في عام 2004، كنت طفلًا دون الثانية عشرة، وكنت أسمع عن روبي أحاديث مبتورة، ولم أكن أفهم أو أهتم، حتى اليوم الذي كنا ننتظر فيه «الميس» لأخذ حصة درس اللغة الإنجليزية. وذلك حين كانت زميلتي عفاف (من القلائل الذين يمتلكون الدش في منازلهم)، تتحدث مع بقية البنات حول شيء ما لم أتبينه، إلى أن قالت فجأة بلهجة متأثرة جذبت انتباهي تلقائيًّا: «أومال لو شفتوا يا بنات اللي بتعمله روبي ع الدش؟».
هذه الجملة تقريبًا ألهبت خيالي إلى الحد الأقصى، ولم أتشجع لأسأل عفاف بشكل مباشر عن «الذي تفعله روبي ع الدش»، لأني شعرت أن في الأمر شيئًا لا يجب أن نتحدث حوله صراحة.
في الإجازة الصيفية، كان زميل لي يعمل في مقهى فترة الصباح والظهيرة، فكنت أذهب عنده لمشاهدة القنوات الفضائية، وفي بالي جملة عفاف المؤثرة، ولم يكن صعبًا أن أصادف روبي على شاشة إحدى هذه القنوات. بالفعل رأيتها، وأدركت أخيرًا «اللي بتعمله روبي ع الدش».
انقلاب
كانت في التاسعة عشرة تقريبًا حينما شاركت بدور قصير في «فيلم ثقافي»، ليختارها يوسف شاهين بعد عامين، مطلقًا عليها اسم روبي، بدور كبير في فيلمه «سكوت هنصور». لكن هذه الفرصة لم تلفت إليها النظر كما يجب. الفيلم كله لم يلفت النظر بأي شكل.
أتت الفرصة على يد دكتور في الهندسة ومخرج اسمه شريف صبري، الذي أطلق ظاهرة روبي إلى الفضاء لتشغل أذهان الناس وعقولهم من وقتها حتى الآن، عندما أخرج لها عام 2003 كليب أغنية «أنت عارف ليه»، ولأول مرة تظهر مطربة مصرية ترقص ببدلة رقص شرقي في الشارع، في فيديو كليب.
ثورة إغراء لبنانية
مروة وماريا وقمر ودومينيك وهيفاء وهبي وإليسا ونجلاء سيدة الحصان، وغيرهن من الفنانات اللبنانيات والعربيات اللائي غزون حقبة مطلع الألفية الثالثة بثورة في عالم الفيديو كليب، تناقض منهج التسعينيات القديم، والذي كان يعتمد على القصة الدرامية.
قاد هذه الثورة مخرجون لبنانيون أيضًا كانوا متأثرين بقناة «MTV» الشهيرة، متطلعين للسير على نهجها. كل هؤلاء الفنانات اللائي تنحين عن الساحة لاحقًا، وأكلتهم العولمة كما بصقتهم، بعد طوفان الإنترنت وإغلاق القنوات التي كانت صالة عرضهم الأثيرة والقائمة على إنتاج كليباتهم وتمويلها بالملايين، وعدم ادخار أي جهد في السفر إلى أي بقعة في العالم من أجل إنتاجها.
من أهم قادة هذه الثورة مخرجون مثل: طوني أبو إلياس وسليم الترك وسعيد الماروق، والأكثر إثارة للجدل بينهم جاد شويري.
فتحت الصحف صفحاتها للنقاد بهدف مهاجمة روبي، ووصل الجدل إلي البرلمانات العربية لدرجة أن نائبًا كويتيًّا علَّق على مؤخرتها في عام 2005.
على الرغم من ذلك، ظل كل هؤلاء يعامَلون ككتلة واحدة تتحرك في اتجاه واحد، بينما كانت روبي تتحرك في اتجاه مشابه. لكن بعيدًا عن هذا السرب، منعزلة عن القطيع، متفردة بأسلوبها وطريقتها ورقصها وغنائها، ليس لأنها المصرية الوحيدة وسط طوفان اللبنانيات، ولكن لأنها الشبيهة بفتيات الطبقة الوسطى والجامعات، وسريعًا تشكل الوعي الجمعي بإسقاط الذعر الذكوري بأكمله من نزوات على روبي، كأنه محاكمة مسبقة احترازية لكل فتيات مجتمعاتنا.
شبح يهدد العرب
فتحت الصحف والمجلات صفحاتها على مصاريعها للنقاد، بهدف مهاجمة هذه الثورة وتوجيه حملات شعواء ضدها، واحتشدت القنوات لمواجهتها، ووصل الجدل إلى المقاهي والشوارع والبيوت. بل وصل الأمر إلى البرلمانات العربية، لدرجة أن نائبًا كويتيًّا علَّق على مؤخرتها في عام 2005، ومفكر كبير بحجم عبد الوهاب المسيري، كتب مقالًا كاملًا عنها، واصفًا إياها بإحدى نماذج التأثر بالحداثة الغربية.
