بعد عشرة أعوام من اعتلائه كرسي الخلافة، اغتيل عمر بن الخطاب عام 23 من الهجرة (644 من الميلاد) على يد أحد الفُرس، وكان ذلك خلال أداء صلاة الفجر في المسجد النبوي بالمدينة المنورة.
ولما كان الخليفة الثاني أحد أهم الشخصيات المكروهة في العقل الشيعي الإمامي التقليدي، بسبب ما نُسِب إليه من عداء لعلي بن أبي طالب وكراهية لآل البيت، نجد أن بعضًا من المصادر الشيعية المتأخرة حاولت أن تجد علاقة تبعية بين أبو لؤلؤة فيروز النهاوندي، قاتل عمر المعروف بأبي لؤلؤة المجوسي من جهة، وعلي بن أبي طالب من جهة أخرى.
من ذلك ما ورد في كتابي «رياض العلماء وحياض الفضلاء» لعبد الله أفندي، و«مصائب النواصب» لنور الله التستري، عند التعريف بأبي لؤلؤة، بوصفه «أبو لؤلؤة فيروز الملقب ببابا شجاع الدين النهاوندي الأصل والمولد ثم المدني». إضافة إلى ذلك، وصفته تلك المصادر بأنه «من أكابر المسلمين والمجاهدين، بل من خُلَّص أتباع أمير المؤمنين عليه السلام».
نستطيع أن نجد بعض الروايات السنية المتقدمة التي حاولت أن تنفي أي شبهة لضلوع علي بن أبي طالب في حادثة اغتيال الخليفة الثاني، إذ يذكر ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276 من الهجرة، في كتابه «الإمامة والسياسة»، أنه عندما أصيب عمر ودخل عليه علي، قال عمر: «يا علي، أَعن ملأ منكم ورِضى كان هذا؟ فقال علي: ما كان عن ملأٍ منا ولا رضى، ولوددنا أن الله زاد من أعمارنا في عمرك».
كيف رأى السنة والشيعة كل الحوادث التي أحاطت بمقتل عمر بن الخطاب وخلافة عثمان بن عفان، في ما عُرف بعد ذلك في التاريخ الإسلامي باسم «حادثة الشورى»؟ وكيف تحولت هذه الحوادث إلى ساحة صراع بين المذهبين؟
حادثة الشورى في التاريخ السني
تُجمع المصادر التاريخية، ومنها «تاريخ الطبري» و«الكامل في التاريخ» لابن الأثير، أنه بعد إصابة الخليفة الثاني وتيقُّن الناس من دُنو أجله، طلب المسلمون من عمر بن الخطاب أن يختار لهم خليفة من بعده، حتى لا يصيبهم اختلاف أو تنازع في أمر الحكم.
وضع عمر مجموعة من الضوابط والقيود لتنظيم عملية الشورى، منها أن يكون الاختيار بالأغلبية.
الظاهر من الروايات التاريخية أن عمر لم يكن حسم أمر خلافته، ولم يكن استقر على شخصية محددة لزعامة دولة الإسلام من بعده.
تذكر المصادر السنية، ومنها «مسند أحمد ابن حنبل» و«سِيَر أعلام النبلاء» لشمس الدين الذهبي، أن عمرًا قد ذكر مجموعة من الرجال المتوفين الذين تمنى أن يعين أحدهم لخلافته، ومن هؤلاء سالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح.
أثارت تلك الروايات جدلًا ونقاشات في العقل السياسي السني، وذلك في ما يتعلق بشرط «قُرشية الخليفة»، الذي جرى إقراره في المدونات الأصولية السنية في ما بعد، لأن كلًّا من سالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل لم يكونا من قريش، فكيف يستقيم اختيار عمر بن الخطاب أحدهما لشغل هذا المركز المهم في الدولة الإسلامية؟
تذكر هذه المصادر أنه بعد طول نقاش بين عمر بن الخطاب ومجموعة من مستشاريه وأصحابه، لجأ الخليفة الثاني، وهو على فراش الموت، إلى حل وسط: أن يختار رجالًا من ذوي المكانة المتميزة في المجتمع الإسلامي، ويوكل إليهم أمر اختيار الخليفة من بينهم.
