سارة فتاة عربية، لم تتزوج، لكنها مارست الجنس وأنجبت. بتجرُّئها على التجربة استفزت استعلاء مجتمعها بأخلاقه، وبتمسُّكها بصغيرها صارت خطرًا يهدد مصداقية منظومة الأخلاق.
في العراق ومصر والأردن ولبنان وتونس والبحرين والمغرب، بحثنا عن سارة: كيف يراها المجتمع؟ كيف ترجم نظرته المرتبكة إليها وإلى صغيرها لقوانين؟ تحدثنا إلى سارة وقرأنا مواد القانون بصحبة متخصصين من كل بلد، وهذا ما وجدناه.
في العراق: الطفل من نصيب القوارض والحشرات
في القانون العراقي، ليس من حق الأم أن تطالب بإثبات نسب الطفل، ولا يمكنها استخراج هوية الأحوال المدنية له.
بحسب المحامية العراقية رشا خالد، فإنه غالبًا ما يتم التستر عن جرائم الشرف، أو تُقتل المرأة وتزور اللجان الطبية الحكومية تقريرها الطبي تحت ضغط العشيرة، ويُكتَب سبب الوفاة قضاء وقدر.
تقول رشا إن الأم تتحمل جميع التبعات السلبية واللوم، ولا يقع على الرجل أي تبعات، فالمجتمع ينظر إليها نظرة المجرمة التي أغوت الرجل وتستحق الجزاء، ويبيح قتلها، بل ويراه مدعاةً لاسترداد الشرف. وكذلك يفعل قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 في المادة 409، إذ يسمح بتخفيف العقاب وإفلات الجناة من العقاب باعتبار القتل حدث بدوافع شرف.
في القانون العراقي، ليس من حق الأم أن تطالب بإثبات نسب الطفل، ولا يمكنها استخراج هوية الأحوال المدنية له لأنه لم يولد من زواج رسمي، ويراه القانون العراقي «جريمة زنا»، ولا تُعَد هذه الواقعة أساسًا للحصول على الحقوق طبقًا لرشا، ولا تستطيع الأم استخراج هوية للطفل إلا إذا وافق شريكها على إبرام زواجهما لدى رجل دين، ثم يصدقه في المحكمة.
رغم أن القانون يُجرِّم الإجهاض، فإنه أعطى ظرفًا مخففًا للأم التي تُجهض جنينها الذي حملت به «سفاحًا». تقول رشا: «هناك ظرف قضائي مخفف عند إجهاض المرأة لنفسها اتقاءً للعار إذا كانت قد حملت به سفاحًا، وكذلك الأمر في هذه الحالة بالنسبة إلى من أجهضها من أقربائها إلى الدرجة الثانية، وكل هذا حسب أحكام المادتين 417 و418 من قانون العقوبات العراقي».
تُجبَر الأم في العراق على الاختيار بين الإجهاض غير الآمن والانتحار والهروب، لأنها لا تستطيع إجبار الأب على تحمل مسؤوليته و الاعتراف بطفله، فلا شيء يُلزمه بالاعتراف.
تلجأ غالبية الأمهات إلى رمي الطفل في الشوارع العامة والساحات بالقرب من الأماكن الدينية، طبقًا لرشا: «وفي بعض الأحيان ترميه في مناطق النفايات. وحدث في كثير من الحالات أن يتعرض الطفل للدغ الحشرات أو عض القوارض، وبعدها يمكن أن يعثر عليه أشخاص يتبنونه أو يحيلونه إلى دائرة فاقدي الرعاية ويعامَل معاملة اللقيط، فيعطونه اسمًا، ويُفتَح له سجل مدني، ويبقى تحت رعاية الدولة، ومن حق العوائل التي لا تستطيع الإنجاب أن تتقدم بطلب لضمه واحتضانه».
