تقوم من فراشك في منتصف الليل، تخطو بوقار على أطراف قدميك، تتسلل بمنتهى الخفة والرشاقة بين الغرف، وتحرص أشد الحرص على ألا تفتح أي إنارة تثير ريبة النائمين وحفيظة المتربصين، متحملًا ظلمة الطريق المؤدي إلى لقائها المرتقب، فمهما بلغ الظلام مبلغه، أنت تعرف أن ضوءًا واحدا هناك ينتظرك لينير ظلمتك، إنه ضوء باب الثلاجة.
هذا هو سرك المعتاد، تفتح ثلاجتك المهيبة، تلتهم أقرب شريحة من أي شيء قابل للأكل، شطائر، فطائر، عصائر، سكاكر، أو حتى كعكة المقلاة المحلاة بشراب القيقب التي يخبئها أخوك، المهم أن تستجيب لصوتك الداخلي المنبعث من قعر المعدة، تُخرسه بما تبقى من طعام البارحة، فلن يضيء ظلامَ بطنك إلا إشراق الثلاجة، ولا يسد خواءه إلا امتلاؤها.
أو كما قال خبراء المساء: إن لبقايا الطعام لذة متأخرة في منتصف الليل، تفوق لذته طازجًا في منتصف اليوم. وأنت تحب أن تتأكد من ذلك بنفسك كل ليلة، غير آبه بالقصاصات والملاحظات التحذيرية المثبتة بالمغناطيس على سطح الثلاجة، فهناك مغناطيس آخر يجذبك إلى ما هو داخل الثلاجة.
هكذا كنت تقضي فائت لياليك، أما هذه الليلة، وعلى غير المعتاد، يظهر أنك على موعد مع سهرة مختلفة، مغايرة لما سبقها من الليالي، فيا لغرابة ما اكتشفته وأنت تجر باب الثلاجة: إن ضوء الثلاجة لم يومض، والنور الذي كنت ترتقب انبعاثه في أرجاء المطبخ والمعدة، لم يشع.
تفتح كامل عينيك، تفرك غشاء النوم عنها، تتوقف فورًا عن التظاهر بأنك تعاني من «السرنمة»، وهي مفردة منحوتة حديثًا تختصر كلمتي سير + نوم، وهي لا تنطبق عليك بالضرورة، لأنك تستفيق كل ليلة بملء إرادتك لاستعراض آخر تحديث لمحتوى الثلاجة.
أنت الآن أمام مشكلة حقيقية، العائق فيها معلوم، وهو انطفاء ضوء الثلاجة، لكن السبب غير مفهوم، وهو ما أدى إلى هذا الخفوت المؤلم.
هل ضرب الآلة يصلح أعطالها؟
ولأنك من جيل مثقف تقنيًا، نشأ وترعرع على أحدث تقنيات ألعاب الفيديو، فأنت تعلم أن مشكلة ضوء الثلاجة لا تختلف كثيرًا عن مشكلة لعبة الفيديو إذا لم تظهر على الشاشة، فلا أحد يساوم على خبرتك السابقة في إصلاح أي عطل طارئ بحيلتين مجربتين:
- اضرب الجهاز
- انفخ الشريط
فهل ستفلح هاتين الوسيلتين في استعادة بريق الثلاجة؟
حيلة ضرب الأجهزة
في ما يخص حيلة ضرب الآلة المتعطلة، فهي حيلة نفسية لا أكثر، غير مجدية تقنيًا ولا تربويًا. أن تستلم الآلة بضرب مبرح وغير مبرح بذريعة توقفها قليلًا عن تنفيذ أمرك، هو ما يطلق عليه شعبيًا بميكانيكا القرود (Ape Mechanics)، لاعتقاد القرد أن الضرب هو الحل الرهيب لاستجابة كل ما لا يستجيب.
وهنا يقول قائل: إن الضرب ساعده ذات مرة في إعادة تشغيل ريموت التحكم في التلفزيون.
نعم، قد يحدث ذلك في حال تراخي البطارية، وعدم وجودها في مكانها السليم. ومع ذلك، يمكنك استبدال اللطف بالعنف، وفك غطاء البطارية لمعاودة تثبيتها بسكينة ووقار.
أنت لا تريد أن تدخل في حرب باردة مع الثلاجة، فلا يليق أن تعامل الثلاجة بثقلها ومقامها كما تتعامل مع «حاكوم»، وهو الاسم الذي اقترحه أهل اللغة لوصف ريموت كنترول التلفزيون، مثلما اقترحوا «ناسوخ» للفاكس، و«حاضون» لللابتوب، و«كاشوف» للرادار، كأنْ تقول لأخيك في المرات القادمة: ناولني الحاكوم من فضلك، وإلا انتزعت منك كعكة المقلاة المحلاة بشراب القيقب.
حيلة النفخ على الأجهزة
أما حيلة النفخ المعهودة التي جربناها صغارًا مع ألعاب الفيديو، وما كانت تتطلبه من تقريب فتحة الشريط ناحية الفم، ثم مط الشفاه إلى الأمام على شكل فوهة، ثم شفط هواء الغرفة شهيقًا وإفراغه بين ثنايا الشريط زفيرًا، من الأعلى إلى الأسفل ذهابًا وإيابًا، فما فتئت شركة نينتندو عملاقة ألعاب الفيديو تحذرنا رسميًا من هذه البدعة المنفوخة، وذلك للضرر المتحصل من تطاير رذاذ اللعاب مع كل نفخة، فتتلف الموصلات الداخلية، وتتآكل الدبابيس الرقيقة، ولا تزيد الشريط إلا بلة، ولكننا ظللنا نتوارث خزعبلة النفث الخفيف والنفخ العنيف أجيالًا وإخوانًا وأصحابًا، اتّباعًا للهواء.