كان هؤلاء الرجال ستة، وهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
فسَّر عمر اختياره هذه الأسماء دونًا عن غيرها بأنهم من الصحابة الذين توفي الرسول وهو راضٍ عنهم.
تنص المصادر على أن عمر وضع مجموعة من الضوابط والقيود لتنظيم عملية الشورى، منها أن يكون الاختيار بالأغلبية، فإذا اتفق أربعة من الرجال الستة على واحد منهم وجب تنصيبه خليفة حتى لو رفض الاثنان الباقيان، وفي حالة انقسام الرجال الستة إلى فريقين متساويين عددًا، فلا بد من تحكيم عبد الله بن عمر لاختيار الخليفة دون أن يكون له فرصة في الترشح.
في حالة رفض الرجال الستة تحكيم ابن عمر، يضطلع عبد الرحمن بن عوف باختيار الخليفة.
رتَّب عمر مجموعة من الأنصار ليتأكدوا من تنفيذ البنود التي حددها بكل دقة وينفذوها بصرامة، حتى لو اقتضى ذلك اللجوء إلى السلاح والقوة، وأمر أن يتولى صهيب الرومي إمامة صلاة الجماعة حتى اختيار الخليفة الجديد.
بحسب ما تذكره المصادر التاريخية، اختلف المرشحون الستة لمنصب الخلافة في ما بينهم على تعيين الخليفة الجديد، ولعب عبد الرحمن بن عوف دورًا محوريًّا في اختيار المرشح الفائز بالمنصب، وذلك عندما تنازل عن حقه في الترشح، وعمل على توجيه بعض الأسئلة لكل من علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، وتعرَّف إلى رأي عامة المسلمين وخاصتهم، ليتخذ في نهاية الأمر قرارًا حاسمًا باختيار عثمان خليفةً ثالثًا للمسلمين، وسط مشاعر متباينة للمسلمين، ظهر فيها الترحيب الأموي مترافقًا مع الامتعاض الهاشمي.
ملاحظات على حادثة الشورى: امتعاض علي
معظم المصادر التاريخية أظهرت امتعاض علي بن أبي طالب وغضبه من الترتيبات التي جرت بها عملية الشورى.
حادثة الشورى إحدى أهم الحوادث السياسية التي وقعت في تاريخ المسلمين، فقد نتج عنها أمور خطيرة أثرت في شكل السلطة الإسلامية وبنيتها في ما بعد. ومن الملاحظات المهمة على تلك الحادثة:
- كانت الشورى بمثابة امتداد تاريخي لنتائج اجتماع السقيفة، فالرجال الستة الذين أدخلهم الخليفة الثاني في الشورى كانوا من قريش، ولم يكن أي منهم من الأنصار، بل اقتصر دور الأنصار على مراقبة العملية الانتخابية وتنفيذ شروطها فقط
- على عكس ما حدث في السقيفة، لا نجد أي روايات تاريخية تتحدث عن غضب الأنصار من تنظيم الشورى بالصورة السابقة، ما يدل على أن القبول ساد بينهم، وحدث لديهم تحول فكري جرى بموجبه الاعتراف بحق قريش في الخلافة دونًا عن باقي قبائل المسلمين
- القبائل العربية التي انتفضت على حكم أبي بكر، في ما عُرف بـ«حروب الردة»، شهدت عددًا من التغيرات الاجتماعية والفكرية بفعل المستجدات التي حدثت في الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، ومن أهمها الفتوحات الإسلامية وما نتج عنها من ازدهار اقتصادي كبير، ما جعل تلك القبائل توافق على استمرار السيادة القرشية على الحكم، ولا تلجأ إلى التمرد أو العصيان بعد وفاة الخليفة الثاني
- كانت الشورى مقدمة تاريخية مبكرة لما حدث بعد ذلك من نزاعات وصراعات سياسية. يشهد على ذلك ما قاله الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان: «لم يشتِّت بين المسلمين ولا فرَّق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر في ستة نفر، لم يكن رجل منهم رجاها لنفسه، ورجاها له قومه وتطلعت إلى ذلك نفسه»، وذلك حسب ما يذكر ابن عبد ربه الأندلسي، المتوفى 328 هجرية، في كتابه «العقد الفريد».
