ينتشر خطاب تضليلي مؤخرًا يهدف إلى شيطنة العلم الحديث من خلال خلطه بالمعتقدات الدينية، فظهر وصف غريب جدًا هو «نظريات الملحدين»، والمقصود هنا طبعًا نظريات علمية مثل نظريتي الانفجار العظيم والتطور. فهل لهذا المسمى أي معنى حقيقي؟
هل النظريات العلمية نظريات ملحدين؟
لا يبدو لوصف «نظريات الملحدين» أي معنى، فهل تعني مثلًا أنها نظريات اكتشفها ملحدون؟ بهذا المعيار تصبح النظرية النسبية يهودية، وقوانين الجاذبية مسيحية، ولا أحد يقول بذلك.
هل يُقصد بها النظريات التي يتبناها ويروج لها ملحدون؟ كمثال، يعتمد عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكينز كثيرًا على نظرية التطور في أجندته الإلحادية، فهي تمثل له قاعدة مادية للإجابة على الأسئلة الوجودية، أسئلة مثل من نحن؟ ومن أين أتينا؟ وما الهدف من حياتنا؟ هذا جزء أساسي من نظرة دوكينز الفلسفية إلى الحياة، وهي ما نسميه بالطبيعانية الوجودية، بمعنى أنه لا يؤمن إلا بوجود الأشياء والمسببات الطبيعية، و«الإيمان» هنا مهم جدًا.
على الجانب الآخر، فإن نظرة العلم الحديث هي طبيعانية منهجية، أي أن العلم «يفترض» وجود الأشياء والمسببات الطبيعية فقط ليكشف نظام الكون، لكنه لا يستطيع إثبات صحة هذا الافتراض.
نلاحظ هنا أن الطبيعانية الوجودية أساسها إيمان، والطبيعانية المنهجية أساسها افتراض. فالتأثر بنظرية علمية معينة والترويج لها لا يضفي عليها اعتقاد المروِّج، فلا أحد يقول إن نظريات الحسن بن الهيثم مسيحية لأن من تأثر بها وروج لها هم الأوروبيون المسيحيون بعد العصر الذهبي الإسلامي.
وبهذا، فإن منهج دوكينز وغيره ليس مبررًا لوصف النظريات العلمية بأنها نظريات ملحدين.
هل تنفي النظريات العلمية وجود الإله؟
ماذا عن التداعيات الفلسفية والتبعات الفكرية لتلك النظريات؟ ألا تُقر نظرية الانفجار العظيم بأن الكون أتى نتاج الصدفة، وهذا ينفي وجود إرادة إلهية؟ ألا تَعتبر نظرية التطور أن وجود الإنسان عبثي، مما يتنافى مع كل ديانة على وجه الأرض؟ ألا يجعل ذلك تلك النظريات إلحادية؟ لا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة إلا بفهم بعض أسس العلم الحديث.
يرتكز العلم الحديث على عدة افتراضات، منها:
- الطبيعة نظام
- لكل سبب مسبِّب طبيعي فقط، والباب مغلق أمام أي تفسير خارق (الطبيعة نظام معلق إبستمولوجيًا)
- كل ما هو موجود في الطبيعة لا يمكن أن يأتي من العدم أو يختفي إلى العدم (الطبيعة نظام مغلق أنطولوجيًا)
الآن لنتساءل، علميًا، هل هناك سحر أو معجزة؟ هل هناك جن أو ملائكة؟
إذا اعتبرنا أن في المعجزة أو السحر خرقًا لقوانين الطبيعة، فهذا يعني عجز العلم عن إثبات أو نفي وجودهما بسبب الافتراض الثاني (غلق الباب أمام التفسير الخارق). ولو اعتبرنا أن للملائكة أو الجن تأثيرًا ماديًا، لحظيًا أو مؤقتًا، يختفون فيه بعدها من عالم المادة، فإن هذا يجعلهم مباشرة خارج أسوار العلم بسبب الافتراض الثالث (كل ما هو موجود في الطبيعة لا يمكن أن يأتي من العدم أو يختفي إلى العدم). العلم هنا عاجز عن الإجابة على السؤال، مثلما أن الآلة الحاسبة عاجزة عن الإجابة على سؤال: هل هناك أضرار للتدخين؟
وإذا ما أخذنا بالقصص الدينية لنزول آدم من الجنة كأول إنسان له وعي، واعتبرنا أن الجنة منفصلة تمامًا عن عالم الأرض السفلي، فإن العلم هنا يصبح مباشرة عاجزًا عن إثبات وجود آدم أو حتى إنكار خلقه المنفصل بسبب الافتراضين الثاني والثالث. لو افترضنا جدلًا بأنه عُثر على الهيكل العظمي لآدم، فإن العلم هنا يتعامل مباشرة مع هذه المادة باعتبارها تحولًا طبيعيًا من مادة أخرى، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكون وجودها أو تكوينها قد حدث بتدخل خارق. الوعي أيضًا لا يمكن تفسيره علميًا إلا بتكوُّن وتحوُّل طبيعي، بسبب الافتراضات التي يقوم عليها العلم الحديث.
لاحظ أن افتراض فكرة معينة لا يعني حقيقتها، وما بُني على باطل قد يكون صحيحًا. افتراض غياب تدخل اليد الإلهية في السياق العلمي لا يشترط حقيقة ذلك، فليس بإمكان العلم الحديث إثبات ولا نفي وجود إله.
