في مساء 17 فبراير 2018 نشرت «ماري بيرد» صورة لنفسها عبر حسابها على تويتر وهي تبكي، في رد فعل على الهجوم الذي تلقته بعد تعليقها المثير للجدل على حادث في هايتي.
بعدها بأيام تلقت بيرد دعمًا كبيرًا، إذ غرد كثير من المتضامنين عن تجاربهم مع التعرض للعنف عبر تويتر، وأجمعوا على حالة الصدمة التي يشعر بها المرء حين يشعر بكل هذه الكراهية الموجَّهة من أناس لا يعرفهم أصلًا.
هل فكرت يومًا في أن منصات التواصل الاجتماعي تحولت إلى أداة عنف؟ تحاول «جيا فينس»، وهي كاتبة ومذيعة متخصصة في العلوم والبيئة، في مقالها المنشور على موقع «Mosaic Science»، الإجابة من وجهة نظرها عن السؤال.
الأضعف هو الفريسة
يوفر الإنترنت تواصلًا لا مثيل له بين الإنسانية كلها، لكن بدلًا من توسيع دوائرنا الإلكترونية، عدنا إلى القبلية القديمة والصراعات.
هناك أدلة قاطعة، حسبما تشير جيا، تؤكد أن النساء والأقليات العرقية أهداف واضحة للعنف على تويتر، وحين تتقاطع كلتا الهويتين، يصير العنف أشد. النساء السوداوات والآسيويات تتلقين 35% من التغريدات العنيفة، نسبةً إلى زملائهن البيضاوات.
استمرار العنف عبر الإنترنت، والذي يتضمن أمورًا مثل التهديد بالموت أو بالعنف الجنسي، يُخرس الناس ويدفعهم إلى الانقطاع عن منصات الإنترنت، وبالتالي يقلل اختلاف الرأي والتنوع. ولا يبدو أن هناك علامة تشير إلى تراجع هذه السلوكيات.
اكتشفت دراسة أوردها المقال أنه في 2017 كان 40% من الأمريكيين البالغين قد خبروا بأنفسهم العنف عبر الإنترنت، وتلقى نصفهم تقريبًا أنواعًا مختلفة من التحرش، منها التهديدات الجسدية والتتبع. ووصفت 70% من النساء التحرش عبر الإنترنت بأنه «مشكلة كبيرة».
يعزز نظام العمل في المنصات الإعلامية الاجتماعية، مثل يوتيوب وفيسبوك، المحتوى الذي يُرجَّح أن يلقى تفاعلًا من المستخدمين الآخرين، لأن مزيدًا من التفاعل يعني فرصًا أفضل في الدعاية. لكن هذا يحقق نتائج لصالح المحتوى الانفعالي أو المتطرف، وهو ما يمكن أن يحول عالم الإنترنت إلى فقاعات تتألف من مجموعات تتفق مع بعضها، وبالتالي يزداد المحتوى المتطرف.
كشف باحثون أن مجموعة من الناشطين الروس تلاعبوا بالرأي العام في بلادهم عن طريق فقاعات الشبكات الاجتماعية.
تمكننا قدرتنا البشرية على مشاركة أفكارنا مع شبكات متعددة من الناس وبناء عالم حديث. ويوفر الإنترنت تواصلًا لا مثيل له بين الإنسانية كلها، لكن بدلًا من توسيع دوائرنا الإلكترونية، عدنا إلى القبلية القديمة والصراعات. وبينما نمارس تواصلنا في حياتنا الواقعية باحترام وتهذيب، نتحول على الإنترنت إلى كائنات لا تُحتمل. كيف يمكننا أن نعيد تصميم التقنيات التي مكنتنا من إيجاد أرضية مشتركة والازدهار كنوع؟
عبر السنوات، طرح العلماء نظريات كثيرة حول سبب تعاون البشر إلى حد أن كوَّنوا مجتمعات قوية. يؤمن معظم الباحثين الآن بأن الجذور التطورية للطف البشر يمكن أن توجد في الرغبة الفردية في البقاء حين كنا نتعاون كمجموعة.
اللطف تحت مجهر العلماء
ذهبت جيا إلى مدينة نيو هيفن في ولاية كونيتيكت الأمريكية لزيارة المختبرات التي يجري فيها الباحثون تجارب ليكتشفوا الدافع الاستثنائي فينا لنكون لطفاء مع الآخرين، حتى لو على حساب أنفسنا.
تحكي الكاتبة عن لعبة لعبتها على منصة أمازون، وهي واحدة من منصات التجارب الخارجية التي يستخدمها الباحثون. تقتضي اللعبة أن تكون فردًا في فريق مكون من أربعة، كل واحد منهم في مكان مختلف، ويحصلون جميعهم على كمية متساوية من المال، ثم يُطلب منهم أن يختاروا قدر المال الذي سيُسهمون به في محفظة المجموعة، مع العلم أن هذا القدر من المال سيضاعَف، ثم يُقسم بالتساوي على الفريق.
