في اليوم الواحد، يلتقط مستخدمو الهواتف الذكية في العالم ما يقارب 93 مليون صورة سيلفي. وتُظهر الإحصائيات أنه من المتوقع أن يلتقط الشباب المولودون في الألفية الثالثة أكثر من 25 ألف سيلفي على مدار حياتهم. وفي عام 2015، رفع مستخدمو الإنترنت نحو 24 مليار صورة سيلفي على الإنترنت.
كل هذه الأرقام الضخمة تشير بوضوح إلى ظاهرة جديدة يصعب تجاهلها: هل يعبِّر التقاط صور السيلفي فعلًا عن نمط جديد في حياة البشر؟ أم أنه ليس سوى تطورًا طبيعيًّا يفي باحتياج بشري قديم، متأصل فينا، لكن بصورة عصرية؟
يستعرض مقال منشور على موقع «salon» أوجه الشبه بين صور السيلفي والبورتريه، ويعرض الطريقة التي يتعامل بها المخ مع كليهما، ويكشف علاقة مثيرة بين الأمرين.
صور السيلفي: صرخة للفت الانتباه
بتنا على استعداد لأن نضع حياتنا على المحك من أجل التقاط لقطة خطيرة متفردة، تصبح مثار إعجاب متابعينا على وسائل التواصل الاجتماعي.
سلَّط عرض مسرحي من البوسنة، يحمل اسم «تاريخ السيلفي الغبي»، الضوء على الأهمية الكبيرة التي يحتلها السيلفي في حياتنا بطريقة ساخرة تنفذ إلى القلب والعقل معًا.
في ذلك العرض، يظهر هاتف «آي فون» ضخم خلف بطل العمل، وتظهر شاشة الهاتف، ومكالمات من الأصدقاء، وصور سيلفي. يهدف العرض إلى إرسال رسالة مفادها أن السيلفي ما هو إلا صرخة لجذب الانتباه في عالم اجتاحه فيضان من الصور والمعلومات.
في مواجهة ذلك السيل من المعلومات الذي يسعى لكسب انتباهنا، نجد درجة من تحقيق الذات في حصد مزيد من الإعجاب على وسائل التواصل الاجتماعي. فتلك اللقطات التي نضعها على فيسبوك أو إنستغرام أو غيرها من المواقع تعبِّر عن مزيج من اليأس، والاختيال، و الشفقة، والتعطش إلى جذب الانتباه.
يصور الكاتب تلك الحالة بشخص عالق بين أمواج محيط هائج، يلوِّح بإحدى يديه بينما يمسك مرآة في الأخرى ليرى صورته، فيملؤه الإعجاب بنفسه.
أصبحنا على استعداد لأن نضع حياتنا على المحك من أجل التقاط صورة خطيرة متفردة تصبح مثار إعجاب متابعينا على وسائل التواصل الاجتماعي. فمنذ عام 2014، قُتل ما لا يقل عن 49 شخصًا خلال محاولتهم التقاط سيلفي، وكان القتلى جميهم دون 33 عامًا.
قد يهمك أيضًا: هوس التقاط الصور الخطيرة يقتل العالم
السيلفي والبورتريه وجهان لعملة واحدة؟
يقول كاتب المقال إن السيلفي هو الطريقة الحديثة لتخليد الذكرى، مثلما كان الناس في الماضي ينحتون أسماءهم على الأشجار.
أولئك الآلاف الذين يلتقطون سيلفي مع لوحة الموناليزا يريدون أن يقولوا إنهم ذهبوا إلى المتحف وشاهدوا اللوحة، دون أن يكونوا بالضرورة قد توقفوا ليتأملوا جمالها. فالسيلفي وسيلة تثبت أنك زرت المكان، وأنك كنت هناك في تلك اللحظة بالتحديد.
آلاف السنوات من ممارسة فن البورتريه كانت تهدف أيضًا إلى تسجيل اللحظات وحفظ الذكرى، لكن كانت أدوات التوثيق هي الأقلام والفرش، أما اليوم فيُستخدم الهاتف الذكي المزود بعصا السيلفي لتسجيل اللحظات.
كان لدينا ثَمَّة فهم أن الذكرى تقتصر على ما يستطيع الفنانون رسمه، وأن جمهور المشاهدين محدود، أما اليوم فيمكننا عرض الصور على الإنترنت، الذي يشكل معرضًا فوريًّا عالميًّا.
كانت الموهبة الفنية ضرورية لرسم صور تشبه الأشخاص فعلًا، لذا يمكن القول إن السيلفي في عصر ما قبل التصوير كان فنًّا يحتكره الرسامون، وكتوقيعات منحوتة وليس صورًا.
لفترة طويلة من الزمن، استخدم الرسامون والفنانون أدوات عالية التكلفة حتى القرن الثامن عشر، فكان من النادر أن تُرسم اللوحات أو تُنحت التماثيل إلا لو كانت مدفوعة الأجر، لذا فإن عدد البورتريهات التي رُسمت بالطلب أكبر بكثير من البورتريهات الشخصية التي رسمها الفنانون لأنفسهم.
كان رؤساء الدول ورجال الدين والأثرياء يطلبون رسم البورتريه لتبقى صورهم في الذاكرة. وجرى التعامل مع البورتريهات كوسيلة لحفظ ذكرى العائلة والضيوف، وبالطبع لم يكن من المتصوَّر وقتها أن نفس هذه اللوحات التي أُعدت لغرض معين واضح ستُعرض في معارض عالمية بعد مئات السنوات.
