إحياء فلسطين: مِن على مقعد في صف شفيق الغبرا

الصورة: القبس - التصميم: منشور

أمل السعيدي
نشر في 2021/09/07

كنت قد أنهيت القصص الكاملة لغسان كنفاني في مكتبة كلية الآداب بجامعة الكويت عام 2012، عندما بدأ فضولي يزداد لمعرفة المزيد عن القضية الفلسطينية، خارج الروايات الرسمية التي كانت سمتها العامة شعاراتية، والتي نشأتْ معي مثل معظم أطفال مطلع التسعينيات.

حرصت على اختيار مساقاتي الدراسية بما يتفق ورغبتي في المعرفة، وعمّق هذه الرغبة معرفة أن كنفاني قضى سنوات في الكويت، ووقّع نهاية قصصه بتواريخ كتابتها في الكويت. قررت أن أسجل في مقرر صراع عربي إسرائيلي مع الدكتور شفيق الغبرا، ولم أكن أعرف شيئًا عنه حتى ذلك الحين.

استطعت من خلال زميلاتي معرفة أن الأستاذ كويتي، لكن فور دخوله الصف وسماع لكنته الشامية بدأتُ أفقد قدرتي على الربط، لكنه دون شك جرب هذا الذهول في سنوات عديدة من تدريسه للطلبة، فبدأ بقص حكايته منذ الطفولة، والتي سبق ونشرها في كتاب Remembering Childhood in the Middle East: Memoirs from a Century of Change.

سأكتب هنا عن شفيق الغبرا كما تقاطعت معه كطالبة، عن الأسئلة التي أثارها في الطلبة الذين علمهم، وعن الطريق الذي مشى فيه وصولًا لقاعة الصف في كلية العلوم الاجتماعية قسم العلوم السياسية في الشويخ.

الطفولة وأسئلة الهوية

الصورة: Remembering Childhood in the Middle East: Memoirs from a Century of Change

بدأ شفيق الغبرا الصف بالحديث عن نشأته، إذ ولد في صيف أغسطس عام 1953 لأسرة فلسطينية في أراضي الكويت، التي كانت حتى ذلك الحين محمية بريطانية. وكان ناظم الغبرا والد شفيق، والذي عمل طببيًا في حيفا، قد هاجر إلى الكويت عام 1952. يصف شفيق طفولته كفلسطيني بأنه تعامل مع جميع أنواع المخاوف والحاجة للعودة إلى منزل لم يكن قد رآه من قبل، كان هنالك ذلك الشعور الغامر بأنه ينتمي إلى جماعة فقدت وطنها.

كانت فلسطين كما يصفها شفيق الغبرا واقعًا حيًا، انتقل إليه عبر عائلته وشكل تطلعاته ووجوده.

انتمى والد شفيق لعائلة من الطبقة المتوسطة هُجرت قسرًا خلال نكبة 1948، فقد الجد تجارته وكان عليهم أن يلجأوا لمصر، مما دفع ناظم لتحمل المسؤولية المالية عن جميع أفراد الأسرة، وهذا ما دفعه للبحث عن عمل حيثما أمكن ذلك.

أما والدة شفيق نهلة الطبري فكانت من طبريا الفلسطينية، وهي ابنة أحد قادة تلك المدينة، وهجرت مع عائلتها في نفس العام لتصل إلى سوريا وتتزوج ناظم عام 1952.

يصف شفيق عائلته بأنها مثقلة بالماضي الحزين، وكانت كل الشبكة الاجتماعية للعائلات الفلسطينية من حولهم لأقارب وأصدقاء قد عانوا المأساة ذاتها في اللد والرملة وطبريا وعكا ويافا والقدس وحيفا، ومع ذلك فلقد آمنوا جميعًا بأنهم في غضون أشهر أو سنوات سيعودون إلى فلسطين، حيث بساتين الزيتون وأشجار البرتقال والبحر الأبيض المتوسط حول حيفا وجبل الكرمل وبحيرة طبريا. كانت هذه العائلات جزءًا من طفولة شفيق، وقد فقدوا بيوتهم قبل خمس سنوات من ولادته فقط.

حتى قصص النوم التي حكتها له والدته كانت مرتبطة بطريقة ما ببحيرة طبريا أو الكهف القريب من البحيرة، وكانت فلسطين كما يصفها شفيق الغبرا واقعًا حيًا، انتقل إليه عبر عائلته وشكل تطلعاته ووجوده.

الصورة: الجريدة

أثارت حرب 1956 (أو ما يسمى بالعدوان الثلاثي على مصر) الخوف في منزل شفيق، خصوصًا وأن جدته وخالته كانتا لا تزالان تعيشان في القاهرة.

