لم يعد للكيلوغرام قيمة مادية: ماذا تعني قيمته الجديدة؟ وما تأثيرها؟

الصورة: Getty/Runner of art

ميرهان فؤاد
نشر في 2018/11/23

كيف تعرف وزن شيء ما؟ ربما يكون هذا سؤالًا واضحًا وسهلًا: تضعه على الميزان ببساطة. لكن كيف يعرف الميزان قيمة هذا الوزن؟

كي يكون لديك قدرة على تحديد الوزن، تحتاج إلى نقطة معيارية ثابتة تقيس عليها. كي تزن كيسًا من البرتقال مثلًا، وتعلن: هذا الكيس يزن خمسة كيلوغرامات، لا بد من أن تعرف ماذا يعني الكيلوغرام أصلًا لكي تتفادى الفوضى.

في 16 نوفمبر 2018، وقع حدث تاريخي في المجتمع العلمي. بعد التصويت ومئة عام من البحث، تغيَّر رسميًّا تعريف الكيلوغرام وثلاثة مقاييس معيارية أخرى. ما معنى ذلك؟ خبر يبدو غريبًا، لكن لا تقلق، فلن يؤثر ذلك في المقاييس التي نستخدمها يوميًّا. لن يتغير وزنك ولا وزن الفاكهة التي تشتريها من المتاجر، سيؤثر هذا في مقاييس أخرى.

 لماذا حدث ذلك إذن؟ ومن يحدد القيمة؟ لماذا يبلغ الكيلوغرام هذه القيمة بالذات؟ ولماذا يحتفل العلماء بهذا التغيير؟

أهمية الكيلوغرام

تكمن أهمية إعادة تعريف الكيلوغرام في أنه أساس قياسات أخرى في «نظام الوحدات الدولي» المُعتمَد عالميًّا في القياس. فمقاييس القوة والضغط والطاقة تعتمد مباشرةً على الكيلوغرام.

يُعرَّف «نظام الوحدات الدولي» بسبعة وحدات للقياس، وهي المتر والكيلوغرام والثانية والكلفن (وحدة قياس درجة الحرارة) والأمبير (وحدة قياس التيار الكهربي) والشمعة أو القنديلة (وحدة قياس شدة الضوء)، والمول (وحدة قياس كمية المواد الكيميائية). من هذه الوحدات شديدة الأهمية في فهم الطبيعة، تُشتَق الوحدات الأخرى.

وداعًا أسطوانة الكيلوغرام

تغير تعريف الكيلوغرام

حتى أيام قليلة ماضية، كان الكيلوغرام وحدة القياس الوحيدة التي يجري تعريفها بقيمة مادية.

البداية كانت منذ 1889، حينما اعتُبر أن قيمة الكيلوغرام هي ما يعادل كتلة أسطوانة من البلاتين والإيريديوم محفوظة في معهد الموازين والمقاييس بالقرب من باريس، يطلَق عليها «الألف الكبيرة»، تقبع هذه النسخة تحت حراسة مشددة، ويحج إليها العلماء من العالم كله.

صُنعت النسخة الأصلية من الكيلوغرام عام 1875، ثم توالى صنع عدة نسخ في العالم، تكلَّفت الواحدة منها ثلاثة ملايين دولار.

تنتقل النسخة الأصلية من مكانها في ظهور نادر كل 40 عامًا ليجري مقارنتها بالنسخ المطابقة لها.

كل كيلو يقاس في العالم بداية من أوزان الأشياء في المطبخ أو السوق، وحتى الألعاب الرياضية، بالاحتكام إلى هذه الأسطوانة.

إعادة تعريف الكيلوغرام ليس شيئًا سهلًا، واستغراقه لعقود لم يأت من فراغ.

لكن ما حدث أن هذه القيمة المادية المتمثلة في الأسطوانة أصابها التآكل، رغم التغليف والإبعاد عن العناصر الجوية التي قد تسبب تآكلها. فقدت هذه النسخة نحو 50 ميكروغرامًا من وزنها (وزن رمش عين تقريبًا). وبالتبعية، فإن هذا التعريف المعياري الذي يحتكم إليه الكيلوغرام أصابه خلل، ما دعا العلماء إلى التصويت على إعفاء الأسطوانة من تمثيل قيمة الكيلوغرام، والاتجاه إلى قيمة طبيعية ثابتة لتعريفه تسمى «ثابت بلانك»، لا تتغير ولا تتآكل مع الزمن.

يوم الجمعة 16 نوفمبر 2018، في مركز مؤتمرات على بُعد خطوات من قصر فرساي، عُقدت جلسة المؤتمر السادس والعشرين للمعايير والأوزان بين ممثلي 60 دولة، من بينهم دولتان عربيتان، هما الإمارات العربية المتحدة والكويت، إذ جرى التصويت على إعفاء أسطوانة البلاتينيوم والإيريديوم من الخدمة، وإعادة تعريف الكيلوغرام، وثلاث وحدات أخرى أيضًا هي «الأمبير» لقياس التيار الكهربي، و«الكلفن» لقياس درجة الحرارة، و«المول» لقياس كمية المادة.

سيدخل التعريف الجديد حيَّز التنفيذ في 20 مايو 2019. من وقتها فصاعدًا، فإن كل واحدة من السبع وحدات في نظام الوحدات العالمي، لن تُعرَّف بقيمة مادية، بل بقيم طبيعية ثابتة.