لكن المشكلة الأساسية الموجودة في أغلب الدول العربية هي الوثائق الرسمية التي يجب أن يحصل عليها مجهول النسب حين يكبر، أو حين يريد أن يتزوج، أو يعمل، إذ توضع في أغلبها علامات، سواء برمز أو رقم، تشير إلى أن صاحب هذه الوثيقة من اللقطاء، كما تقول رشا.
في مصر: القانون لا يُلزم بالـDNA، والرجل يفلت من الحساب
رغم التعديل في القانون المصري، يصل عدد قضايا النسب التي ما زالت تُنظر في المحاكم إلى 17 ألفًا.
«بعد سنتين في المحاكم، وإجراء فحص DNA أثبت إن الولد ابنه، القاضي حكم ببطلان النسب». هكذا تحكي «سارة» المصرية عن رحلتها «المُرّة» لإثبات نسب صغيرها الذي أنجبته خارج إطار الزواج الرسمي.
تقول إن نتيجة الفحص الجيني طمأنتها إلى اقتراب حصولها على حقها وحق طفلها، وتخيلت أن الإعلان عنه مجرد إجراء شكلي يؤيد فيه القاضي التحليل «الفيصل»، الذي يعيد إلى الطفل هويته ويرمم كرامة الأم التي مزقتها التجربة، لكن القاضي أصدر حكمه بناءً على السلطة التقديرية المخولة له ببطلان النسب، لتتحطم سارة إلى الأبد، كما تؤكد.
«أقنعني نتجوز عرفي فترة على ما يستقر في حياته العملية، وبعد كده نتجوز رسمي ويكون أقنع أهله، وطبعًا صدقته كما يحدث في الأفلام العربي، وبعد شهور اكتشفت إني حامل، اتغير جدًّا، ورفض إنه يتقبل الفكرة، وبدأت المشاكل. في الأصل مكنش معايا ورقة عشان متقعش في إيد حد من أهلي، وبدأ يتهرب، وأنا رفضت أنزِّل الطفل، وواجهت أهلي بعد ما بقيت في الشهر الرابع».
سارة أخطأت، كل ما حدث خطؤها وحدها، وليس على زوجها شبهة ذنب، هكذا تعاملت معها أسرتها. في بادئ الأمر «اتعرضت للضرب عشان أسقّط الحمل، عشان ما يتفضحوش، مش عشان عملت حاجة في الدِّرا (الخفاء)»، لكنها وجدت في قهر الأسرة وإنكار الحبيب دافعًا للتمسك بجنينها. احتفظت به، ولجأت إلى المحكمة لربما تنصفها أمام الأهل الذين قاطعوها، والجيران الذين أدانوها، والأهم من ذلك، أمام الحبيب الذي كسرها، لكن هذا لم يحدث، بهذه البساطة.
في عام 2004، أثارت قضية نسب الطفلة «لينا» إلى الفنان أحمد الفيشاوي كثيرًا من الجدل، انتهى بعد عامين بالحكم بنسب الطفلة وتعديل مواد قانون الطفل، لينص على أن له الحق في نسبه إلى والديه الشرعيين والتمتع برعايتهما، وله الحق في إثبات نسبه الشرعي إليهما بوسائل الإثبات كافة، بما فيها الوسائل العلمية المشروعة. لكن رغم التعديل، يصل عدد قضايا النسب التي ما زالت تُنظر في المحاكم إلى 17 ألفًا، كما يؤكد هاني هلال، أمين عام الائتلاف المصري لحقوق الطفل.
عزة سليمان، مدير مركز قضايا المرأة المصرية، تؤكد لـ«منشور» أنه «لا تُلزم المادة الرجلَ بإجراء تحليل DNA، فلا وجود لنص تشريعي بذلك، ويحق للرجل رفض التحليل دون أدنى مسؤولية. الأمر نفسه يتعلق بإقرار القاضي التصديق على نتائج التحليل، إذ اشترط القانون إثبات الزواج للأخذ بنتيجة اختبار البصمة الوراثية، أي أن نتيجة الاختبار لا يُعتد بها إن فشلت الأم في إثبات أن طفلها ثمرة زواج، وليس علاقة غير شرعية، وللأسف لدينا 60 حالة إصدار أحكام قضائية مغايرة لنتيجة التحليل».