سافر شفيق عام 1958 برفقة والده إلى إنجلترا، إذ حصل هذا الأخير على منحة للتخصص في أمراض القلب، وقد ألفى نفسه هناك يشعر بعروبته أكثر من أي مكان آخر، مما عرضه للضرب في المدرسة، حيث كان يتحدث عن تسليم بريطانيا فلسطين لليهود، وكان ذا طبع وصفه بأنه «سياسي حاد».

لكنه في خضم هذا كان قد نسي العربية، وفي مروره بمصر لاصطحاب أخيه الذي ترك برفقة الجدة عام 1960 للعودة إلى الكويت، صاح به صبية الحي بأنه إنجليزي بسبب لغته، لكنه ردد «أنا عربي، أنا عربي». يتذكر شفيق هذه التجربة لأنها تعمقت في داخله وأثرت فيه لوقت طويل.

بعد الوصول للكويت وعمل والده طبيبًا، حصل ناظم الغبرا في عام 1961 على الجنسية الكويتية تقديرًا له، بعد أن كان طبيبًا لأمير الكويت آنذاك الشيخ صباح السالم، وكان هذا قد أبرز السؤال حول الهوية، فشفيق عاش حتى الثامنة من عمره فلسطينيًا، فكيف يُعقل أن يصبح كويتيًا الآن؟ لم يكن وقع هذا عليه سهلًا.

حلت بعدها حرب 1967 وشفيق طالب في الصف الثامن، وكانت نقطة التحول الكبيرة في حياته. كان وعائلته يستمعون للراديو طوال الوقت، وأنجبت والدته في نفس العام، وفي 10 يونيو تحديدًا، فتاة أسموها لبنى، لكنهم كانوا قد ناقشوا بسخرية فكرة تسميتها هزيمة أو حرب أو نصر.

لا أتذكر كل هذه التفاصيل من المحاضرة الأولى لي مع د. شفيق، اضطررت للعودة إلى نصه الذي كتبه تحت عنوان «طفولتي: البراءة والسياسة والتمرد»، لكنني أتذكر بدقة الضغط الدرامي على جمل بعينها، والتماعة العين والابتسامة بينما يقص علينا حكايته هذه.

كان في أول صف لي معه منظمًا للغاية، ومبتسمًا، يحمل كوب القهوة الذي ظل يأخذه معه منذ اليوم الأول وحتى آخر محاضرة، بالإضافة لجهاز عرض صغير، شاهدنا من خلاله خرائط وصورًا لعائلته قبل النكبة، وصورًا من زيارته لفلسطين. لم يكن يهتم بمسألة الحضور والغياب، على عكس بقية الأساتذة، ومع ذلك لم تفتني محاضرة واحدة له. كانت المحاضرة التي تقع في يومين خلال الأسبوع قد جددت شعوري بعروبتي، وإحساسي بانتمائي إلى فلسطين.

حطم شفيق الغبرا أصنامًا من البلادة حول علاقتنا بفلسطين، فلقد أثبت لنا من خلال المصادر العلمية التي استثمرها، أننا جميعًا خسرنا مع النكبة، وكيف تغيرت المنطقة بهذا الاستعمار الاستيطاني الإرهابي. أعادني إلى الواقع بعين ترى جيدًا، وتستطيع أن تفكر في كل هذا. هل كنا نختلف معه؟ بالطبع، لقد حفزنا مرارًا للحديث عن العنف الثوري، أو عن خيارات السلام، وكان مستمعًا جيدًا في كل مرة، مستمعًا أعرف كتلميذة أنه قادم من ساحة المعركة، وأنه حمل سلاحًا في سبيل فلسطين والعروبة، لذا كنا نصغي بانتباه.

من البراءة إلى الراديكالية

الصورة: الجريدة

كان الغبرا محبًا لفرقتي البيتلز ورولينغ ستونز، أحب الموسيقى والفن، حتى في الأيام الأخيرة قبل مرضه كان يتحدث عن حبه لرقصة السالسا.

لكن هذا لم يبعده عن الانخراط في التنظيمات السياسية بعد التحاقه بمدرسة الدعية الثانوية، ففي الصف العاشر تغيرت حياته جذريًا عندما قابل مجموعة من الطلبة الناشطين سياسيًا خريف عام 1968، والذين ظلوا يتحدثون عن فدائيي الأردن. وفي ذلك العام كان قد حضر لقاءه السياسي الأول مع شاب من قيادة فتح، وأقسم على سرية انتمائه للجماعة.

