في الفترة ما قبل عام 1800، تكرر ملاحظة أعراض مرضية تلازم البحارة في عدد من سفن العالم، يجمع بينهم أن هؤلاء البحارة يقضون وقتًا طويلًا بعيدًا عن الياسبة. بين هذه الأعراض المبكرة، الشعور الدائم بالتوعك والإرهاق، ليتطور الأمر في المراحل المتأخرة إلى فقدان الأسنان والاضطرابات النفسية والحمى والتشنجات. كان الأمر من الخطورة لدرجة أنه في النهاية يتسبب في الوفاة.
نعرف الآن أن هذه الأعراض تنتمي إلى مرض «الأسقربوط»، الذي ينتج بصورة أساسية عن نقص فيتامين C في جسم الإنسان. أما سبب إصابة البحارة به، فكان أنهم ببساطة يقضون فترات طويلة يتناولون عددًا من الأطعمة المحفوظة، غير الطازجة، التي تخلو من هذا الفيتامين الذي يوجد بصورة أساسية في الحمضيات، وتحديدًا: الليمون.
ما علاقة هذا المرض والليمون كعلاج بالمافيا؟ يحاول هذا المقال على موقع «Aeon» الإجابة عن هذا السؤال.
المافيا الصقلية
«المافيا الصقلية» (الكوزا نوسترا)، هي على الأرجح المنظمة الإجرامية المنظمة الأشهر في العالم. يرجع ذلك إلى تاريخ نشأتها وتطورها عبر التاريخ، فهي موجودة ومستمرة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر تقريبًا.
تناول كثير من الكتب والأفلام والثقافات الشعبية المافيا الصقلية. بالطبع لا يمكن نسيان فيلم «The Godfather» (الأب الروحي)، الذي أدخل مصطلحات المافيا وتعبيراتها إلى الثقافة الشعبية. لكن البداية ترجع إلى ما قبل هذا بكثير.
واحدة من أولى الوثائق التي تؤرخ لظهور هذه المنظمة الإجرامية، كانت عندما كتب مالك بستان صقلي يُدعى الدكتور «غالاتي»، نحو عام 1872، أن حارس بستانه يسرقه ويأخذ جزءًا كبيرًا من سعر بيع حصاد الليمون لنفسه. طرده غالاتي واستأجر حارسًا آخر. لكن بعد فترة قصيرة، تعرَّض الحارس الجديد للقتل.
لم تُثبت تحقيقات الشرطة شيئًا. وسرعان ما بدأ غالاتي في استلام رسائل تأمره بأن يعيد الحارس السابق إلى وظيفته. لكن غالاتي رفض ذلك، ثم اضطر إلى الهروب بعد تعرضه لمحاولات اغتيال.
ليمون، برتقال، جريمة منظمة؟
للأمر وجه آخر يتجاوز التهديدات المحلية هذه، أظهر علماء الاقتصاد «أولا أولسن» و«أركانجيلو ديميكو» و«آليشيا إسوبي»، أن العامل الرئيسي وراء تطور حركة المافيا في صقلية كان ببساطة، ارتفاع الطلب على الليمون والبرتقال، والذي بدأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
في منتصف القرن الثامن عشر، أجرى «جيمس ليند»، طبيب أسكتلندي في البحرية الملكية، أول تجارب سريرية على بحارة مرضى. فقد أمر بتقديم الطعام المعتاد لجميع الموجودين على متن السفينة، لكنه استثنى مجموعة صغيرة، وقدَّم إليهم فواكه طازجة كعلاج.
كانت بساتين الليمون تُحصَّن بأسوار لحمايتها، والبساتين غير المحمية كانت هدفًا سهلًا للصوص.
تحسنت صحة المجموعة الصغيرة بصورة ملحوظة. ونشر ليند نتائج تجربته البسيطة تلك في أطروحة عن مرض الأسقربوط عام 1753. ولكن أحدًا لم يلتفت إلى هذا البحث حتى عام 1790، عندما رشَّح البحارة أنفسهم في البحرية الملكية عصير الليمون لزملائهم، مشددين على أهمية تقديمه للأسطول كله.