أنجبت سارة المصرية طفلها، ولم تُستَخرج له أوراق ثبوتية (شهادة ميلاد)، وانتظرت حكم المحكمة الذي خذلها.
«ليس للطفل خدمات اجتماعية، لا يمكنه الالتحاق بالمدرسة، لا يحصل على علاج، لا تُستخرج له بطاقة هوية، ليس له وجود معترف به، والأهم أنه لا يأخذ تطعيمات عند الولادة تُمَكِّنه من أن يعيش»، هكذا يقول هاني هلال لـ«منشور»، مؤكدًا أن هذه كانت أسباب المجتمع المدني لممارسة ضغوط حتى يحصل على موافقة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية لاستحداث مادة في قانون الطفل تسمح باستخراج شهادة ميلاد لتلك الفئة من الأطفال، وهو ما حدث بالفعل عام 2008، بعد أن ظلت تلك الجهات ترفض الاعتراف بالأطفال خارج إطار الزواج لسنوات.
بتعديل القانون، صار للأم «حق تسجيل وليدها وقيده بسجلات المواليد، واستخراج شهادة ميلاد له مدونًا بها اسمها، ولا يُعتد بهذه الشهادة في غير إثبات واقعة الميلاد».
تقول عزة لـ«منشور» إن القانون يسمح للأم بتسجيل طفلها، وكتابة اسمها في شهادة الميلاد، وتُشَكّل لجنة ليطلَق على الطفل اسم أب عشوائي مثل المعثور عليهم، لكن منذ صدور القانون لم يُستَخرج سوى شهادتا ميلاد فقط، بسبب تعنت الموظفين في الوحدات الصحية والسجلات المدنية، الذين يهينون الأم ويطردونها.
ينبذ المجتمع الأم وطفلها، وقد تضطر إلى التخلي عن صغيرها، فيصبح موصومًا، يسكن الشوارع أو دور الإيواء، ويتحول إلى شخص عدائي ومجرم محتمَل.
وفقًا لعزة، تعاني المرأة كثيرًا في علاقة الزواج غير الرسمي (عرفي أو علاقة بالتراضي) لإثبات نسب طفلها في حالة إنكار الأب، بدءًا من تحليل الـDNA الذي يتطلب تكلفة مادية عالية، أو فترة زمنية طويلة إذا لم يكن في مقدورها «أن تدفع»، مرورًا بالآثار النفسية السيئة والإدانة المجتمعية لها، مع إفلات الرجل من تحمل مسؤوليته قانونيًّا ومجتمعيًّا.
تعاني عزة، بصفتها مديرًا لمركز معني بحقوق المرأة، من غياب أرقام أو إحصاءات رسمية عن الأمهات والأطفال المولودين من زواج غير رسمي: «لا تعطينا وزارة العدل الأرقام رغم طلبنا أكثر من مرة، ورغم خطورة الوضع ومشكلة ساقطي القيد الذين لا توجد أوراق رسمية تدل على وجودهم، وأطفال الشوارع الناتج معظمهم عن الإنجاب خارج إطار الزواج الرسمي».
ينبذ المجتمع الأم وطفلها، فتنتقل إلى مكان آخر لا يعرفهما فيه أحد، وفي أحيان أخرى يضطرها المجتمع بقسوته إلى التخلي هي الأخرى عن صغيرها، ليتحمل وحده ذنبًا ليس له دخل فيه، يصبح موصومًا، يسكن الشوارع أو دور الإيواء كلقيط، يتحول إلى شخص عدائي ومجرم محتمَل. هكذا يرى هلال واقع الأمر، وتؤكد عزة أن هناك ضرورة حقيقية لنشر حملات التوعية الإنجابية والجنسية، وتوعية الزواج والمسؤولية، دون تحميل الفتاة وحدها مسؤولية ما يحدث، ويجب أن يتحمل الرجل نصيبه كشريك أساسي أمام القانون والمجتمع.