إعادة التعريف ليس شيئًا سهلًا، واستغراقه لعقود لم يأت من فراغ. فـ«ثابت بلانك» الذي سيعتمد عليه تعريف الكيلوغرام، ضئيل جدًّا، واستغرق العمل حسابات دقيقة وشديدة التعقيد باستخدام جهاز يسمى «Kibble Balance».

يُستخدَم جهاز «الكيبل» لقياس كتلة الجسم باستخدام القوة الكهرومغناطيسية، ومن خلال قياس المؤشرات الثلاثة الأساسية (سرعة الملف والتيار والجهد)، سيكون بالإمكان حساب كمية الطاقة الكهرومغناطيسية اللازمة لتحقيق توازن هذه الكتلة ضد جاذبية الأرض. وبهذه الطريقة نحصل على معيار كهرومغناطيسي شديد الدقة.

لماذا نُغير تعريف الكيلوغرام؟

تغيير تعريف الكيلوغرام ربما لا يكون مهمًّا عندما نقيس كيلو من السكر، لكنه سيؤثر كثيرًا حين يجيء الأمر مثلًا للجرعات الدوائية.

الأشياء المادية تتغير دائمًا. بهذا التعريف الجديد خرجنا من المادة، فهذه النسخة الأم أو الأسطوانة البلاتينية مادة مُصنَّعة ومعرضة لزيادة الوزن ونقصانه بتغير درجة الحرارة، وعُرضة للدمار والتآكل والغبار بسبب العوامل البيئية، إذا تغيَّرت ستتغير كل القياسات التي تعتمد عليها، وإذا تعرضت للسرقة، سيصاب نظام القياس العالمي بالفوضى. وقد طرأ عليها بالفعل بعض التغيرات الطفيفة، إذ فقدت بعض الوزن، بل وُجِدت اختلافات بينها وبين النسخ المطابقة لها، ما سبب قلقًا بين عدد من العلماء في استخدامها لتحديد الأوزان بدقة.

رغم أن تغيُّر وزن الأسطوانة شديد الضآلة، لا يساوي جناح بعوضة، ولن يؤثر في كتلة الكيلوغرام نفسها، فإن جناح البعوضة يظل تغيرًا غير مقبول في المجتمع العلمي، وفي عالم الموازيين والقياس، وسيكون له تداعيات ضخمة في العمليات والأبحاث العلمية.

كل عدة عقود، يجري مقارنة المستنسخات الموجودة في العالم، مع الألف الكبيرة، للتأكد من صحة قيمتها. سيمكِّننا النظام الجديد من التأكد من صحة هذا الوزن في أي وقت، دون الحاجة إلى الرجوع إلى «الألف الكبيرة» في كل مرة.

هذه الدقة الشديدة انتصار كبير للعلماء وللطريقة التي يتطور بها العلم. يصرح «المختبر الفيزيائي القومي» (NPL) بأن هذا التغيير ربما لا يكون مهمًّا عندما نقيس كيلو من السكر، لكنه سيؤثر كثيرًا حين يجيء الأمر مثلًا للجرعات الدوائية. فالكميات الضئيلة قد تكون قاتلة، وسيبني تغيير التعريف أساسًا ثابتًا يُعتمَد عليه مستقبلًا في العلوم والصناعة.

كيف أفادتنا الموازين؟

الصورة: US National Bureau of Standards

تعلَّم البشَر القياس قبل أن يتعلموا الكتابة، ومن خلاله تعلمنا الحسابات الرقمية. استخدمنا الشمس لنحسب الوقت، ساعدتنا الموازين في التجارة والبناء وعلم الفلك والمِلاحة والهندسة.

بتبني معايير قياس ثابتة أصبح هناك شيء اسمه «اقتصاد عالمي»، نحدد على أساسه قيمة الأشياء. الذهب مثلًا له قيمة لأن البشر قرروا أن يحتكموا إليه معيارًا للقيمة، وربطها بالاقتصاد والعملة النقدية. الاحتياج لمعايير أفضل أمر تطوَّر عبر الوقت، وما زال يشهد تطورًا.

تخيَّل عالَمًا يعتمد في كل مكان على وحدات قياس مختلفة، تمامًا مثل العملات النقدية. هذه الحالة كانت موجودة قبل الثورة الفرنسية. كانت وحدات القياس تختلف من دولة إلى أخرى، وأيضًا داخل الدولة الواحدة. تخيَّل الارتباك الذي يمكن أن يسببه هذا الوضع.

استلهم العلماء روح الثورة ليؤسسوا نظام قياسات لكل الأوقات وكل الناس، بحيث يكون النظام معياريًّا ويمكن القياس عليه. كان هذا حين أنشئ النظام الدولى للوحدات في فرنسا عام 1800، وقرر مخترعو هذا النظام أن يعتمدوا على قيمة مادية لتعريف وحدات القياس، فأصبح مقياس المتر عبارة عن سبيكة من البلاتين والإيريديوم، حُفظت داخل قبو في باريس تحت حراسة مشددة.

في وقتنا الحالي، لم يعد ممكنًا الاعتماد على قيم مادية لوضع قيم معيارية للقياسات الدقيقة. بدلًا من ذلك، يجب أن يكون الاعتماد على قوانين طبيعية للقياس، قيم غير قابلة للتغيير.

المِتر مثلًا يُعرَّف الآن بقيمة ثابتة، وهي المسافة التي يقطعها الضوء في الفراغ التام في جزء ضئيل محدد بدقة من الثانية. وهو هنا يعتمد على قيمة غير قابلة للتغيير، لا مادة فيزيائية.

شهد المِتر سابقًا تغيير تعريفه منذ عام 1984، واليوم تلحق به بقية الموازين.

مواضيع مشابهة