تعتمد هذه المعضلة الاجتماعية على مستوى محدد من الثقة في أن الآخرين في مجموعتك سيكونون لطفاء معك. لو شارك كل الأفراد كل ما يملكون من مال، سيتضاعف المال ويعاد توزيعه، وبهذا يحصل الأربعة على مال مضاعَف. إنه موقف رابح لكل المشاركين.
مارس «ديفيد راند»، مدير المعمل، تلك اللعبة مع آلاف البشر، وطلب من نصفهم أن يقرروا مشاركتهم المالية مع الفريق خلال 10 ثوانٍ، بينما طلب من الآخرين التفكير والتأني في قرارهم، وتبين أن المجموعة الأولى كانت أكثر كرمًا من الذين احتاجوا للتفكير في الأمر.
يقول راند إن هناك أدلة كثيرة على أن التعاون صفة رئيسية في التطور البشري، إذ يستفيد الأفراد ويعتقدون أن لديهم فرصًا أكثر في النجاة بالتعاون في فريق، وأن البقاء في مجموعة والاستفادة منها يعتمد على التصرف بشكل متعاون، ذلك أن أسلافنا كانوا يعيشون في مجموعات صغيرة مع أشخاص كانوا سيرونهم مرة أخرى، ويتفاعلون معهم في المستقبل القريب، لذا وجب عليهم أن يعاملوا بعضهم بلطف ليحصلوا على مثله في المقابل، ما جعل مصلحتك الذاتية بشكل ما تقتضي أن تتعاون مع الآخرين.
قد يهمك أيضًا: أسوأ ما فينا: من أين نأتي بكل هذه القسوة؟
تواصل اجتماعي: ماذا يدفع الناس للتصرف بلؤم؟
على عكس مجتمعات الصيد القديمة التي تقوم على التعاون والمشاركة من أجل البقاء، توفر وسائل التواصل الاجتماعي مسافات بين الناس، وإخفاءً للهوية، ومخاطرة منخفضة للغاية في حالات التصرف السيئ، لذا لو كنت لئيمًا لن يرى أحد تعرفه هذا.
حين تنتقل من الحياة الواقعية للإنترنت وترتكب انتهاكًا أخلاقيًّا، تتلقى على ذلك مكافآت من بعضهم، فتتضاعف رغبتك في تكراره.
تحركت جيا إلى مختبر «مولي كروكيت» لعلم النفس، حيث يتقصى الباحثون مسألة اتخاذ القرارات الأخلاقية في المجتمع. وفي أحد الجوانب يركزون على تحول المشاعر الاجتماعية على الإنترنت، وبخاصةً الانتهاكات الأخلاقية والسلوكيات العنيفة.
تنقل جيا أن دراسات التصوير الدماغي أظهرت أن الناس حين يرتكبون انتهاكات أخلاقية ينشط مركز المكافأة في عقولهم، فينتابهم شعور جيد حول هذا، ما يدعم سلوكهم، ويدفعهم إلى التصرف بنفس الشكل مرة أخرى.
توضح مولي أن المحتوى الذي يثير الغضب أو يعبر عنه هو الأكثر مشاركة، على عكس ما يحدث في الواقع، إذ لا يمكنك أن ترتكب فعلًا شائنًا وتختفي، أما على الإنترنت، فلا يحتاج المرء سوى نقرةً أو اثنتين، لذا يعبَّر عن الغضب والانتهاكات الأخلاقية بشكل أكبر على الإنترنت.
حين تنتقل من الحياة الواقعية إلى الإنترنت، وترتكب انتهاكًا أخلاقيًّا أو تعبر عن غضبك، تتلقى على ذلك مكافآت وردود فعل من بعض الناس، فيتضاعف شعورك ورغبتك في تكراره.
فرضية مولي هي أن تصميم منصات التواصل الاجتماعي سيجعل من التعبير عن الغضب أو سلوك الانتهاك الأخلاقي عادة، والسيئ في هذا أن العادة شيء نفعله استجابةً للمحفزات، ولا ننظر إلى عواقبه أو توابعه. وعليه، ينبغي أن نتحدث لنقرر إذا كنا سنترك أخلاقنا تحت سيطرة شركات عملاقة لا يهمها إلا جني المال أم ماذا.
قد يهمك أيضًا: #أنا_أيضًا: وماذا بعد الاعتراف؟
الجانب المشرق أن التكلفة المنخفضة للمنصات الاجتماعية فتحت بابًا للتعبير أمام المجموعات المهمشة محدودة الإمكانيات، وأسهمت في تسليط الضوء على العنف الجنسي الذي تتعرض له النساء من الرجال ذوي المناصب.
نحن الآن أمام معضلة علينا فيها أن نقرر إن كانت منصات التواصل الاجتماعي مفيدة أم لا. أما بالنسبة إلى مولي كروكيت فقد قررت سلفًا، إذ تؤمن بأن علينا أن نجد طرقًا نحافظ بها على فوائد عالم الإنترنت، وفي الوقت نفسه نفكر مليًّا في إعادة تصميم هذه المنصات للحد من آثارها التي لا يمكن تفاديها.