في الأردن: الحبس للأم، ولا يجبَر الوالد على الاعتراف
676 كيلومترًا هي المسافة الفاصلة جوًّا بين مصر والأردن، مسافة تستغرق ما يقرب من ساعة ونصف بالطائرة، مسافة ليست بعيدة كحال مصائر نساء البلدين.
«لمّا بان الحمل علي، أهلي عنفوني، وأخي كان بده يقتلني، هربت من البيت، لقطوني من الشارع، وحبسوني بالسجن»، تحكي سارة الأردنية: «وَلدت، وأخدوا طفلي، ودُّوه دار رعاية، وحكيت على أبوه، لكنه أنكر هالطفل، وما بدو يسجله باسمه».
عند الإنجاب خارج إطار الزواج، لا بد من التمييز بين أكثر من حالة، طبقًا لما تقوله لـ«منشور» لين الخياط، المحامية الأردنية:
- الحالة الأولى: يحدث الإنجاب خارج إطار الزواج، ويُترَك الولد ليصبح لقيطًا ومجهول النسب. وطبقا للمادتين 4 و5 من قانون الجنسية الأردنية وتعديلاته، يحصل الطفل على الجنسية، ويُمنَح اسمًا ورقمًا وطنيًّا، ويتمتع بحقوق المواطنة
- الحالة الثانية: تكتشف الأسرة أن ابنتها حامل، وتهددها، أو تهرب البنت من البيت، ولذلك تُحال إلى حماية الأسرة، ويوقفها المحافظ بذريعة حمايتها
رغم عدم وجود قانون يسلب الأم حريتها في حال الإنجاب خارج إطار الزواج، تفعل السلطات الأمنية ذلك بذريعة حمايتها، استنادًا إلى قانون منع الجرائم الأردني، ما أثار حفيظة المجتمع المدني الذي انتقد التوقيف الإداري.
سجّل تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان عام 2016 ارتفاعًا في أعداد الموقوفين إداريًّا ليصلوا إلى 30,138 شخصًا، بموجب قرارات تُنعت بعدم الالتزام بالأصول القانونية للتوقيف الإداري، بما في ذلك قرارات القبض على النساء في «قضايا الشرف» بهدف حماية حقهن في الحياة. وأكد المركز ضرورة تفعيل نظام دور إيواء المُعرّضات للخطر رقم 171 لسنة 2016 للحد من تلك الظاهرة، وهو ما أعلنت الحكومة أنها بصدد تنفيذه.
لا يُجبَر الأب على نسب طفل ثمرة علاقة خارج إطار الزواج في الأردن، وفي حالة الإنكار رغم وجود عقد، يوافق القاضي على إجراء تحليل DNA، لكنه لا يعمل به كوسيلة لإثبات النسب.
من وحي التجارب في الأردن، لا توجد فترة محددة لحبس الأم، وتؤكد لين الخياط أن هناك ثلاثة نماذج رئيسية:
- بعض الفتيات أو النساء كانت مُدَد حبسهن طويلة تصل أحيانا إلى 20 عامًا
- يتسلم الأهل الفتاة بعد تعهدهم بعدم التعرض لها
- الإدماج، بمعنى تزويج البنت لأحد أقاربها، وفي الغالب لا تكون الزوجة الأولى، وتُحتَوى داخل الأسرة
المادة 157 من قانون الأحوال الشخصية الأردني تنص على نسب المولود لأمه عند الولادة، فيُذكر اسمها في السجلات، إلا أن المادة 20 من قانون الأحوال المدنية تنص على أن المولود «غير الشرعي» لا يُذكر اسم والده أو والدته إلا بناء على طلب خطي من كليهما، أو من أيٍّ منهما، مؤيدًا بحكم قضائي قطعي.
