سألوه يومًا: «لمن تنتسب؟»، فقال: «إني لا أعرف لي أبًا في الإسلام، أنعَم الله عليَّ بالإسلام، فأنا سلمان ابن الإسلام».
سلمان الفارسي، الصحابي الذي اكتسب مكانة في الموروث الديني لمختلف الطوائف الإسلامية. فعند السُّنة هو الصحابي الجليل «سابِق الفُرس»، الذي هجر بلده وأهله بحثًا عن «دين الحق». الرجل الذي قيل إن الجنة تشتاق إليه، وتُساق إليه الحور العين. وعند الشيعة هو الذي قال عنه النبي محمد: «سلمان منا أهل البيت»، وهو الذي رأى الخلافة من حق آل البيت عندما قال تعليقًا على خلافة أبي بكر: «أصبتم ذا السن، وأخطأتم آل بيت نبيكم». والصوفية يُعدُّونه من الآباء الأوائل لمدرسة الزهد في الدنيا وفتنتها، ورفض الإمارة وإغراءاتها.
يقول عبد الرحمن بدوي، في كتابه «شخصيات قلقة في الإسلام»، إن قصة سلمان من الأطول بين أخبار الصحابة، وهناك ثماني قصص عن حياته قبل الإسلام، منذ كان في بلاد فارس حتى أسلم في المدينة.
القارئ عن سلمان يدرك أنه بالفعل شخصية مثيرة للفضول في ما يخص تلك الفترة قبل إسلامه، والرحلة التي شغلت مرحلة مهمة من حياته منذ كان في أصفهان حتى انضم إلى جماعة المسلمين في المدينة.
سلمان الفارسي: البداية
هناك رواية اعتمدها أغلب من تناولوا شخصية سلمان الفارسي، منهم عبد الحميد جودة السحار في سلسلته «محمد رسول الله والذين معه»، والشيخ خالد عبد الرحمن العَك في موسوعة «عظماء حول الرسول»، نقلًا عن من أرَّخوا له، وعلى رأسهم الإمام الذهبي في «سِيَر أعلام النبلاء»، والمؤرخ ابن الأثير في «أُسْد الغابة في معرفة الصحابة».
تقول الرواية إن سلمان كان ابن «دُهقان» (عمدة) قرية من قرى أصفهان ببلاد فارس، وحيد أبيه الذي كان شديد التعلق بابنه إلى حد أنه، بحسب قول سلمان، حبسه في البيت كالجارية. اسمه الفارسي كان «مابه بن بوذخشان»، وفي رواية أخرى «روزبه بن مرزبان»، ومرزبان كلمة فارسية تعني «مُحافظ البلد».
جذبت المسيحية اهتمام سلمان، وصارح أبيه بذلك، فحاول الأب إقناعه، ثم يئس فقيَّد قدميه بالحديد خشية فراره إلى الكنيسة.
اختلف الرواة حول ديانة سلمان قبل تركه بلاده، فقال بعضهم إنها المزدكية، وقال غيرهم إنهم كانوا يعبدون الخيل، وأجمع الباقون أنه كان على دين أهل فارس، أي المجوسية، وهي تسمية خاطئة شائعة، فالدين الغالب في فارس كان الزرادشتية. أما المجوسية ففرقة منشقة عنها، يرجع اسمها إلى فئة من الكهنة اسمها «ماجي»، اشتُقَّت من اسمهم كلمة «Magic» الإنجليزية، أي السحر.
الأرجح أنه كان على الزرادشتية. فالرواية تقول إنه كان من المتدينين، حتى كان «قاطن النار»، أي ذلك الذي يلازمها حتى لا تنطفئ، وهو ما يشير إلى الزرادشتية (النار في الزرادشتية مجرد عنصر مقدس كالماء والتراب والهواء، وليست معبودة لذاتها بعكس الشائع). أما المزدكية فكانت قد انتهت منذ زمن، وكانت دينًا «مغضوبًا عليه رسميًّا»، وأما عبادة الخيل فلم نسمع بها في فارس.
ذات يوم، انشغل أبو سلمان بمتابعة بناء له، فأرسل ابنه ليتفقد إحدى ضياعه، وعند عودته مر سلمان بكنيسة (كانت بفارس نسبة من المسيحيين أغلبهم على المذهب النسطوري)، فسمع صلاتهم حتى جذبت اهتمامه، فسأل عن أصل هذا الدين، فقيل له: «الشام»، وانجذب إلى المسيحية. وعند رجوعه إلى أبيه صارحه بذلك، فحاول الأب إقناعه بأن «ديننا خير من دينهم»، حتى إذا ما يئس من ذلك حبسه في البيت، وقيَّد قدميه بالحديد خشية فراره إلى الكنيسة.
