لا تحتاج الابتسامة إلى ترجمة أو تفسير. فهي، حتى مع اختلاف سياقها، مفهومة لجميع الناس عبر مختلف الثقافات، إلا أن الشعوب قد تتفاوت في ما بينها من ناحية كثرة الابتسام، أو اعتياده، أو نظرتهم إليه بصفة عامة. وظهر هذا الاختلاف واضحًا بين ثقافتين متباعدتين على مختلف المستويات ثقافة شرقية ممثلة في روسيا، وثقافة غربية ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية.
عرض موقع «Nautilus» مقارنة بين اختلاف النظرة إلى وظيفة الابتسامة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، والذي ظهر بسبب عدة عوامل كثيرة، أبرزها اختلاف الطبيعة الثقافية والتاريخية لكل من الشعبين، ما أدى إلى اختلاف معنى الابتسامة ومدلولها بين كل منهما.
مجاملة روتينية وليست ذوقًا
عقدت هذه المقارنة الصحفية الأمريكية الفرنسية «كاميل بيكر»، وذلك من خلال مقابلات شخصية، واستعراض الجهود السابقة للباحثين قبلها. إذ تسنى لها ذلك من خلال مقابلتها مع سيدة روسية، أعطتها اسمًا بديلًا هو «صوفيا»، وهي مقيمة في الولايات المتحدة منذ نحو عشر سنوات.
أكدت صوفيا لكاميل أنها ترى المجاملات الأمريكية المعتادة في مواقف الحياة اليومية متعبة. مثال ذلك تكرار سؤال: «كيف حالك؟»، والتبسم طيلة الوقت أمام الجيران والبائعين والخدم. إذ تختلف الثقافة الروسية، في هذا الصدد، من منظورها إلى ما يعد من قواعد الأدب والذوق العام في الثقافة الأمريكية.
على الرغم من أن صوفيا تتحدث الإنجليزية بطلاقة، فإنها وجدت صعوبة في تحدث اللغة وجهًا لوجه مع الأمريكيين، في ظل عدم اعتيادها تعبيرات الوجه المتعارف عليها لديهم، وهو ما لم تكن تعرفه في بداية فترة إقامتها في الولايات المتحدة الأمريكية. حتى السؤال المتكرر عن الحال، ترى أنه لا حاجة للإنسان إليه إلا إذا كان بالفعل يريد أن يعرف كيف حال من يتحدث إليه.
ترى صوفيا أن سؤال: «كيف حالك؟»، ما هو إلا مقدمة روتينية لإجابات مثل: «بخير»، أو «في أفضل حال». في حين أنه لو حصل السائل على إجابة أكثر واقعية، مثل «أنا مرهق»، فإن ذلك سيعد ذلك وقاحة.
تكمن مشكلة صوفيا الأساسية في أن الابتسام يحتل جزءً أساسيًّا من عملها في وظيفة الصراف بالبنك. إذ إن تعاملها مع العملاء يوجب عليها الابتسام لمدة ثماني ساعات يوميًّا، ما يجعلها تشعر في قرارة نفسها بالسخرية من هذا التصرف، فهي لا ترى ما يدعو إلى الابتسام لعملائها، أو أن هناك ما يُضحِك في التعامل معهم.
أسباب تاريخية وراء الابتسامة
نموذج صوفيا ليس الدليل الوحيد على البرود النسبي لمشاعر الروس. «ماريا أرابوفا»، أستاذ اللغة الروسية والدراسات المقارنة في جامعة لومونوسوف موسكو، أعدت رسالة دكتوراه تناولت بحث مسألة الابتسام لدى الروس والأمريكان والبريطانيين والألمان، واستطلعت آراء 130 طالبًا من جامعات مختلفة في تلك الدول، وكان السؤال الأول في الاستطلاع:
«عند تلتقي عيناك بعيني شخص غريب في مكان عام، أو محطة حافلات، أو بالقرب من المصعد، أو في المواصلات العامة، ماذا ستفعل»:
- تتبسم له ثم تنظر بعيدًا؟
- تنظر بعيدًا على الفور؟
- تركز النظر في عينيه فقط قبل أن تنظر بعيدًا؟
جاءت النتيجة كالتالي: 90% من البريطانيين والأمريكان والألمان اختاروا التصرف الأول: «ستتبسم له ثم تنظر بعيدًا»، في حين أن نسبة من اختاروا التصرف ذاته من الروس لم تتجاوز 15%، ما يعني أن سلوك الابتسام لدى الإنسان لا يعكس فقط حالته النفسية، بل يعد أيضًا دليلًا على ثقافته.
«كريستينا كوتشيميدوفا»، باحثة في مجال التواصل بين الثقافات في كلية سبرينغ هيل بولاية ألاباما الأمريكية، أرجعت اختلاف سلوك التبسم بين الشعوب إلى أسباب تاريخية، وتحديدًا إلى التحول الثقافي الذي شهده القرن الثامن عشر. فقبل هذا التحول سيطر على نفوس الأمريكيين مناخ عام من الحزن والمشاعر السلبية، ورأت مثل هذه المشاعر دليلًا على النبل والتراحم.
عزز هذا التوجه أفكار موروثة من عصر الإصلاح البروتستانتي الذي شهدته أوروبا في القرن السادس عشر. فكلٌّ من الأمريكيين والأوروبيين رأوا أن المعاناة الدنيوية ضرورية للسعادة في الدار الآخرة. لذلك نجد أن الفن والأدب بمختلف أشكالهما استهدفوا تحفيز مشاعر الحزن.