تؤكد لين أنه لا «يُجبَر الأب على نسب الطفل إليه إذا كان ثمرة علاقة خارج إطار الزواج، وفي حالة إنكار النسب، رغم وجود عقد زاوج، يوافق القاضي على إجراء تحليل DNA. لكن الـDNA غير معمول به في القانون كوسيلة لإثبات النسب، وفي كل الأحوال، ما في إجبار على الرجل إنو ينسب طفله إله، يحدث ذلك باختياره فقط».
المستشار الإعلامي لوزيرة التنمية الاجتماعية أعلن ولادة 495 طفلًا خارج إطار مؤسسة الزواج في الأردن، منذ 2010 حتى 2015، دون التثبت من نسبهم. وهؤلاء منهم 144 طفلًا مجهول الأبوين، و351 طفلًا من أم معروفة وأب مجهول، أو معروف لكنه ينكر نسب الطفل إليه.
في البحرين: الابن لا يحصل على اسم أبيه
أُجبر الشاب على الزواج بها والاعتراف بطفله لصغر سن الفتاة، لم يكن أمامه إلا خيارين: إما الزواج منها أو الحبس. اختار أبسطهما، فيمكنه بعد ذلك تطليقها هي وطفلها والتخلي عنهما.
مريم الرويعي، مديرة مركز تفوق الاستشاري للتنمية، تؤكد لـ«منشور» أن المادة 68 من القانون رقم 19 لسنة 2017 بإصدار قانون الأسرة تنص على أنه تثبت البنوّة بأيٍّ من طرق الإثبات الشرعي، وتترتب عليها آثارها الشرعية: «تُلزِم المحكمة الرجلَ بعمل الفحوصات الطبية، وإذا أتت النتيجة إيجابية يُحكَم أنه من مائه، أي ابن طبيعي، لكن لا يُلزَم الرجل بإعطائه اسمه، وليس له حقوق الابن الشرعي في النفقة والميراث».
تلجأ الغالبية العظمى من الأمهات في البحرين إلى التخلص من الجنين بإجهاضه وإنهاء هذه «الوصمة» في بضع دقائق.
في البحرين، كما معظم الدول العربية، تُجبَر الأم على التخلص من جنينها، تقسو عليه بالمخالفة لطبيعة الأمومة، إذ تتعرض لضغوط وقسوة مجتمع لا يلتمس لها العذر، تلقيه في الطريق العام، تعرضه للخطر حتى تنجو كما نجا الأب من قبلها.
«كانت لدينا حالة أنجبت ابنها في مستشفى حكومي خارج إطار الزواج، وسرقت الطفل هي ووالدتها خلسة، وخرجت من المستشفى، ورمته في موقف سيارات المستشفى، وأُلقي القبض عليها ووالدتها، وحُكم عليها سنة مع النفاذ لتعريضها الطفل للخطر»، هكذا تحكي مريم.
تلجأ الغالبية العظمى من الأمهات إلى التخلص من الجنين بإجهاضه وإنهاء هذه «الوصمة» في بضع دقائق، إذ أن المادة 323 من القانون البحريني رقم 15 لسنة 1976 تنص على أنه «لا عقاب على الشروع في الإجهاض»، والمادة 321 تنص على أنه «تعاقَب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر، أو بالغرامة التي لا تتجاوز 50 دينارًا، من تجهِض نفسها بغير مشورة طبيب وبمعرفته».
في تونس: يا «فرخ الحرام» لوصم الطفل مجتمعيًّا
تخلت عائلة «سارة» التونسية عنها، طردوها من البيت، بل من القرية كلها، فور مصارحتها إياهم بحملها من شاب دون زواج رسمي، تعرفت إليه خلال دراستها في الجامعة. رحلت سارة إلى العاصمة وأقامت في غرفة صغيرة حتى أنجبت طفلها، ليولد نصف «لقيط» يحمل نصف هوية، لكنها منحته اسمها واكتفت.
في تونس، تُقَدّر نسبة الولادات خارج إطار الزواج بين 1200 و1500 رضيع في السنة، ما يعني تقريبًا ولادة أربعة أطفال في اليوم، طبقًا لهيثم محفوظ، الناشط والمكلف بالنشر والإعلام في جمعية الأم والطفل في قليبية.
