنا على الدعاية والإعلان ضعيفة، ولا نملك الإمكانيات المادية لذلك. نحن أناس بسطاء، ونريد لكل من لم يحالفه التوفيق في البيع أن يجد فرصته في الأسبوع الذي يليه، وهكذا على مدار أربعة أسابيع ليحصل الجميع على فرصتهم».
تزامُن توقيت معرض سور الأزبكية مع موعد معرض القاهرة أثار الحديث عن نية التجار المنافسة والتأثير في المعرض الدولي.
جاء المعرض بسيطًا في تجهيزاته وإمكاناته، ليعيد الرواج إلى منفذ بيع الكتب القديمة الأهم في مصر، واستطاع أن يجتذب عددًا كبيرًا من القراء والباحثين عن الكتب التراثية بأسعار معقولة، وجذب عددًا من الشخصيات العامة.
قال عنه الكاتب والروائي عمر طاهر، عبر حسابه على فيسبوك: «لم أكن أنوي الذهاب بسبب الكتب المقلدة، لكني هكذا سأظلم بائعي الكتب الأصلية المستعملة والقديمة الذين يحافظون على جودة بضاعتهم (...) خرجت بحقيبة مليئة بكتب حلوة بأقل من 150 جنيهًا (نحو 8 دولارات)».
بين معرضي القاهرة والأزبكية
لما تزامن توقيت المعرض الذي أعلنه التجار مع موعد معرض القاهرة الدولي للكتاب، أثير الحديث في وسائل الإعلام عن نية التجار المنافسة والتأثير في المعرض الدولي، إلا أن التجار كان لهم رأي آخر يعلنه حربي محسب بنفسه.
«لم نقصد بالطبع، فمعرض القاهرة 2019 احتفال باليوبيل الذهبي، وهو يخص البلد والدولة والشعب، ويخصني أنا باعتباري مواطنًا مصريًّا، وبالتالي يضرني نفسيًّا على الأقل لو حدث له أي ضرر، حتى إذا لم يطالني الضرر المادي بسبب عدم المشاركة. تفكيرنا في الموعد انصب على الاستفادة من فترة إجازة المدارس والجامعات، لأن لدينا بضاعة مخزنة، لو لم نبعها فلن نبيع طوال العام».
يوضح محسب أن «البضاعة التي لدينا وضعنا فيها كل رأسمالنا، ولم يتبقَّ لدينا أي سيولة بعد شرائها. لو لم نبع، ستتعرض للركود، وسنضطر للانتظار إلى العام القادم، لذا كان اقتراح المعرض حتى نستمر. هذه حكايتنا بكل بساطة».
الكاتب أشرف الخمايسي يؤكد، في بث مباشر لصفحة السور على فيسبوك، أنه «سعيد بإصرار المعرض على الوجود بالتوازي مع معرض القاهرة الدولي للكتاب، فقد فهمت الآن من الناس هنا أن هذا الوجود ليس من أجل التنافس أو ليكون فعالية تُحارب أخرى، إنما هو كقول: وإن كنتُ أُقصيتُ فأنا موجود معكم لأُثري الحركة الثقافية في مصر. المسألة ليست تعارك ولا اصطدام ولا تصارع، بقدر ما هي فكرة: أنا موجود، لا تنسوني».
الأزبكية: جواد يصحو من كبوته
يعرض سور الأزبكية بضاعته في أول انطلاقة لمعرضه الخاص بنفس أسلوب العرض المعتاد في مكتبات السور، حسب ما تسمح مساحة الأماكن لديهم، ويمكن زيادة المعروضات كلما راجت حركة البيع.
لكن لمعرض السور مزايا أكبر يقدمها لرواده، يُجملها محسب في قوله: «إذا كنا نقدم خصومات على المبيعات تصل إلى 30% في معرض القاهرة، فسنقدمها هنا بنحو 60% و70% بسبب عدم وجود تكاليف العمالة والنقل والإيجار. كذلك، ستجد لدينا الجديد من الكتب التي اشتريناها طول العام ولم نعرضها في المكتبة، ولم يتسن لنا المشاركة بها في معرض القاهرة».
تأتي إدارة معرض السور في صورة مشاركة جمعية لكل تجاره، في سبيل تنشيط حركة البيع في جميع المكتبات، واستعادة رواد السور الذين افتقدهم في السنوات الأخيرة، إذ يؤثر انتشار الباعة الجائلين حول المكان والزحام والضجيج على رواجه. ورغم أن هذه الظاهرة أضحت من ملامح المكان، فإن تجار السور يطمحون عبر معرضهم الخاص لاستعادة زبائنهم الذين عزفوا عن زيارته بسبب تلك الظواهر.