أما في القرن الثامن عشر، ومع بداية عصر التنوير، شهدت أوروبا وأمريكا تحولات على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية كافة، تحوَّل معها توجه المفكرين والفنانين إلى الاعتقاد بأن السعادة تجوز أيضًا في الحياة الدنيوية. من هنا بدأت ثقافة البهجة تنتشر في مقابل تراجع ثقافة الحزن، حتى أصبح إبداء البهجة أحد شروط التوظيف.
تقول عالمة الاجتماع الأمريكية «آرالي هوتشيلد» إن تظاهر الموظف بحبه لوظيفته أصبح جزءًا من تلك الوظيفة، ويدل على أن الموظف أقدر على إسعاد العملاء، إذ تعد الابتسامة أحد أبرز المؤشرات على هذا الحب. ووصفت «سلعة الابتسامة» بأنها شيء غير مسبوق في مجال تقديم الخدمات.
تعود ماريا أرابوفا لتؤكد أن قلة تبسم الروس ليس لأنهم شعب كئيب أو عدواني، لكنهم يرون الابتسام شيئًا اختياريًّا في التبادل التجاري والعلاقات الاجتماعية، وليس ضرورة ملحة يقتضيها الأدب والذوق، بل ربما يكون الابتسام لدى الروس له معاني أخرى غير المتعارف عليها لدى الغرب، فربما يكون الابتسام لدى الروس خطيرًا.
اقرأ أيضًا: التجهم في وجه زملاء العمل قد يفيد صحتنا النفسية
الفساد يفسد الابتسامة
«كوبا كريز»، الباحث في أكاديمية العلوم البولندية، أجرى بحثًا في عام 2015 لقياس ردة فعل أكثر من خمسة آلاف شخص ينتمون إلى 44 دولة مختلفة، عندما يشاهدون سلسلة من الصور لأشخاص مبتسمين وغير مبتسمين لرجال ونساء من أعراق مختلفة، وجد كريز وزملاؤه أن الأشخاص الذين ينتمون إلى ثقافات تمتاز بمعدل منخفض من ما يُعرَف بـ«تجنب عدم اليقين» رأوا أن الأشخاص المبتسمين يبدون أغبياء.
يشار هنا إلى أن «تجنب عدم اليقين» أحد خمسة أبعاد حددتها نظرية «غيرت هوفستد» الثقافية، ويدل تجنب عدم اليقين على مستوى اتباع الشخص للأعراف والقوانين والتقاليد والبيروقراطية بهدف تجنب الالتباس والغموض. لذلك، فمن رأوا المبتسمين أغبياء ترجع نظرتهم هذه إلى أنهم لا يشعرون بالأمان تجاه مستقبلهم، لذا لا يرون أن الابتسام الخيار الأمثل للتفاعلات الاجتماعية.
سجل الروس أقل معدلات من حيث ربط التبسم بارتفاع مستوى الذكاء مقارنة بغيرهم، ربما يرجع ذلك إلى انتشار مفاهيم ثقافية خاصة يعبر عنها مثل شعبي يقول: «الابتسام دون سبب دليل على الغباء».
قد يلتفت بعضهم في هذا الصدد إلى أن لدى بعض البلدان العربية أمثال شعبية تعبر عن المعنى الضمني للمثل الروسي السابق، منها المثل الشعبي العربي القائل بأن «الضحك من غير سبب قلة أدب»، فربما تشابهت بعض الظروف الثقافية والتاريخية بين الشعب الروسي والشعوب العربية، ما أدى إلى إفراز نفس المفاهيم حول تلك المسألة.
وجد الباحث كريز أن الشعوب التي تعاني بلدانها من تفشي مشكلة الفساد أكثر ميلًا لاعتبار أن الابتسام دليل على قلة الأمانة، وهو ما أظهره استطلاع رأي الروس، إذ حصلوا على المركز الـ35 من أصل 44 بلدًا من حيث ربط فكرة تبسم الشخص بكونه أمينًا، ما يعني أنهم يعتقدون بأن الفساد يفسد الابتسامة أيضًا.
أكدت النتائج التي توصلت إليها أرابوفا فكرة أن الروس يفسرون تعبيرات وجوه زعمائهم بشكل يختلف عن ما يفعله الأمريكيون الذين يتوقعون من قادتهم الابتسام خلال الظهور في المناسبات العامة، لأن ذلك يبعث برسالة طمأنة وتهدئة للشعب تساعد على تعزيز الهدوء وزيادة استقرار الأمن العام.
أما الشعب الروسي، فلا يرى سببًا لتبسم المسؤول أو الزعيم، بل يرى أنه من الطبيعي أن تتسم ملامح القائد بالصرامة لأن ذلك دليل على عظم المسؤولية، وعلى جديته في رعاية مسؤولياته، وبالتالي، فإن هذه الملامح الجادة تعد بمثابة رسالة طمأنة لشعبه بأنه أهل للثقة التي منحوه إياها.
لخصت أرابوفا الاختلاف بين الروس والأمريكيين في مسألة الابتسامة بأن الأمريكيين يرون الابتسامة أداة اجتماعية تسهل عملية التواصل والاندماج في المجتمع، في حين أن الروس على عكس ذلك، يضعون الابتسامة في إطار أنها مؤشر صريح على ما يتمتع به الشخص من عاطفة صادقة أو مزاج جيد.