في شهر مايو 1946، وبعد تسعة أشهر من إلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، أطلق مصمم الأزياء الفرنسي «جاد هيم» «أصغر لباس بحر» في العالم وسماه «ذرة» (Atom). بدا الاسم في البداية، على الأقل بالنسبة إلى الرأي العام، اعتباطيًّا، لكنه في الوقت نفسه لم يثر جدلًا كبيرًا، بسبب استخدام اسم «الذرة» أو «القنبلة الذرية» على منتجات استهلاكية مختلفة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية.
بعدها بشهرين فقط، في يوليو 1946، أطلق مصمم فرنسي آخر هو «لوي رِيار» لباس بحر آخر، أصغر من «ذرة»، أطلق عليه اسم «بيكيني».
هنا تحديدًا تبدأ قصتنا، أو ربما قبلها بأشهر قليلة. ففي فبراير 1946، طلبت الولايات المتحدة الأمريكية، من سكان جزيرة بيكيني (ضمن جزر الماريشال الواقعة تحت سيطرة أمريكا)، وعددهم 167 شخصًا، مغادرة موطنهم والاستقرار في جزيرة أخرى، على أن يكون هذا التهجير، إسهامًا «في إنهاء كل الحروب العالمية».
إنهاء كل الحروب، كان ببساطة يقتضي وفق الرواية إياها، إجراء اختبار لقنبلة هيدروجينية على الجزيرة. لن ندخل في تفاصيل كثيرة أخرى حول من بقي على الجزيرة ومن غادرها، ولا ماذا حصل مع سكانها الأصليين. لكن ما يرتبط بموضوعنا هو اختيار اسم هذه الجزيرة لإطلاقه على مايوه «البيكيني» الشهير: «شيء صغير بمفعول كبير»، تمامًا كالقنبلة الهيدروجينية. هكذا ولد اسم لباس البحر الأكثر إثارة في العالم حتى اليوم.
لم يثر اختيار الاسم أي اندهاش، بل بدا تكريسًا لثورة التحرر الجنسي التي انفجرت بشكل مفاجئ مع انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان عام 1945.
بعد 15 عامًا من الكساد والحرب، كانت هناك رغبة من جانب المراهقين الأمريكيين بعيش اللحظة الآنية والتمتع بالحياة.
كان إعلان الولايات المتحدة إلقاء القنبلتين على هيروشيما وناغازاكي، في أغسطس 1945، كافيًا لتحرير المخيلة الجماعية الأمريكية من موروثات اجتماعية وثقافية محافظة. بتلقائية ارتبط اسم القنبلة الذرية بالإغراء: من العروض الراقصة في لوس أنجلوس إلى الأغاني التي قارنت بين الشبق الجنسي وقوة القنبلة الذرية، وصولًا إلى إعلانات مستحضرات التجميل التي تثير الرجال، وتسميتها بأسماء مشتقة من القنبلة الذرية، وهي العادة الإعلانية التي انتشرت في دول كثيرة، من الولايات المتحدة إلى نيوزيلندا.
وقد أرَّخت لتلك الفترة الباحثة من جامعة أوكلاند النويزلندية «ريبيكا بريسلي»، في كتابها «Mad on Radium: New Zealand in the Atomic Age».
لكن ما الذي حدث على أرض الواقع؟ وكيف تمرد مراهقو الولايات المتحدة الأمريكية في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته على قواعد المجتمع المحافظ؟
الجواب البسيط والأسهل يقدمه أستاذ التاريخ في جامعة فلوريدا، الراحل «آلن بيتيجني» بقوله: «بعد 15 عامًا من الكساد والحرب، كانت هناك رغبة من جانب المراهقين الأمريكيين بعيش اللحظة الآنية والتمتع بالحياة، وبالتالي اختاروا أن يكونوا أقل رضوخًا للقيود التقليدية على سلوكهم الشخصي».
هذا التمرد ظهر بشكل خاص في السلوكيات الجنسية، فقد كشفت أرقام مكتب الإحصاء الأمريكي (التابع لوزارة التجارة) عن ارتفاع تدريجي بنسب ثابتة، هي 2%، في عدد حالات الحمل خارج إطار الزواج بين 1945 و1960. ظل هذا الرقم يتصاعد كل سنة، مع تعديل القوانين الأمريكية، وعدم تمييز الأمهات العازبات عن المتزوجات، وغيرها من قوانين الأحوال الشخصية التي جعلت الزواج خيارًا للنساء، ضمن خيارات أخرى، كالعزوف عن الزواج أو الانجاب خارج إطار هذه المؤسسة.