كان ذلك المتحدث الشاب قد وجههم لتثقيف أنفسهم حول تاريخ فلسطين وسياستها، ليتمكنوا من التصدي للعدو. بدأ شفيق حينها بالقراءة وتطوير مهاراته في الكتابة، وكانت مهمته السياسية الأولى كتابة صحيفة حائط عن أنشطة الفدائيين في الأردن والضفة الغربية وغزة ولبنان، ومهد ذلك لخطابه الأول في ربيع 1969 خلال مأدبة لجمع التبرعات لصالح القضية الفلسطينية في الجمعية الطبية الكويتية.

خلال الفترة نفسها قابل شفيق قياديًا رئيسيًا في فتح هو صلاح خلف، وكانت المرة الأولى التي يسمع فيها كلمات من قبيل برجوازيين، بروليتاريا، طبقة وسطى، إمبريالية. وفي نهاية ذلك العام سجل ناظم ابنه شفيق في مدرسة برمانا الوطنية في لبنان، وكانت لبنان في ذلك الحين مشهدًا حيويًا لالتحام الثقافة والسياسة والموسيقى والفن، وهناك درس شفيق الفلسفة والتفكير النقدي. وزار برفقة صديق له مخيم البرج الشمالي للاجئين الفلسطينين، وشعر بغضب مما شاهده عن حياة مواطني المخيمات، ليحركه هذا للنضال المسلح لفترة طويلة لاحقة.

تلك هي فترة التحول من النظرية للنشاط، من كونه عربيًا مهزومًا للالتزام بكونه مقاتلًا في الثورة. صاحب هذا نشاطًا كبيرًا في القراءة حتى عرفته كل مكتبات بيروت. «كل شيء بدأ وانتهى في لبنان»، هكذا يقول شفيق، فقد ذاق طعم كل شيء: الطائفية، اليمين واليسار، الأمة العربية.

الصورة: الأنباء

كان علينا من ضمن المحاضرات التي يعطينا إياها شفيق، الالتزام بقراءة سيرته الذاتية «حياة غير آمنة». تمنى أن تكون ممتعة إن لم تكن مفيدة، وهكذا أدخلنا في زمن حرب جنوب لبنان، متعاضدًا مع تربيته لحلمه الشخصي بتحرير فلسطين وتحرير العرب.

نقول له: تعرف ليلى خالد شخصيًا؟ رأيت فلان يموت؟ تخرجت في الجامعة وقررت بمحض إرادتك أن تحمل السلاح وتقاتل، بينما يتساقط الأصدقاء في المعركة؟ وكان يستقبل هذه الأسئلة بابتسامة متفهمة لجيل يبدو أن هذا بالنسبة له يحدث في الأفلام والقصص الكلاسيكية فقط، جيل مهزوم في حياته اليومية، جيل يجهل الكثير، وقد نسي قسريًا الكثير، بسبب سلطة ممنهجة تريد أن تنسيه ما له وما عليه.

انضوى شفيق مثل غيره من الشباب مواليد الأربعينيات والخمسينيات من أصحاب الميول اليسارية في التنظيم الطلابي لحركة فتح، ما عُرف في البداية بـ«السرية الطلابية»، وما تحول لاحقًا إلى «كتيبة الجرمق»، التي ضمت أعضاء من لبنان وفلسطين والعراق واليمن وغيرها، ومن ديانات وتوجهات سياسية مختلفة. يصف شفيق الذي استخدم «جهاد» اسمًا حركيًا آنذاك، استشهاد الأصدقاء في أواسط السبعينيات بأنه كان «مثل حبيبات المطر الخفيف، لكن سرعان ما تحول لزخات من المطر الغزير».

كتب شفيق الغبرا سيرته للأصدقاء الذين سقطوا في درب التجربة ولجيلنا، المقاومين الجدد الذين يبحثون عن طريق جديد، وصدر الكتاب مع بدايات الربيع العربي عام 2010. عندما عدت إلى عُمان في صيف 2013 لقضاء العطلة قبل عامي الدراسي الأخير في جامعة الكويت، طلب مني الكاتب والناشط السياسي العماني سعيد الهاشمي أن أختار كتابًا للتحدث عنه لصالح مبادرة ثقافية اسمها «نور وبصيرة». وعندما قلت له في اللقاء إنني اخترت كتاب حياة غير آمنة، قال: «معقول؟ درس لي الغبرا نفس المقرر في التسعينيات، هل ما زال يحمل كوب قهوته إلى الصف كل يوم؟».

الكويت في تجربة شفيق الغبرا

الصورة: الجريدة

لم يكن ذلك السؤال الهوياتي حول الانتماء إلى الكويت بعد سن الثامنة، ليحُول دون أن يسعى شفيق الغبرا للكتابة عن الكويت، لا عبر تقاطعها مع القضية الفلسطينية فحسب، أو تكون هياكل تنظيماتها السياسية فيها، أو اعتبارها منبرًا للقوميين العرب في مرحلة ما. انخرط الغبرا في قضايا الكويت المحلية، في رغبة واهتمام واضحين بالإصلاح السياسي في بلاده التي يحبها، كما كان يقول لنا دائمًا في الصف الدراسي الذي جمعني به.