أجرت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، استطلاعًا للمقارنة بين روبي ونانسي عجرم التي ملأت الدنيا أيضًا بكليبها الأجرأ «أخاصمك آه». وانحاز جميع المتابعين إلى نانسي، بما فيهم المسيري الذي وصفها في مقاله بالأكثر براءة، والأقل إثارة للغرائز، بينما تحامَل على روبي قائلًا إنها تتعمد استخدام رموز جنسية وجرأة غير مسبوقة.
اقرأ أيضًا: واعمل حساب الشقلبة: الإباحية أصيلة في الغناء المصري
ردود أفعال رسمية
انتقلت حمى روبي من الصحافة إلى الساسة وصناع القرار، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي بأكمله. ورفع المحامي نبيه الوحش، عام 2004، دعوى قضائية ضد روبي لشطب اسمها من نقابة المهن الموسيقية، مختصمًا معها حسن أبو السعود، نقيب الموسيقيين في ذلك الوقت. وفي عام 2007، صدر حكم المحكمة بقبول الدعوى وشطب روبي من نقابة المهن الموسيقية المصرية.
إثر هذا الإجراء، قرر نقيب الفنانين السوريين الممثل صباح عيد، منع روبي مع إليسا وهيفاء وهبي من الغناء في سوريا، مبررًا ذلك بأنه يهدف إلى الحد من «التلوث الأخلاقي» على حد تعبيره.
ربما أبسط بكثير
«مش عايزة أثبت أي حاجة، أنا محتاجة أعبر عن نفسي، يعني بسمع آه نقد وكدا، لكن محتاجة أعبر عن نفسي، هعبر عن نفسي ولا أعبر عنهم هما؟ أنا مقتنعة باللي أنا بعمله».
كانت هذه إجابة روبي ببساطة شديدة وبأقل قدر من الحذلقة، حين سألتها المذيعة منى الشرقاوي في حلقة «البيت بيتك» عام 2007، بعد غنائها الحي في الاستوديو لأغنية «مش هتقدر»، من كلمات عصام عبد الله، والتي فجرت فيها روبي طاقة طربية هائلة عن محاولتها إثبات أنها موهبة غنائية، وليست مجرد شكل جميل وجسد مغرٍ أو أداء استعراضي رائع فحسب. بدت روبي أبسط بكثير من تلك الهالة التي يحيطونها بها.
سألتها منى الشرقاوي في الحلقة نفسها، عن فترة التجهيز لألبوم «مشيت ورا إحساسي»، والتي كانت ثلاث سنوات، أجابت روبي: «يا ريته يكون أطول. عشان الوقت نفسه اللي الحاجة اللي بتتعمل فيه ممتع أكتر وأطول من الحاجة لما بتنزل فيه، بتبقى خلاص نزلت وخلصت، الناس بعد كده هي اللي بتستمتع، إنما أنا متعتي خلصت، قبلها أنا اللي بتبسط وأنا بغني وأنا بسجل».
يبدو أنها كانت بالفعل تعبر عن نفسها، وتستمتع بتقديم فنها بغض النظر عن تقبل الناس من عدمه، ويبدو أنها لم تكن طالبة شهرة أو مجد أو انتشار، بل متعة في عمل ما أرادت طوال الوقت فعله. إنها بعيدة كل البعد عن إثارة الضجة والهالة التي حولها طوال الوقت، وهذا ما قالته في الحلقة.
7 ورقات كوتشينة
بعد أغانيها الخفيفة والجميلة والممتعة، بداية من «أنت عارف ليه»، ومن بعدها الكليب الأشهر «ليه بيداري كده»، أراد شريف صبري إقحام روبي في الساحة السينمائية، بفيلم «7 ورقات كوتشينة» عام 2004، وبدت روبي أقل استعدادًا لهذه الخطوة التي لم يخطَّط لها جيدًا، بل ولم تستفد حتى من أغاني الفيلم.
بددت روبي فرصة الالتفات إليها كموهبة غنائية تجلت في أغنية «أنا عمري ما استنيت حد»، بأغنية أقل قدرًا من المتعة البصرية والسمعية، وهي «كل ما أقوله آه.. يقوللي هو لأ». بمعنى أدق، خرجت روبي من تجربتها التمثيلية الأولى خالية الوفاض، وكان الفيلم عبارة عن كليب طويل لروبي.
التطبيع مع تلفزيون الدولة
مع ظهور كليب «يا الرموش» الذي خرجت به روبي من عباءة شريف صبري، أصبحت وجبة رئيسية في فواصل التلفزيون وفرضت نفسها على المشاهدين.