- معظم المصادر التاريخية أظهرت امتعاض علي بن أبي طالب وغضبه من الترتيبات التي جرت بها عملية الشورى
من المؤكد أن علي بن أبي طالب شارك في الشورى، وحاول الوصول إلى منصب الخلافة وفق الضوابط التي أقرها عمر بن الخطاب قبيل وفاته، لكن الروايات الواردة في المصادر السنية والشيعية تدل على أن قبول علي بالمشاركة لم يكن باقتناع كامل أو رضا تام.
وفقًا لما يذكره ابن مسكويه في «تجارب الأمم» والطبري في تاريخه، كان علي بن أبي طالب يعرف أن الشروط التي وضعها عمر لاختيار الخليفة الجديد تصب في غير مصلحته. يظهر ذلك في نقاشه مع عمه العباس بن عبد المطلب، فقد ورد أن علي بعدما عرف بأمر الشورى قابل عمه فقال له:
«عَدَلَتْ [الخلافة] عنا. فقال العباس: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضى رجلان رجلًا، ورجلان رجلًا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني».
أي إن عليًّا عبَّر عن استيائه من شروط الشورى لأنه رآها تفضي لا محالة إلى تولِّي واحد من بني أمية، لأن عمر اشترط في حالة تعادل الأصوات أن تُحسَم الشورى لصالح جانب عبد الرحمن بن عوف، وعلي رأى أن سعد بن أبي وقاص سيقف إلى جانب عبد الرحمن بحكم النسب، وسيدعم خلافة عثمان لأنه صهره. هكذا كان علي من البداية ممتعضًا من الشورى.
غالب الظن أن عليًّا لم يكن في ذاك الوقت اتخذ خطوات عدائية واضحة، على أن الانفجار كان أصبح وشيكًا كثيرًا من أي وقت مضى.
يظهر هذا الامتعاض بصورة أشد حدة في المصادر الشيعية بطبيعة الحال، ومنها على سبيل المثال كتاب «الأمالي» للشيخ المفيد، إذ إن علي بن أبي طالب يستذكر حادثة الشورى فيقول: «فجعلني سادس ستة كَسَهْمِ الجدة (أي مثل نصيب الجدة من ميراث الحفيد)، وقال اقتلوا الأقل وما أراد غيري، فكظمت غيظي وانتظرت أمر ربي وألصقت كلكلي بالأرض».
تتفق المصادر التاريخية على أن علي كان يرى في ترتيب قواعد الشورى ما يشبه المؤامرة ضده. فقد ورد أنه قال لعبد الرحمن بن عوف بعد أن اختار عثمان بن عفان لشغل منصب الخلافة: «ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. والله ما ولَّيت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم في شأن»، وذلك حسب ما يذكر الطبري في تاريخه، وابن الأثير في «الكامل»، وابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة.
يظهر امتعاض علي من الشورى إذًا مقدمة لثلاث نتائج تنفجر بعد ذلك:
- الحرب الأهلية الإسلامية التي كانت وشيكة، والمعروفة باسم «الفتنة»
- التبلور التدريجي للشيعة مذهبًا إسلاميًّا له تاريخه الخاص
- استمرار الخلاف بين السنة والشيعة إلى اليوم بشأن تاريخ تلك الحوادث، ومحاولة السنة تخفيف الخلاف بين الصحابة ومحاولة الشيعة إبرازه
رغم ذلك، فإنه من المؤكد، بحسب المصادر المذكورة، أن علي بن أبي طالب بايع عثمان بن عفان عقب إعلان اختياره. وفي حين تذكر الروايات التي وردت في المصادر الشيعية خصوصًا، مثل «بحار الأنوار» لمحمد باقر المجلسي، أن علي بايع مجبَرًا، فإن عددًا آخر من الروايات التاريخية التي تميل إلى الجانب السني، ومنها «الطبقات الكبرى» لابن سعد، تؤكد أن علي بادر إلى البيعة من تلقاء نفسه وبطيب خاطر.
غالب الظن أن عليًّا لم يكن في ذاك الوقت اتخذ خطوات عدائية واضحة، على أن الانفجار كان أصبح وشيكًا كثيرًا من أي وقت مضى.