يرجع شفيق سبب مشكلات الكويت الحالية ومنها مسألة البدون، إلى أنها لم تطور إرثها الديمقراطي منذ العام 1962، ولم تعدل دستورها لتطور ديمقراطيتها.

اشتغال الغبرا على الكويت ذهب في اتجاهين، الأول يتمثل في توثيق الشتات الفلسطيني في الكويت وتأثيره على المجتمع الكويتي، وذلك عبر كتابه «‫النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت‬»، والذي قوبل بغضب أدى إلى منعه، قبل أن ينتصر القضاء الكويتي للبحث العلمي. 

أما الاتجاه الثاني فكان الحديث المباشر عن الأزمات السياسية التي تعيشها الكويت، إذ بحث ووثق في مطالب الإصلاح الكويتية عام 2011، من قضية الإيداعات المليونية، وإقالة رئيس الوزراء ناصر المحمد الصباح الذي تولى رئاسة الوزراء عام 2006، وتحول القبائل إلى قاعدة للمعارضة السياسية، والاحتجاج الشعبي والنشاط الاجتماعي، وذلك في دراسة له بعنوان «مستقبل مطالب الإصلاح في الكويت».

ركز الغبرا في دراسته هذه على الدور الذي يلعبه التمركز بين السياسة ورأس المال والنفوذ في نموذج الليبرالية الجديدة كما تحقق في الكويت، وتهميش أبناء القبائل، أو تأزيم الواقع الذي ينبغي على الدولة التعامل معه ومعالجته. ويرجع شفيق سبب مشكلات الكويت الحالية ومنها مسألة البدون، إلى أنها لم تطور إرثها الديمقراطي منذ العام 1962، ولم تعدل دستورها لتطور ديمقراطيتها. هذا الركود أنتج خلافات لا يمكن حلها، وهو ركود لا يتماشى والتغيرات التي حدثت في البنى السياسية الحاكمة.

الصورة: الأنباء

كان الغبرا صريحًا وواضحًا في مواقفه حول ما يحدث في الكويت، وقد شعرنا بذلك في صفه. كنا في بداية بعض المحاضرات ومع الأحداث السياسية الموازية لوقت المحاضرة، نناقشها، وأحيانًا كان يبدو مستغرقًا في تصوير الكويت (قبل/بعد) كيف كانت قبل الغزو وبعده، وحتى في دراسته المنشورة يمكن ملاحظة هذا الوضوح الذي يستثمره كأداة لتحليل الوضع السياسي الراهن، ولعل مثال التنافس غير السياسي غير العلني بين كبار أفراد أسرة الصباح في المرحلة المقبلة والدور الذي يؤديه في المشهد السياسي الكويتي دليل على ذلك.

يمتلك شفيق الغبرا قدرة على التنبؤ، ففي عام 2016 الوقت الذي كتب فيه بحثه هذا، تحدث عن مخاطر عدم مراجعة الحكومة الكويتية لسياساتها السخية، الأمر الذي قد يؤدي لرفع الدعم وإقرار الضرائب، وهو النقاش الذي بات جزءًا حيويًا في الفضاء العام الكويتي خلال هذين العامين، خصوصًا وأن السوق الكويتي ما زال يعاني تحت وطأة التشخيص نفسه الذي ذكره الغبرا آنذاك، من بيروقراطية وقيود مفروضة وتسييس للمناقصات.

زاوج شفيق بين كويتيته وفلسطينيته، وهو ما يعد منسجمًا مع القيم التي دعا إليها. لقد كان تجسيدًا لأفكاره، إذ نبذ التعصب والعنصرية والتهميش السياسي، ومنح نفسه لمشروعه السياسي في كلا الاتجاهين، على اعتبار أنه لا انفصال في المحصلة العامة للمشهد السياسي العربي.

قاوم شفيق مرض سرطان المعدة الذي أصيب به قبل بضع سنوات، وكان متفائلًا بتجاوز هذه المرحلة. وفي الأيام الأخيرة من حياته، قدم أبجديات القضية الفلسطينية في سلسلة حلقات ما زالت تُبث على يوتيوب. 

لا أستطيع وصف الحزن الذي أشعر به، والأسف على طلبة كانوا سيتخرجون من مدرسة شفيق الغبرا أكثر صلةً بقضاياهم وإنسانيتهم.

مواضيع مشابهة