وهكذا على عكس الثقافة السائدة، لم تفلح وسيلتا الضرب والنفخ في إصلاح الثلاجة، وما زالت لمبتها المتعطلة تحرمك من التمتع بالنظر إلى ما تحتويه، وكأنها تصر -حرفيًا- على أن تعاملك ببرود.
هنا تتبدل الحالة الوصفية فورًا: من شاب نائم يبحث عن لقمة، إلى عالِم مختبرات يقتفي خطوات المنهج العلمي للكشف عن سبب تعطل لمبة الثلاجة.
وحيث توجد ثلاجة، فهناك بصيص من نور داخلها، وأمل قريب لالتهام شيء ما.
خطوات إصلاح لمبة الثلاجة
لو سلمنا واستسلمنا جدلًا أنك فعلا تعاني من اضطراب النوم الذي يقودك كل ليلة للسير لا إراديًا نحو الثلاجة، نود تنبيهك إلى أنك تحتاج أن تسير مرة أخرى -بيقظة- على خطوات المنهج العلمي المتعارف عليها، لتستكشف مشكلة المصباح الذي حرمك من نهش وجبتك المتأخرة من الثلاجة، وهي خطوات سنمر عليها سريعا بالترتيب التالي:
(ملاحظة، سؤال، فرضية، تجربة، تفسير، تكرار)
أولًا: الملاحظة
أنت لاحظت أنك فتحت الثلاجة ولكن الإنارة لم تعمل، كعادتها.
ثانيًا: السؤال
وهنا تساءلت: لماذا لم يغمرني نور الثلاجة مثلما يفعل كل ليلة؟
ثالثًا: الفرضية
أما هنا فقد تتنوع الفرضيات، ما بين فرضية خيالية غير قابلة للاختبار، أو فرضية واقعية قابلة للاختبار.
لنبدأ بفرضية خيالية شائقة لا يمكنك اختبارها:
* فرضية خيالية: أخي يتعاقد مع قوى خفية ترسل ظلامها الدامس على الثلاجة كي لا ألتهم كعكة المقلاة المحلاة بشراب القيقب.
أما الفرضية الواقعية التي سنختبرها معًا:
* فرضية واقعية: سلك الثلاجة لا يعمل ويحتاج إلى تغيير.
رابعًا: التجربة
ستجري الآن تجربة على الفرضية الواقعية التي اخترتها في المرحلة السابقة، كي تتأكد من صحتها، أو خطئها.
الفرضية هي: سلك الثلاجة لا يعمل ويحتاج إلى تغيير.
أما التجربة: ستنزع سلك الثلاجة من قابس الكهرباء، وستضع مكانه سلك المايكروويف، لاختبار وصول الكهرباء من عدمه.
النتيجة: المايكروويف لا يعمل أيضًا، إذًا: المشكلة ليست في سلك الثلاجة، بل في كهرباء المطبخ.
خامسًا: التفسير
وهنا ستحلل وتفسر نتيجة التجربة، فعدم استجابة المايكروويف عند توصيله بالكهرباء أيضًا يدل على أنك سارعت في حكمك الشخصي على الثلاجة، فالمشكلة تبدو أنها في كهرباء المطبخ عمومًا.
لذلك ستضيف فرضية أخرى: أن الخلل ربما في كهرباء المطبخ.
وستُلحقها بتجربة أخرى: ستفتح صندوق الكهرباء، لتتأكد من إعادة التيار الكهربائي المفصول.
والنتيجة: لقد تمكنت أخيرًا من إعادة تنشيط تيار الكهرباء عن طريق تحريك مفتاح القاطع الأوتوماتيكي، واشتغلت الثلاجة، وأنارت بضوئها الحنون ليلتك الظلماء.
سادسا: التكرار
وفي نهاية المنهجية الثلاجية، ولمزيد من تأكيد سلامة خطواتك العلمية الست: ملاحظة، سؤال، فرضية، تجربة، تفسير، تكرار، تتطلب منك المرحلة الأخيرة -كما يظهر- أن تكرر التجربة أكثر من مرة، وتعيد اختبار النتائج تارة أخرى، كي تطمئن وأنت تصف المحصلة التي انتهيت إليها من تجربة الثلاجة، بأنها حقيقة علمية صلبة لا تتزعزع.
وها أنت الآن تختم خطواتك العلمية بتكرارها، فتفتح صندوق الكهرباء مجددًا، وتمسك بمفتاح القاطع الأوتوماتيكي، ترفع وتخفض مرارًا وتكرارًا، فيتوقف التيار ويعود ثانية في كل مرة، ومعه تضيء الثلاجة، ويشع المطبخ، وتنير مصابيح المنزل، فيستفيق على إثرها الوالد والوالدة والأشقاء، ويدخلون عليك المطبخ، وأنت منهمك في اعتماد منهجيتك العلمية، ويقترب أخوك نحو الثلاجة المشرعة، وينزع منك كعكة المقلاة المحلاة بشراب القيقب.