إلا أنه بعد ظهور روبي في حلقة من حلقات برنامج «سكوت هنغني»، الذي كانت ترعاه وكالة «الأهرام» للإعلان مع المذيعة مفيدة شيحة، ثم ظهورها عام 2007 في البرنامج الأكثر أهمية وقتها «البيت بيتك»، صار هناك نوع من التطبيع بين روبي والتلفزيون، وأصبح هناك شبه تواطؤ من المسؤولين حول وجودها، وأصبح كليب «مشيت ورا إحساسي» يُعرض صباحًا ومساء، لا سيما مع ظهور روبي على غلاف مجلة «باري ماتش» الفرنسية، بوصفها «لؤلؤة النيل التي تغني للحرية».
لم يعد هناك مبرر للتجاهل، على الرغم من استمرار منع عرض الفيديو كليب الخاص بأغنيتي «ليه بيداري كده» و«أنت عارف ليه»، كأن التلفزيون فتح صفحة جديدة مع روبي معترفًا بها مطربة وابنة شرعية للغناء. ومع ظهور كليب «يا الرموش» في عام 2008، التي خرجت فيه روبي أخيرًا من عباءة شريف صبري، أصبحت وجبة رئيسية في فواصل التلفزيون المصري، واستطاعت أن تفرض نفسها على المشاهدين.
قد يهمك أيضًا: «هز الخصر» كفعل مقاوم للفكر الذكوري في تونس
تغيير الجلد
أعطى تامر محسن قبلة الحياة التلفزيونية لروبي حين أعاد اكتشافها في مسلسل «بدون ذكر أسماء»، لتبرز مواهبها التمثيلية.
ظلت روبي تغير ببطء صورتها النمطية كرمز للإغراء والابتذال الجسدي، وعنصر محرم دخوله إلى الأسرة. فبعد كليب «يا الرموش»، وإنقاذ نفسها من الوقوع في هوة النسيان مع زميلاتها من أعضاء حملة «الجسد أولًا وأخيرًا»، اختيرت لغناء أغنية الفيلم الأضخم تكلفة «ليلة البيبي دول»، ما دفعها إلى مصاف النجوم، وجرى التصالح بشكل أكبر مع رقصها، خصوصًا أن التراث يمتلئ بالراقصات اللائي يحصلن على قدر كبير من الاحترام.
بمرور الوقت، ومع انتشار الإنترنت وفرض الشباب ثقافتهم الجديدة والحراك الثقافي قبل الثورة، أصبحت ملابسها بسيطة وغير مزعجة، وانتبهت للتمثيل، موهبتها الأولى، وقدمت فيلمًا مهمًّا من تأليف وحيد حامد، هو «الوعد»، مع آسر ياسين ومحمود ياسين والمخرج محمد ياسين.
اختارها المخرج خالد الحجر بطلة في فيلم «الشوق» الذي دفع بالنقاد للمرة الأولى إلى الاعتراف بها ممثلة ذات أهمية. ثم أعطاها تامر محسن قبلة الحياة التلفزيونية، حين اكتشفها من جديد في مسلسل «بدون ذكر أسماء» لتبرز مواهبها التمثيلية، وتدخل البيوت من أوسع أبوابها، وهي الدراما التلفزيونية، لتقدم بعدها دور الخادمة في مسلسل «سجن النسا»، الذي ترك أثرًا بارزًا في المشاهدين، وأخيرًا أصبح هناك اعتراف بروبي الفنانة الحقيقية.
يوتيوب: توثيق التطور
علاقة الإنترنت بالثورات العربية «تكاملية». فمثلما خرج الثورات العربية من رحم الإنترنت، أصبحت مواقع التواصل مساحة تعبير للشباب الذين أبوا التسليم بثوابت الآباء والأجداد وإعادة صياغة المفاهيم من جديد. شخص مثلي في منتصف العشرينيات من عمره، رأى ما تفعله روبي على الدش في طفولته، ورأى ما يقوله الناس حولها على الإنترنت، سيتفهم كيف تطورت صورة روبي بهذا الشكل.
لو شاهدنا أي كليب مما تعامل معه المشاهدون معاملة المواد الإباحية، قبل خمسة عشر عامًا، سنجد تعليقات مبتهجة وفرحة بهذه الفتاة التي كانت تلقى مشاعر مضطربة لدى الجيل الحالي، بين الرفض الأسري لها والهجوم المتواصل عليها واعتبارها مارقة وفاجرة من جهة، ومتعتهم البصرية والسمعية بها من جهة أخرى. وكلما مرت عليها الأعوام ازدادت جمالًا.
شكلت روبي طفولة جيلي ومراهقته، ويكفي أن أكثر من 17 مليون مشاهدة سجلتها نسخة واحدة من كليب «ليه بيداري كده» على يوتيوب، مع كثير من التعليقات المتباكية على الأزمنة الغابرة وأيام الطفولة والمراهقة، في سيمفونية امتزج فيها الحنين بالإعجاب بالحب بالشجن، بأشياء كثيرة ناتجها النهائي هو محبة روبي الغامرة.