يوضح محفوظ لـ«منشور» أنه «عند ولادة الرضيع في مستشفى عمومي، أو في حال التخلي عنه وتركه في الطريق، تفتح الشرطة تحقيقًا وتبدأ البحث. وبإذن من القضاء، يتابع مندوب حماية الطفولة ووزارة الصحة ووزارة المرأة ملف الرضيع، ويسلمه إلى الجمعيات التي تُعنَى بالطفولة، أو يبقى في مركز رعاية الطفولة التابع للدولة حسب المعطيات، وإن سلمت الدولة الرضيع إلى جمعية يعود إليها عندما يصبح عمره ثلاث سنوات».
المُشرِّع التونسي أعطى الأم التونسية الحق في إثبات نسب طفلها الذي أنجبته خارج إطار الزواج الرسمي، وفقًا لقانون عدد 75 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998، وذلك بطرق عدة، من بينها التحليل الجيني، أو توفر الشهود، ما يُمَكِّن المولود من التمتع بجميع حقوقه، وبخاصة أنه يُلزِم المدعَى عليه بإجراء التحليل الجيني بحكم قضائي، ويعتبر القانون تخلف الأب إثباتًا ضمنيًّا للأبوّة، بحسب لمحفوظ.
ومع ذلك، لم تحاول سارة اللجوء إلى القانون و«الاكتواء بثغراته» كما تقول: «القضايا بتفضل سنين في المحاكم، وفلوس كتير، وثغرات أكتر، وأنا فقيرة وهو ثري (...) مش محتاجين أبوه، ما في أسوأ على الابن من إن أبوه يتنكر له».
تحتل تونس الترتيب الثاني عربيًّا والتاسع عالميًّا في حالات الإجهاض.
يشعر الرضيع بأنه منبوذ، وهذا الإحساس يشعر به الجنين منذ الحمل، هكذا يؤكد محفوظ، مضيفًا أنه «رغم القوانين الكثيرة لحماية الطفل، فإن المجتمع ما زال يتعامل معه بازدراء، يُسمعه كلامًا جارحًا، «يا لقيط» و«يا فرخ الحرام» و«ابري ابحث عن أصلك»، فيؤثر في نفسيته ويجعله ناقمًا على المجتمع، فإن كان فتاة يمكن أن تصبح زانية، وإذا كان شابًّا يصبح ذا سوابق عدلية ومتشردًا».
يوضح محفوظ أن هدف الجمعية حماية الطفل من التشرد أو القتل أو الإلقاء في «كيس الفضلات»، والعناية به في إطار طبي يسهر على سلامته، مشيرًا إلى أن طاقة استيعاب الجمعية تصل إلى 15 رضيعًا، تحتضنهم من سِنِّ ساعات حتى سنتين، ثم تعيدهم إلى الدولة: «يمكن للأب والأم زيارة الرضيع، ونسعى إلى إقناع العائلة بجمع الشمل والعيش تحت سقف واحد».
لم تفكر سارة في إجهاض صغيرها، رغم أن الفصل 214 من المجلة الجزائية يجيز الإجهاض عمدًا في حالتين فقط:
- إذا لم تتجاوز مدة الحمل الثلاثة أشهر الأولى
- بعد الثلاثة أشهر إذا كان من الممكن أن يتسبب الحمل في انهيار صحة الأم
تحتل تونس الترتيب الثاني عربيًّا والتاسع عالميًّا في حالات الإجهاض وفقًا لدراسة أمريكية. وأشارت إحصائيات الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري عام 2014 إلى أن حالات الإجهاض بلغت 14 ألفًا سنويًّا، في حين يؤكد محفوظ أن الإجهاض ممنوع دون عقد زواج في المستشفيات العمومية والخاصة: «رغم الرقابة، ما زلنا نعاني من الإجهاض خلسة بمبالغ مالية كبيرة، وفي الحمل في الشهر الثالث، وهذا محرم في الدين الإسلامي أولًا، وفي القانون التونسي ثانيًا».