يبدو لنا هنا أن تسارع الأحداث غير منطقي وشديد السذاجة، فلا تكفي زيارة واحدة عابرة إلى كنيسة وبضعة أسئلة حتى ينجذب رجل متدين متشدد إلى دين آخر ويقرر اعتناقه.
كان سلمان قد طلب من أهل الكنيسة أن يخبروه إذا ما حان موعد ارتحالهم إلى الشام، فلما آن الأوان نجحوا في إبلاغه، فاستطاع تحرير قدميه والانطلاق معهم.
الأسقف الفاسد والأسقف الصالح
عند وصول سلمان إلى الشام سأل رفاقه عن أعلمهم ليتعلم الدين على يديه، فأشاروا إلى أسقف الكنيسة، فالتزمه وراقبه، فلاحظ أنه فاسد يأمر الناس بالصدقة، ثم يختلس من الصدقات.
خلف هذا الأسقف رجل غيره، راقبه الفارسي حتى تأكد من صلاحه، فتقرب منه، فلما احتضر قال لسلمان إنه «لم يعد على هذا الأمر غير قليل، فإن الناس قد بدلوا الدين، ولا أعرف من بقي عليه إلا رجل صالح من أهل الموصل (في العراق)، فأنا أوصيه عليك».
بعدما مات الأسقف ارتحل سلمان إلى الموصل، وقدم نفسه إلى صديق الأسقف فضمه إليه ورعاه، حتى إذا حضرته الوفاة أعاد على سلمان ما قال الأسقف الشامي، وأوصاه بالارتحال إلى عمورية (في تركيا)، حيث يضمه صديق له.
تكررت الرحلة، وكذلك تكرر مشهد احتضار الأسقف، الذي قال لسلمان هذه المرة: «إنني لا أعلم أحدًا بقي على هذا الأمر، ولكن رجلًا من العرب يخرج في أرض بين حَرَّتَين (الحرَّة: الحجارة السوداء الناتجة عن براكين قديمة) بهما نخيل، هو على دين إبراهيم، علاماته ثلاثة: لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة».
كان سلمان قد تاجر واكتسب مالًا اشترى به أبقارًا وأغنامًا، فبقي في عمورية فترة حتى صادف عربًا من بني كلب، فعرض عليهم أن يعطيهم قطيعه مقابل أن يحملوه معهم إلى بلادهم، فوافقوا. وبينما هم في الطريق غدروا به، فأسروه، ثم في منطقة وادي القرى (على الطريق بين الشام والمدينة) باعوه عبدًا لرجل يهودي.
من العبودية إلى الحرية
انتظر سلمان فرصة ليرى خاتم النبوة، فلاحظ الرسول ذلك واستنتج ما يبحث عنه، فألقى الرداء قليلًا عن ظهره.
وجد سلمان في تلك البلاد نخيلًا، فميَّز أنها الأرض المقصودة، وبعد فترة من استرقاقه زار مالكَه ابن عم له من بني قريظة، فاشتراه منه، وحمله معه إلى المدينة، حيث رأى سلمان الحجارة السوداء والنخيل، فأيقن أنه قد بلغ أرض ذلك النبي المنتظَر.
مرت فترة استسلم فيها الفارسي لحياة العبودية، حتى جاء يوم كان يتسلق فيه نخلة يعمل عليها وسيده جالس تحتها، فقدِم بعض أقرباء سيده، وقالوا له: «قاتل الله بنو قيلة (كناية عن الأوس والخزرج)، إنهم مجتمعون على رجل يقول إنه نبي من الله».
يقول سلمان عن تلك اللحظة إنه أصابته رعدة عنيفة كادت تُسقِطه فوق سيده، فنزل مسرعًا، وسأل الرجل: «ماذا تقول؟»، فلكمه سيده، وأمره أن يعود إلى عمله.
بعدما انتهى من العمل حمل بعض الثمار مما جمع من أجره (في المدينة كان يمكن للعبد أن يحصل على أجر)، وبحث عن الرسول محمد حتى وجده، فتقدم منه، وقدَّم له الثمار قائلًا: «أنتم قوم مساكين، وقد جئتكم بشيء من الصدقة»، فقال الرسول لأصحابه: «كلوا»، ولم يأكل هو. فقال سلمان في سره: «هذه واحدة».
في اليوم التالي جاءه بثمار، وقال له: «قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أردت إكرامك بها». فأكل منها الرسول، فكانت العلامة الثانية.
انتظر سلمان فرصة ليرى خاتم النبوة (مثل شامة أو علامة لحمية على غضروف الكتف)، ثم ذات يوم كان الرسول يسير في جنازة، فتبعه سلمان وحاول استراق النظر إلى ما بين كتفيه، فلاحظ الرسول ذلك واستنتج ما يبحث عنه، فألقى الرداء قليلًا عن ظهره، فرأى سلمان الخاتم، فقبَّله وبكى. فسأله الرسول عن خبره، فروى قصته.