بانتشار خبر علاج هذا المرض بالحمضيات في أوروبا، أصبح الليمون سلعةً ثمينة، ولكن بسبب أن شجرة الليمون من أكثر أشجار الحمضيات حساسية ضد الطقس البارد، فكان يُزرع في أماكن معينة، وكانت جزيرة صقلية في إيطاليا واحدة من المناطق القليلة التي يمكنها أن تلبي هذا النداء.
عرف الصقليون الليمون وفواكه أخرى عن طريق العرب في القرن العاشر، حين رأى العرب أن سهول الجزيرة الساحلية وتربتها الخصبة تجعلها مناسبة للزراعة.
أهمية الليمون المفاجئة أعادت توجيه حصة كبيرة من الإنتاج الزراعي في صقلية نحو إنتاجه من أجل السوق الدولية. غير أن التحول المفاجئ لزراعة الليمون على نطاق واسع، لم يكن أمرًا سريعًا أو سهلًا، لأن مناطق معينة فقط من الجزيرة كانت مناسبة لزراعته، إضافةً إلى أن الأمر يتطلب أمولًا كثيرة للبدء.
تطلبت شتلات الليمون عناية خاصة. وعادة ما استخدم مزارعو الليمون طواحين تعمل بالأحصنة لري النباتات مرة واحدة على الأقل أسبوعيًّا. وكانت البساتين تُحصَّن بجدران وأسوار عالية لحماية الأشجار من السرقة والرياح الشديدة.
أما عن البساتين غير المحمية، فكانت هدفًا سهلًا للصوص، إذ يمكن بسهولة أن يُسرق بستان غير محمي في ليلة واحدة مظلمة، وتتبدد سنوات من الاستثمار في غمضة عين. لذلك، في منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأت عائدات التصدير في التزايد، فإن البساتين كانت محمية بحراس مسلحين.
شهدت الفترة ما بين 1837 إلى 1850 ارتفاع عدد الصادرات من براميل الليمون، عبر ميناء ميسينا الصقلي من 740 برميلًا إلى 20707. بنسبة زيادة تصل إلى 2600% تقريبًا.
ظروف مُزرية
كان الظهور الأول للمافيا بصقلية، في بيئة ما بعد التوحيد والمزيج السيئ بين ضعف المؤسسات الحكومية والسيولة المالية الضخمة من صناعة الليمون.
عانت صقلية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، من هشاشة المؤسسات العامة وعدم تفعيل القانون، إضافةً إلى وجود قُطَّاع طرق في الريف، والسرقة والفقر المدقع. هذه المشكلات كانت عميقة الجذور، كانت هذه الجزيرة سيئة الحظ دائماً، فقد كانت هدفًا لكثير من الإمبراطوريات، طمعًا في موقعها الاستراتيجي.
في ذلك الوقت كانت صقلية منطقة فقيرة، كثرت فيها الاضطرابات الاجتماعية والشغب. وظلت الهياكل الإقطاعية رغم محاولات الإصلاح.
عام 1860، تعرضت جزيرة صقلية لغزو جديد، وأصبحت جزءًا من مملكة إيطاليا الحديثة. كانت بيدمونت العاصمة بحكم الأمر الواقع. لكن الصقليين لم يعجبهم هذا الترتيب الجديد، وكان يصعب عليهم فهم لغة السكان الجدد الذين تحدثوا الإيطالية بلهجة غريبة. في نظر عدد من الصقليين، كان الأمر كله يبدو كقوة أجنبية أخرى تحاول فرض سيطرتها على جزيرة ضعيفة.