في لبنان: الابن شقيق أمه
ما بين «سارة» التونسية و«سارة» اللبنانية لا شيء جديدًا، إلا أن الأخيرة حينما أنكرها الجميع هي وما تحمله في أحشائها، لجأت بنفسية محطمةً إلى جمعية «مريم ومرتا» في عجلتون.
يعرِّض القانون اللبناني كل امرأة تجهض نفسها إلى السجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات.
«في أكثر الحالات يكون الأب غير معروف، إما لأن الأم تكون مهددة، أو لتعدد علاقاتها، وفي تلك الحالة يسجل الطفل على اسم الأم، وفقًا للمادة 15 من قانون الأحوال الشخصية»، هكذا يتابع عبدو متحدثًا إلى «منشور»: «بياخد اسم شهرة الأم، لقب عيلتها كأنه أخوها الصغير، وعند إخراج القيد العائلي يُكتب عبارة دون زواج شرعي، أما عن إخراج القيد الفردي، فيُذكر عند اسم الأب اسم مستعار».
وجدت سارة في الجمعية الدعم النفسي والمادي والصحي، خضعت هناك لبرنامج تأهيل مكثف أعاد إليها ثقتها في نفسها.
يؤكد عبدو أن المجتمع يتطور بسرعة هائلة من حيث نظرة القبول والتسامح والمصالحة والحرية، موضحًا «من خمس أو سبع سنين كان فيه قسوة كبيرة تجاه الأم العزباء من الأهل والمجتمع، لكن اليوم الموضوع أصبح أكثر رحابة في قبولها ومسامحتها (...) ومتل ما في مجتمعات متحررة في المدينة، فيه في الضيعة مجتمعات أصولية وتقليدية».
يعرِّض القانون اللبناني كل امرأة تجهض نفسها إلى السجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، وفقًا للمادتين 539 و546 من قانون العقوبات. ويقول عبدو: «لا القانون الكنسي ولا المدني يسمح بالإجهاض، لكن الواقع الإنساني يفرضه إذا كان سن الفتاة صغيرًا، تجهض، إلا إذا كان هناك خطر على حياتها»، ويضيف: «مرات قليلة أعلنت الأم عن الأب البيولوجي، وأعطتنا اسمه، ونحن نتواصل معاه حتى نسوي المسألة، ولو كان متزوج».
لم تعلن سارة والد طفلها، لكنها تواصلت مع عائلتها عبر الجمعية، وبعد سجالات تقبّلتها الأسرة من جديد واحتضنت طفلها.
في المغرب: الإجهاض رغمًا عن القانون
يضم المغرب أكبر عدد من السيدات اللاتي ينجبن خارج إطار الزواج، ويصل عددهن سنويًّا إلى 30 ألف امرأة.
لجأت «سارة» المغربية إلى أماكن غير مرخصة للإجهاض، بعد أن رفض طبيب معروف إجراء العملية. حاولت «القابلة» ابتزازها ماديًّا ومارست كل أشكال الضغط عليها، وفي نهاية الأمر، قررت أن تجهض نفسها بنفسها بتناول كمية من الأدوية. حزمت أمتعتها، وأخبرت أسرتها أنها ستقيم لبضعة أيام لدى صديقتها. تناولت الأدوية ونزفت كثيرًا. ساعدتها الصديقة، لكنهما لم يجرؤا على الذهاب إلى المستشفى، كاد الإجهاض غير الآمن ينهي حياتها.
تحتل المغرب المرتبة الأولى عربيًّا والثامنة عالميًّا في عمليات الإجهاض السري بـ1400 حالة إجهاض يوميًّا، رغم أن القانون المغربي يمنع الإجهاض إلا في أربع حالات:
- أن يمثل الحمل خطرًا على صحة الأم
- أن يعاني الجنين تشوهات خِلقية
- الاغتصاب
- زنا المحارم
يضم المغرب أكبر عدد من السيدات اللاتي ينجبن خارج إطار الزواج، وأكدت جمعية «إنصاف» المعنية بأوضاع الأمهات العازبات في المغرب، في دراسة لها، أن 30 ألف امرأة تنجب سنويًّا خارج إطار الزواج في المغرب.