إذًا، هذا التحرر الجنسي جاء بعد تطور مهول شهدته سنوات الحرب العالمية الثانية، الذي وصل إلى قمته مع استخدام القنبلة الذرية وقدرتها الفعلية (والمدمرة) على إنهاء سنوات الحرب، بانتصار أمريكي واضح. ويبدو الربط بين تحرر العلم من استخداماته الأخلاقية، والتحرر الجنسي وانفلاته من القواعد الأخلاقية للمجتمع والدين طبيعيًّا هنا، وإن لم يكن السبب المباشر في الثورة الجنسية.
لم يكن أثر الثورة الجنسية واضحًا فقط من خلال العلاقات الجنسية، فلم يعد شرب الكحول فشلًا وتجاوزًا أخلاقيًّا كما كان.
في السنة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدا الجنس حاضرًا في كل مكان، حتى وصل كتاب «الحس المشترك للعناية بالأطفال»، «The Common Sense Book of Baby and Child Care»، للباحث «بينجامين سبوك» ليتصدر أرقام المبيعات. وهو كتاب تخلله أفكار كانت، قبل سنوات قليلة، قد تعد منحرفة في المجتمع الأمريكي، بينها واجب الأهل تقبُّل استمناء أولادهم، وعدم معاقبتهم على ذلك.
وفي عام 1948، صدر الكتاب (الصدمة) لـ«ألفرد كيسني»، والذي حمل عنوان «السلوكيات الجنسية عند الرجال»، والذي تطرق بشكل واضح إلى تحرر الرجال الجنسي في أمريكا، وإلى ممارساتها لأشكال «مختلفة» من الجنس، بينها المثلية.
لم يكن أثر الثورة الجنسية واضحًا فقط من خلال العلاقات الجنسية، بل انسحب على جوانب «أخلاقية» عدة في المجتمع الأمريكي، مثل التراجع الكبير في اعتبار شرب الكحول فشلًا وتجاوزًا أخلاقيًّا إلى اعتباره مرضًا يحتاج إلى علاج.
رغم أن العلاقات الجنسية والاجتماعية بدأت تتحرر من قيودها، فإنها طيلة الأربعينيات وبداية الخمسينيات، بقيت ناشطة، لكن صامتة. تحصل من دون إعلان مباشر ولا مجاهرة. وهو ما بدأ بالتلاشي عام 1953 مع تأسيس مجلة «بلاي بوي». وقد صار إطلاق المجلة على يد «هيو هيفنر»، تتويجًا لمسيرة التحرر الجنسي هذه، والتي انطلقت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية.
أما مع وصول الستينيات، فإن الجيل الجنسي الصامت، بدأ يصدر كثيرًا من الضجيج، لتكون تلك السنوات الإعلان الرسمي والعام لثورة التحرر الجنسي في الولايات المتحدة. إذ باتت حبوب منع الحمل متاحة، وعرفت صناعة الأفلام الإباحية عصرها الذهبي، وأسقطت شركات الإنتاج حدودها الرقابية، لتبدأ عرض مشاهد جنسية ضمن الأفلام السينمائية، كما حدث في فيلم «ميدنايت كاوبوي» (1969) للمخرج «جون شلاسينغر»، كما تذكر دراسة لجامعة فلوريدا نُشِرَت في «مجلة التاريخ الاجتماعي».
يؤرخ الأكاديميون الأمريكيون لتلك الحقبة التي تلت الحرب باعتبارها المحرك الأساسي لثورة التحرك الجنسي. القنبلة التي انفجرت في هيروشيما وشقيقتها التي دمرت ناغازاكي، انعكست انفجارًا جنسيًّا في المجتمع الأمريكي. لكن لم يكن هذا المجتمع وحده من اكتشف العلاقة الحميمة جدًّا بين الحروب والجنس. بل إن الدمار والعنف ارتبطا منذ الأزل بالجنس والنساء والإغراء.
ففي تجربة القنبلة الهيدروجينية نفسها في جزيرة بيكيني، وضع الجنود الأمريكيون على القنبلة صورة الممثلة الأمريكية «ريتا هيوارث»، وسميت القنبلة «غيلدا» تيمنًا بعنوان الفيلم الذي لعبت بطولته هيوارث، وحملت اسم غيلدا. إذ جسدت في الشريط السينمائي دور امرأة جميلة ومغرية بشخصية خطيرة ومدمرة ومؤذية.