يؤكد محسب أن سور الأزبكية لم يتوقف، إلا أن «لكل جواد كبوة، ونحاول الخروج من كبوتنا. وعلى الرغم من انتشار تجار الكتب القديمة في شوارع مصر وميادينها، فإنهم ليسوا كعدد مكتبات السور التي تتجاوز المئة، ومنتجهم ليس بجودة السور من حيث تنوع الأسعار والمعروضات، ما يعطي السور الأفضلية. للسور بصمة صنعت اسمه، لما فيه من كتب نادرة بسيطة السعر، وهو ما لا ينافسه فيه أحد».
تطغى الكتب القديمة والنادرة على معرض سور الأزبكية، بأسعار رمزية يصل سعر بعضها إلى 5 جنيهات.
كبوة الجواد التي يطمح بائعو السور إلى تخطيها، يأتي جزء منها بسبب تحميل السور منفردًا المسؤولية عن انتشار طبعات الكتب المزورة رخيصة الثمن، وهو المكان الذي اشتهر قديمًا ببيع الكتب الأصلية، قديمةً ومستعملة.
لم ينكر حربي محسب وجود بعض تلك الطبعات، لكنه يرى لها مبررات: «في نهاية السبعينيات، شهدتُ بنفسي بيع مكتبة المفكر سلامة موسى هنا في السور، وبالمثل مكتبة الفنان حسين رياض. السور كان مقصد كل من يريد بيع كتبه، أما اليوم فطرأت ظاهرة جديدة: عند موت أحد الأعلام يتبرع أهله بمكتبته الخاصة لأي جامعة أو لوزارة الثقافة، ما جعل المعروض من الكتب القديمة قليلًا بعض الشيء نظرًا لصعوبة وجوده، إذ تصلنا أشياء قليلة منه، الأمر الذي ذهب ببعض زملائنا إلى العمل في الكتب والمطبوعات الحديثة كالكتب الدينية».
«للطبعات الرخيصة من الروايات ما يبررها، إذ إن المثقف بصفة عامة فقير ويحب القراءة، ويرغب في الحصول على ما يريد في حدود إمكانياته المادية، وحين يذهب إلى المكتبات الحديثة يجد ثمن الرواية 70 أو مئة جنيه مصري (4 دولارات/55 دولار)، فيأتي إلى هنا أو يذهب إلى أي بائع كتب متجول في الميادين والشوارع، ويجدها لا تتجاوز 20 جنيهًا (دولار واحد تقريبًا)، ما يضطره إلى شراء النسخة الأرخص. وسهولة حركة البيع في هذه الطبعات دفعت بعض زملائنا إلى اقتنائها».
المبررات التي وضعها محسب لتلك الظاهرة لم تمنعه من التحفظ على تشويه السور بها، إذ يؤكد أنه بسبب إلصاق تلك الظاهرة بالسور، يسعى 90% من تجاره في معرضهم الخاص إلى بيع المنشورات الأصلية، بين الكتب والمجلات والجرائد القديمة من جهة، والكتب الأصلية في المطبوعات الحديثة التي سيعمل بها 10% المتبقين من تجار السور. يمكن أن يلحظ زوار المعرض هذا، إذ تطغى الكتب القديمة والنادرة على المعرض وبأسعار رمزية، يصل سعر بعضها إلى خمسة جنيهات أو عشرة (ربع دولار/نصف دولار).
بحسب محسب، فإن إلصاق هذا الاتهام بالسور وحده فيه تحامل شديد على بائعي الكتب، لأن الطبعات الرخيصة والمزورة تنتشر في أماكن عدة في الشوارع والميادين المصرية: «هذه محاولة لقتل السور، لكنه باقٍ والأفراد زائلون، وليس لأحد أن يتخيل أنه سيهدمه بالتشويه».
إلى أين يمضي المعرض بـ«سور المعرفة»؟
يرى محسب أن سور الأزبكية «هبة الله لمصر»، إذ قلما يوجد أمثاله في المنطقة العربية، ما جعل كثيرين يتمنون وجود مثله في بلادهم، إلا أنه يعاني من إهمال الدولة ووزارة الثقافة رغم احتوائه على كنز ضخم من التراث الثقافي.
على الرغم من هذا الإهمال الشديد، يرفض أصحاب المكتبات إطلاق اسم «المعرض الموازي» الذي شاع في وسائل الإعلام عن فعالية السور، إذ يرونها ببساطة تعويضًا عن عدم مشاركتهم في معرض القاهرة.
يقول محسب إن كلمة «موازٍ» مزعجة بالنسبة إليه، لأن هناك من يفهمها على أن بائعي السور يتَحَدُّون معرض الكتاب: «يمكن أن نسميه أي تسمية أخرى، لأننا أبسط وأضعف من أن نتحدي أحدًا».