بورتريه أو سيلفي.. البحث عن أجمل نسخة منا
أَولَى الفنانون اهتمامًا خاصًّا برسم البورتريهات، فقد كان الطبيعي أن يمتلك الشخص صورة واحدة لحفظ شكله.
بالمقارنة، وجد مسح حديث شمل ألفي امرأة شابة أن النساء يقضين نحو 16 دقيقة في المتوسط في التقاط السيلفي، ما يعني أن الواحدة منهن تمحو عددًا ضخمًا من الصور حتى تلتقط واحدة تروق لها. في المقابل، حرص القدماء الذين كانوا يريدون تصويرهم في بورتريه على أن يكون رسمهم بالشكل الذي يحبون أن يتذكرهم الناس عليه، مما يعني أن صورهم كانت أجمل بدرجة كبيرة من الواقع.
عندما رسم الفنان الإيطالي «بييرو ديلا فرانشيسكا» لوحة لدوق مدينة أوربينو، «فيديريكو دا مونيفيلترو»، في عام 1465، حرص على إخفاء الجانب الأيمن من وجهه الذي شوهته المعارك، فأظهر الأيسر فقط. كان أنف الدوق مكسورًا وعينه اليمنى مصابة، فصورة وجهه كله ستكون مزعجة.
يبدو أن تهذيب الصور تقليد قديم في التصوير، فالسيلفي مثل البورتريه ليس رصدًا أمينًا للشكل، بل نسخة منتقاة بعناية للشكل الذي نرغب في أن يرانا عليه الآخرون.
سيلفي أو بورتريه: المخ يركز على الوجوه
يقول كاتب المقال إن عالم الأعصاب الأمريكي «إريك كاندل»، الذي حاز جائزة نوبل لكشوفه المهمة في ما يخص ذاكرة الإنسان، أخبره في لقاء أجراه معه أن هناك أوجه شبه بين الطريقة التي يحلل بها المخ الفنون والوجوه، فنفس الجزء من المخ المسؤول عن التعامل مع الفنون هو الذي يميز الوجوه.
التلفيف الصدغي السفلي (Inferior Temporal Gyrus) هو ذاك الجزء من المخ الذي يجعلنا نميز الأشياء التي نراها ونصنفها. وفي هذا الجزء من الدماغ توجد أقسام أخرى، تشمل التلفيف المغزلي (Fusiform Gyrus)، الذي يتخصص في تمييز الوجوه. وهناك قسم آخر يميز الجسم البشري عن غيره من الأشياء، وآخر يميز الأشكال المحددة عن المبهمة.
تُظهر كشوف كاندل أن نفس الجزء من الدماغ المسؤول عن تمييز أنواع الفنون هو المسؤول أيضًا عن تمييز الوجوه.
«الوجه ليس وجهًا إلا إذا كان يواجهك»
في لوحة «The Son of Man»، التي رسمها الفنان السريالي البلجيكي «رينيه ماغريت» عام 1964، يظهر رجل أعمال مجهول الهوية مرتديًا قبعة سوداء وبدلة، ويختبئ وجهه خلف تفاحة خضراء سابحة.
كان ماغريت، الذي اشتهر بلوحاته المثيرة للتفكير، معجبًا بالفيلسوف «جان بول سارتر» الذي كتب عن الطبيعة الصدامية لتبادل النظرات بين الأشخاص. رأى سارتر أن رفض الشخص أن تلتقي عيناه بعيني شخص آخر هو رفض الاعتراف بإنسانيته، وروحه، ووجوده. حجب الوجه أمر مخيف، وفق الكاتب، فنحن لا نشعر أننا نفهم الآخرين إذا لم نرَ وجوههم.
سينتابك نفس الشعور بالارتباك إزاء لوحة أخرى لماغريت عنوانها «Golconda»، صور فيها شارعًا في ضاحية، وتبدو السماء كما لو كانت تمطر المئات من رجال الأعمال المتطابقين في الشكل، يرتدون قبعات ولا تحمل وجوههم أي ملامح.
ربما كانت لوحته الأكثر إثارةً لمشاعر الخوف هي تلك التي أسماها «Not to Be Reproduced»، والتي تظهر رجلًا يشاهد انعكاسه في مرآة تعكس ظهره بدلًا من وجهه.
يبدو أن ماغريت عانى هو الآخر، بمقاييس زمنه، من ارتباك حقيقي ناحية الوجوه ودلالاتها، وما تتركه من انطباعات فينا، وما تتركه وجوهنا من انطباعات في نفوس الآخرين، وهو ما يظهر واضحًا في عديد من لوحاته التي حملت ثيمات مشابهة.
في البورتريهات والسيلفي على حد سواء، نخلق نسخًا من أنفسنا نحب أن يراها العالم ويتذكرها. كلاهما فن، وبما أن الوجوه هي محورهما، فإن نفس الجزء من المخ يحللهما. نحن نفهم الآخرين ونميزهم ونتذكرهم عندما نرى وجوههم، أما عندما نمنع أحدًا من التطلع إلى وجهنا، فإننا نحرمه من إنسانيتنا، أو نحول أنفسنا إلى وحوش.
ليس الوجه وجهًا إن لم يكن «يواجهك»، كما قال ماغريت مرة. والإنسان ليس إنسانًا إن لم نكن نرى وجهه، أو هذا على الأقل ما يراه المخ. يمكننا أن نجعل الآخرين يروننا على النحو الذي نبغيه بناءً على الوجه الذي نختار إظهاره، لكن ما هو وجهنا حقًّا؟ كيف نميز وجوهنا وسط هذه الصور الكثيفة التي تلاحقنا ونلاحقها كل يوم؟