هناك قصة شهيرة سأل فيها نابليون عالم الرياضيات لابلاس: «سمعت أنك ألفت كتابًا كبيرًا يفسر نظام الكون، لكنك لم تذكر الرب فيه ولا مرة»، فأجاب لابلاس: «لم أكن بحاجة إلى تلك الفرضية».
بغض النظر عن صحة القصة، فهي تَذكر أساسًا مهمًا في العلم الحديث، وهو التعامل مع العالم الطبيعي بمادية مطلقة. إذا كان غياب الدور الإلهي «المباشر» في نظرية الانفجار العظيم يعني أنها نظرية إلحادية، فهذا يعني أن كل نظرية علمية أخرى درستها هي نظرية ملحدين، وهذا ربط غير معقول. قوانين نيوتن مثلًا تفترض سببية مادية وغياب أي عناية إلهية، وتفترض كذلك أن الأشياء تسير بعبثية دون غاية.
نظريات المؤمنين
كلمة «نظام» في الافتراض الأول، الذي يقول إن الطبيعة نظام، تستحق وقفة خاصة لما فيها من دلالات. فالطبيعة والكون يسيران بانتظام، وإلا فلا قيمة لمسعى المنهج العلمي (النظام هنا يختلف عن الترتيب، فالنظام موضوعي والترتيب نسبي. يسمح النظام للراصد بالفهم والتنبؤ، بينما يعتمد الترتيب على ذائقته. نحن نعرف مواعيد الكسوف بدقة كبيرة لأن حركة الأجرام السماوية منظمة، وليس لأنها مرتبة بتناظر معين في السماء).
قد يستدل أحدهم من ذلك على وجود منظِّم أحكم صنع الكون، وهذه مسألة إيمانية لا إشكال فيها. لكن على نفس المعيار الذي أطلق مصطلح «نظريات ملحدين»، يمكننا استخدام افتراض وجود نظام لوصف النظريات العلمية بأنها «نظريات مؤمنين». بهذا المعيار يمكننا القول بأن قوانين الجاذبية هي قوانين مؤمنين لأنها تفترض وجود نظام في الكون، ونظرية التطور نظرية إيمانية تدل على وجود خالق لما فيها من نظام، فحتى التنوع العشوائي لا يمكن أن يخرق قانونًا طبيعيًا واحدًا.
يبقى هناك تساؤل مهم: ألا يمكن للعلم الحديث رصد أي حدث خارق للطبيعة؟ هناك تحدٍّ شهير للاعب الخفة المعتزل «جيمس راندي»، يعرض فيه جائزة قدرها مليون دولار لمن يثبت وجود أي ظاهرة ماورائية أو قدرة خارقة وفق معايير علمية متفق عليها مسبقًا، ولم يفز أي أحد بالجائزة.
لا شك أن راندي أعلن عن التحدي لأنه يعرف الحيل التي يستخدمها الدجالون لخداع الناس، كونه لاعب خفة سابق. لكن لنفترض جدلًا أن أحدهم نجح في الاختبار واستطاع مثلًا تحريك الأشياء عن بعد باستخدام يديه على مرأى الجميع، هل ينهار العلم الحديث هنا أمام هذه الظاهرة؟
في الحقيقة، علمية الرصد ليست سوى خطوة أولية، والتعامل مع الظاهرة هو ما يحدد ما إذا كان المنهج علميًا. إذا ما أردنا فهم الظاهرة بشكل علمي، فإن هذا يفرض علينا اعتبارها ظاهرة طبيعية لها أسبابها الطبيعية وأنها تسير وفق نظام ثابت يمكن كشفه (الافتراضات الثلاثة). يمكن أن يكون تحريك الأشياء قد تم بقدرة خارقة فعلًا، لكن التحليل العلمي سيتعامل تلقائيًا مع الظاهرة على أن لها سببًا ماديًا بحتًا ما زال مجهولًا.
في مثال آخر، أرسلت وكالة «ناسا» مطلع السبعينيات مركبتين فضائيتين شهيرتين («Pioneer 10» و«Pioneer 11» لاستكشاف المجموعة الشمسية، لكن المركبتين انحرفتا عن مساريهما بشكل غريب جدًا في ظاهرة عجز العلماء عن تفسيرها. المنظور العلمي يحتِّم على العلماء افتراض وجود سبب مادي لما حدث للمركبتين، فملاحظة الظاهرة الغريبة ليست إلا خطوة أولى. يمكن أن يقول أحدهم إن الجن هم من دفعوا المركبتين، لكن المنظور العلمي لا يرى إلا سببًا طبيعيًا وراء انحراف المركبتين ينتظر الكشف فقط.
ولعل أفضل مثال في العلاقة المضللة بين الدين والعلم هو نظرية الفوضى، التي وصلنا إليها من خلال قوانين منظمة، فهي تؤكد أن حدوث تغييرات أولية بسيطة قد يؤدي إلى تغييرات كبيرة معقدة تبدو كأنها عشوائية أو فوضوية (يمكن لرفرفة فراشة في قارة أن تتسبب بإعصار في قارة أخرى). قد يقول أحدهم بأن ذلك يدل على أن الفوضى التي نراها ليست سوى نتاجًا لنظام محكم، فهي إذاً نظرية مؤمنين، وقد يقول آخر بأنها تدل على أن العالم يسير دون عناية ولا توجيه نحو الفوضى، فهي نظرية ملحدين، والعلم الحديث بريء من النظرتين.