بدأ مُلاك الأراضي في توظيف هؤلاء الرجال حراسًا لحماية بساتين الليمون الثمينة. لكن مع الوقت أصبحت هذه «الحماية» تُخفي داخلها ابتزازًا وتهديدًا. حادثة غالاتي السابقة، أظهرت بشكل واضح، انتشار سلطة المافيا (الرجال الشرفاء)، والتي شملت القرى المحلية والشرطة والأسواق التي تدعم صناعة الليمون. كانت هذه المافيا مجموعات سرية يتعهد أعضاؤها بألا يتكلموا عن المنظمة أو عن أنشطتها على الإطلاق. وكانت تختار الحراس الذين يحمون بساتين الليمون، ما يسمح بالحصول على ما يحلو لها من الحصاد بسهولة، ثم يرفع أعضاؤها الأسعار على المشترين، أو يعملون وسطاء بين المنتجين والمصدرين في باليرمو وميسينا.
لكن على الرغم من سوء تصرفات المافيا الواضح، فإنه بسبب فوضوية أحوال صقلية آنذاك، كانت المافيا المحلية المفضَّلة بالنسبة إلى ممثلي الدولة الإيطالية. وبالنظر إلى وفرة عائدات تجارة الليمون، فإن الأموال التي يتقاسمها مُلاك الأراضي والمافيا كانت كبيرة.
مع ذلك، سرعان ما أدركت الدولة الإيطالية خطورة المافيا. في 1877، وافق البرلمان الإيطالي على إجراء تحقيق شامل حول ظروف القطاعات الزراعية في الدولة، والتي كان الجزء الأكبر منها في صقلية. وعُيِّن «آبيلي دامياني» وهو نائب برلمان من صقلية، ليرأس التحقيق المحلي بها، والذي جرى خلال الفترة من 1881 إلى 1886.
أرسلوا استبيانًا لجميع القضاة المحليين في صقلية، وكان من ضمن الأسئلة: «ما هي أكثر أشكال الجريمة انتشارًا؟ ما أسباب ذلك؟ ما أهم المحاصيل والنباتات؟». تكرر ذكر المافيا باعتبارها أخطر مشكلة في المدينة.
قصة صعود المافيا تكشف كيف يمكن للمؤسسات الضعيفة والموارد الثمينة أن يساعدوا في نشأة عصابات خطيرة.
في نهاية القرن التاسع عشر، عانى الاقتصاد الصقلي من الركود الاقتصادي. وواجهت صناعة الليمون منافسة شديدة بسبب بساتين الحمضيات الجديدة في فلوريدا. نتيجة لهذا، هاجر عشرات الآلاف من الصقليين الفقراء إلى الولايات المتحدة، هربًا من الأوضاع الفوضوية في وطنهم.
لكن الأفواج الصقلية المهاجرة إلى الولايات المتحدة شملت المافيا أيضًا. وسرعان ما تأسست مجموعات المافيا، واستقرت في الأحياء الإيطالية الفقيرة في مدينة نيويورك، وانتشرت في مدنٍ أخرى، مثل بوسطن وشيكاغو. في الوقت ذاته، في إيطاليا، ظلت المافيا الصقلية إلى جانب كامورا في نابولي، ولاندراغيتا في كالابريا، تشكل تهديدًا كبيرًا لحكم القانون.
قد يبدو أن هذه قصة عن عصابة إجرامية نشأت بسبب سوء الحكم وتدهور أحوال البلاد وسوء استغلال الموارد، لكن هذا غير صحيح على الإطلاق. في الواقع، سَكَّ علماء الاقتصاد والسياسة مصطلح «لعنة الموارد»، لوصف الآثار الضارة لوجود أرباح كبيرة من الموارد الموجودة في المناطق المتخلفة من العالم. أي إن وفرة الموارد أكثر من اللازم قد يصبح نقمة لا نعمة.
قصة صعود المافيا في صقلية القرن التاسع عشر، تكشف كيف يمكن للمؤسسات الضعيفة والموارد الثمينة أن يساعدوا في نشأة عصابات خطيرة، بإمكانها أن تتسبب في معاناة السكان المحليين من الفقر والجوع لعقود طويلة. إضافةً إلى أن زيادة الطلب على بضائع تبدو غير مؤذية، مثل الليمون، أن يؤدي إلى ظهور منظمات إجرامية.