أمره الرسول بالمُكاتبة ليتحرر (المكاتبة نظام كان يسمح للعبد أن يشتري حريته مقابل ما يحدده السيد)، فقرر عليه سيده أن يغرس 300 نخلة، وأن يقدم له 40 أوقية من الذهب.
جمع الصحابة أفراخ النخل، وحفر لها سلمان، فأدوا هذا الجزء من المكاتبة. ثم يومًا ما طلبه الرسول، وكان قد عاد من غزوة وغنم منها قطعة ذهبية بحجم البيضة، فقدَّمها إلى سلمان وأمره بإعطائها إلى سيده، فاستبعد سلمان أن تزن الوزن المطلوب، لكنها بلغت 40 أوقية بالفعل.
هكذا عاد سلمان حرًّا، وحرص على المشاركة في كل الغزوات بدءًا بالخندق الذي يرجع إليه اقتراح حفره، وباقي قصته كصحابي يمكن الاطلاع عليها في كتب سير الصحابة، مثل «أُسد الغابة» و«سِير أعلام النبلاء» سالفَي الذكر. لكن ما يعنينا هو تلك المرحلة «غير الشائعة» من حياته.
روايات أخرى عن سلمان
الرواية السابقة هي الأشهر والأرجح، لكنها ليست الوحيدة. فهناك إضافة تقول إن آخر أسقف تعلم سلمان على يديه قال له: «إذا رأيت رجلًا يداوي أسقام الناس، فاسأله عن الدين الذي تبحث عنه»، فترقب سلمان ذلك، فوجده، فسأله، فقال له إن في بلاد العرب نبيًّا قد جاء زمانه. ولما روى سلمان ذلك للرسول محمد أجابه: «لئن كنت صَدَقتني (أي قلت الصدق)، فإنك قد رأيت بعض حواري عيسى بن مريم». وهي قصة تفترض أن أحد الحواريين بقي على قيد الحياة حتى بِعثة النبي محمد.
رواية أخرى نقرؤها في «سِير أعلام النبلاء» للذهبي، و«شخصيات قلقة في الإسلام» للدكتور عبد الرحمن بدوي، تزيد من عدد تنقلاته بين المدن، فتذكر منها دمشق وحِمص ونصيبين وعمورية (في تركيا) والموصل وبيت المقدس، وتصل إلى ذكر أنه تعلم على أيدي 13 أسقفًا.
وفي كتاب الذهبي (الأكثر ثراءً بالروايات والتفاصيل عن سلمان) حكايات تخرج عن تلك المشهورة، فتقول إنه كان له رفيقان في صباه يتعلمان على يد رجل دين مسيحي، فتعرَّف إليه، واعتنق المسيحية على يديه، ثم أخبره الرجل عن نبوة محمد المنتظرَة، إلى آخر القصة.
وهناك رواية تجعل إسلامه في مكة، ومعرفته ببعثة محمد كانت على يد جارية فارسية عجوز من أصفهان. ورواية ثانية تجعل تعليمه الديني على يد رجل له نفس سمات الصوفية، فهو يختفي ويظهر وله كرامات. وأخرى تقول إنه لم يكن ابن أسرة نبيلة، بل كان يتيمًا يعطف عليه بعض النبلاء.
أغرب هذه الروايات تذكر أنه حين توفي سنة 36 من الهجرة/656 من الميلاد في عهد عثمان بن عفان، كان عمره 350 أو 250 عامًا، وهو ما يعلق عليه عبد الرحمن بدوي قائلًا إن «بعضهم أراد أن يُظهِر أنه قد عاصر المسيحية والإسلام».
في كل الأحوال، فإن مختلف روايات حياة سلمان الأولى تنطلق من الرمزيات، فبدايةً من فكرة «ابن النبلاء الذي هجر النعيم بحثًا عن الحقيقة الإلهية»، نقرأ مثلها في رواية الثعلبي النيسابوري عن شخصية «الخضر» في كتاب «عرائس المجالس»، الذي مر هو أيضًا بفترة عبودية على حد تلك الرواية. ونراها في نموذج القطب الصوفي إبراهيم بن أدهم في الأدبيات الصوفية (راجع «موسوعة الصوفية» للدكتور الحسيني معدِّي). بل إن لها جذورًا غير إسلامية في شخصية «غوتاما/بوذا» نفسه.
ارتباط شخصيته بعدد من المدارس الفكرية الإسلامية جعل لحياته أبعادًا متنوعة، ليتناوله كل فكر من الزاوية التي تخدم ارتباطه به.
سلمان الفارسي «حالة» تستحق الدراسة، وبخاصة أن حياته قبل ما يمكن وصفه بـ«دخوله مسرح الأحداث في الإسلام» لا تقل إثارةً عما بعد ذلك.