قد نجد لنفي تحدي الدولة بُعدًا منطقيًّا، فبائعو السور يعيشون نمطًا بسيطًا للحياة مثل كثير من المصريين، يكسبون «رزق اليوم بيومه»، وليس فيهم من أصحاب النفوذ والثروات، وليسوا من النخبة.
يَعِد تجار السور بتكرار المعرض مرتين سنويًّا حال نجاحه، ليكون الأول في إجازة نصف العام والثاني في إجازة آخر العام.
لزبائن السور رؤيتهم في عدم مشاركته في معرض القاهرة. يأسف أحمد عامر، وهو مؤذن بأحد مساجد محافظة دمياط شمال القاهرة، لعدم مشاركة سور الأزبكية في معرض القاهرة الدولي للكتاب. يؤكد لـ«منشور» أنه سيفتقد السور، ولهذا سيتوقف عن الذهاب إلى معرض القاهرة كعادته كل عام.
رغم ارتباط اسم السور بتاريخه، يؤكد عامر أنه يستحق اسم «سوق المعرفة» وليس الأزبكية، ويعلل تسميته بأن «السور بحد ذاته تاريخ، بكتبه النادرة وناسه، وليس فقط بمسماه»، ويؤكد كذلك أنه ومعه كل القراء يتحملون مسؤولية نجاح معرض السور.
خلال حديثه مع صفحة المعرض، يوضح أشرف الخمايسي الأهمية الثقافية والتاريخية لسور الأزبكية: «أحضر معرض سور الأزبكية اليوم لأنه تاريخ تربينا عليه. فمثلما كنا نزور مصر القديمة وشارع المعز وأهرامات الجيزة، كان لا بد أن نمر على سور الأزبكية. ولست وحدي مَن مر مِن هنا، بل مر عليه كل عمالقة الكتابة وأساتذة التاريخ والأدب والعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، ليشتروا كتبًا ويضيفوا إلى العلم الإنساني».
يَعِد تجار السور بتكرار المعرض مرتين سنويًّا حال نجاحه، مرة في إجازة نصف العام والثانية في إجازة آخر العام، إذ يراعي التجار مجموعة من العوامل لإثراء حركة البيع، على رأسها الشباب، الذين يمثلون جمهور القراءة الأول في مصر، وثانيها تنوع المعروض بين المكتبات في المعرض تلبية لاحتياجات القراء الذين يتنوعون في فكرهم وثقافاتهم من ناحية، وعملًا على تسيير حركة البيع بين مكتبات السور كبيرة العدد من ناحية أخرى.
العامل الثالث الذي يراعيه تجار المعرض أن يلائم جميع الشرائح المادية لرواده. ووفقًا لمحسب، فالمعرض «لجميع الناس، ولكل الشرائح والثقافات. لكن بالطبع أنا كتاجر لا أشترك في العرض لأخسر، لذا أراعي وضع هامش ربح بسيط يصل إلى 10% مثلًا لتغطية تكاليف الحياة وتخزين الكتب وخلافه، بينما كنت أضع في معرض القاهرة هامش ربح يصل إلى 30% كي أغطي نفقاتي، وبذلك يخرج القارئ والبائع بمكسب من المعرض».
كل هذه العوامل أدت بالتجار إلى زيادة طموحاتهم حول نجاح المعرض، بما يعيد إلى سور الأزبكية مكانته من جديد.
الأزبكية الذي يكتنف الحب والألم معًا
سور الأزبكية يشكل للحاج حربي محسب قصة حب تجسد حياته من الطفولة مرورًا بالشباب، ويشهد اليوم على شَيبته. ورغم كل هذا الحب الذي يكنه الرجل للمكان، لم يُعلِّم مهنته لأحد من أولاده، وفضَّل إبعادهم عنها بسبب الإرهاق المادي والنفسي الذي عانى منه العاملون في المكان، وهي الحكاية التي لم تمر على لسان الشيخ دون أن تغلبه الدموع: «بكائي ليس لضعف، إنما احترامًا لهذا المكان وتقديرًا لقيمته».
محسب يرى المكان عزيزًا برواده من المثقفين والقراء الواعين، الذين يمثلون المكسب الحقيقي لأصحاب المعرض، كجزء من ثقافة تربي عليها تقول بحسب تعبيره: «ربنا يجعل عدوك بيفهم، لأن لو عدوك بيفهم مش هيضُرك».
يؤكد الرجل أن سور الأزبكية وقع بين مطرقة محاولات الهدم والتشويه من أصحاب المصالح، وسندان الإهمال والنسيان ممن استفادوا منه وتربت أقلامهم وتعلمت في كنفه. يصمت قليلًا ثم تغلبه عَبَراته، ويرجو هؤلاء أن يردوا الجميل للمكان.