عبد اللطيف قنجاع، المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان، يوضح لـ«منشور» أن المُشرِّع المغربي يعاقب على جريمة الفساد التي تجمع بين رجل و امرأة لا توجد بينهما أي رابطة زوجية، ويضع لها في الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي عقوبة حبسية تتراوح بين شهر وسنة، لكن إذا نتج طفل عن تلك العلاقة تُستخرَج له أوراق ثبوتية: «تستخرجها الأم، وفي حالة تخلي الأم عن الطفل يُودَع أحد المراكز الصحية أو مؤسسات الرعاية الاجتماعية المهتمة بالطفولة، وتسجل النيابة العامة الطفل بالحالة المدنية، ويُختارُ له اسم ونسب، أي اسم شخصي واسم عائلي».
تلفت يامنة تليت، المسؤولة عن الخبرة والتعليم في جمعية «بيتي» في الدار البيضاء، إلى أن التصريح بالولادة في حالة الطفل معلوم الأم ومجهول الأب يحدث من طرف الأم أو من يقوم مقامها، وتختار له اسمًا شخصيًّا، واسم أب مشتق من أسماء العبودية لله، واسمًا عائليًّا خاصًّا به، لكنها تشير إلى أن التصريح يُعزّز بشهادة الطبيب، أو المولدة الشرعية، أو شهادة إدارية بالولادة تسلم من طرف السلطات المحلية.
يامنة تشرح لـ«منشور» أنه يجوز لأي شخص غير معروف الأب أو الأبوين، ومسجّل بالحالة المدنية دون بيان اسم الأب أو الأبوين، أن يطلب إضافة اسم الأب أو الأبوين بحكم قضائي صادر عن محكمة محل الولاد.
أجهضت سارة طفلها خوفًا من المجتمع وخشية على الطفل، الذي لن يسجل باسم والده في ظل عدم وجود علاقة زواج شرعي، إذ يشترط القانون المغربي إقرار الأب نسب الطفل له وفقًا للمادة 158 من مدونة الأسرة الصادرة بتاريخ 3 فبراير 2004، ولا يثبت النسب بإقرار غير الأب وفقًا للمادة 161 من نفس القانون، رغم أن المغرب يشهد شهريًّا ولادة أكثر من ثلاثة آلاف طفل مجهولي الأب، بحسب إحصاءات المركز المغربي لحقوق الإنسان.
الإجحاف الذي تتعرض له المرأة والطفل خارج إطار الزواج في المغرب دفع جمعية «إنصاف» إلى إصدار عريضة تدين الحكومة، وتطالب بالاعتراف القانوني الكامل بالأطفال، والسماح بإجراء اختبارات الحمض النووي لتحديد الأبوة، وطالبت بأن يتمتع جميع الأطفال في المغرب بنفس الحقوق الأساسية، بصرف النظر عن وضع والديهم لحظة ولادتهم.
تعاني الدول العربية عدم وجود تشريعات متكاملة لحماية الأم والطفل خارج إطار الزواج، ينعكس ذلك على نظرة المجتمع وإدانته لهم بشكل مجحف، يُصدر أحكامًا مسبقة على المرأة بأنها ساقطة أخلاقيًّا، ويوصم الطفل طوال حياته، أما الرجل فينجو بفعلته، وأحيانًا يهلل له المجتمع لأنه أثبت «فحولته».
تحتاج بلادنا، بجانب التشريعات القانونية، إلى تشريعات تربوية متكاملة لرفع مستوى الوعي بالزواج والإنجاب والجنس، بحيث نصل إلى مستوى يقدر فيه الشخص على استكمال حياته دون النظر إلى اختياراته السابقة الخاطئة، ويكون فيها المجتمع قادرًا على التسامح وقبول الآخر رغم أخطائه.