يقول الأديب البريطاني ذو الأصول اليابانية «كازو إيشيغورو»، الحائز على جائزة نوبل في الأدب في عام 2017 في إحدى مقابلاته عن الفترة التي كتب فيها روايته الأشهر: The Remains of the Day
«ألغيت كل ارتباطاتي بصورة صارمة لأربعة أسابيع، وانخرطت فيما أسميناه (المعسكر). وخلال فترة المعسكر تلك لم أفعل شيئًا سوى الكتابة من التاسعة صباحًا حتى العاشرة والنصف مساء كل يوم، من الاثنين إلى السبت. خصصت ساعة واحدة للغداء وساعتين للعشاء. ولم أكن أقرأ البريد، ناهيك عن أنني لم أكن أرد عليه أو أقترب من الهاتف. ولم يأت أحد للزيارة في المنزل».
لم يكن هاتف آيفون قد رأى النور في عام 1987 عندما ألف روايته، فلعل هذا من الأسباب التي ساعدت «إيشيغورو» على التركيز في كتابة روايته دون تشتت، حسب كاتب المقال الذي يقول إنه اكتشف منذ ثلاث سنوات أن أفضل الأوقات التي يستطيع فيها الكتابة هي تلك التي يكون مسافرًا فيها على الطائرة، إذ ينقطع الاتصال بشبكة الإنترنت ما يسمح له بالقيام بأشياء كثيرًا ما يؤجلها.
يستعرض الكاتب في مقال نشر على موقع medium.com الأسباب التي تدفعه إلى مراجعة مسألة وجوده «أونلاين» بصفة دائمة.
وجودك أونلاين اختيار واعٍ أم التزام اجتماعي جديد؟
يقول الكاتب إنه حين يكون على متن طائرة تتوقف كل برامج المراسلة على هاتفه، ولا يقرأ تويتر ولا عناوين الأخبار. ولا يستقبل الرسائل الإلكترونية ولا يرد عليها.
ويتساءل الكاتب إن كان إيشيغورو ما زال قادرًا اليوم على تعطيل كل وسائل التشتيت، كما فعل في الثمانينات عندما عكف على كتابة روايته. فإن كانت لديه قوة الإرادة لفعل ذلك، فإن معظمنا قد لا يستطيع أن يفعل مثله.
يقول الكاتب إنه يكتب مقاله وقد أطفأ الواي فاي، ورغم ذلك لم يفلح، إذ تنازعه رغبه مستمرة في تفقد الرسائل التي وصلته وقراءة الأخبار، أو مخاطبة أعضاء فريقه.
يحكي الكاتب أنه عندما طلب طاقم الطائرة من الركاب ضبط هواتفهم على وضعية الطيران، تخيل كل الأمور التي يمكنه أن يفعلها خلال مدة الرحلة، فيمكنه مثلًا أن يكتب الورقة التي كان مقررًا أن يكتبها منذ شهرين، أو أن يستمع إلى أغنية كاملة بدلًا من نصف أغنية أو أن يفكر أو يخطط للعام المقبل، أو أن يرتب التدوينات التي كتبها خلال الأشهر الستة الماضية أو يمحوها، أو ربما يقرأ فصلًا كاملًا في كتاب.
لقد كانت فكرة القيام بعمل واحد فقط خلال المئتي دقيقة المقبلة دون تشتت كافية لأن تجلب له شعورًا بالسعادة. وقد أنجز معظم تلك الأشياء فعلًا خلال رحلتي طيران متتابعتين.
بينما غمرته السعادة وهو يترقب كل تلك الأشياء التي سيقوم بها في ذلك الوقت القصير، تذكر أنه خلال السنوات الخمس الماضية من حياته لم يكن يتمتع بالحق في أن يقوم بعمل واحد دون الانشغال بآخر. فلم يكن يعطي نفسه الحق في أن يكون أوفلاين، أو غير متصل بالإنترنت.
والأكثر من ذلك أنه شعر أنه تخلى عن ذلك الحق الافتراضي دون سبب. والأسوأ أن معظم الأشخاص الذين يعرفهم ارتكبوا نفس الخطأ في حق أنفسهم. فقد أصبح وجودنا «أونلاين» بصفة مستمرة تقليدًا أخلاقيًا جديدًا، ومطلبًا اجتماعيًا.
يقول الكاتب إنه يكتب مقاله هذا وقد أطفأ الواي فاي، ورغم ذلك لم يفلح في البدء في الكتابة، إذ تنازعه رغبه مستمرة في تفقد الرسائل التي وصلته وقراءة الأخبار، أو مخاطبة أعضاء فريقه لمعرفة خططهم، فاليوم أصبح الناس لا ينتظرون منه أن يكون متاحًا بشكل مستمر فقط، ولكن أن يكون «أونلاين» بصورة فاعلة، فيدردش، ويرد على الرسائل، ويفكر في أمور شتى في نفس الوقت. وهو لا يستطيع استيعاب هذا الأمر، فيقول إنه بذل جهدًا كبيرًا للتأقلم خلال السنوات الخمس الماضية، لكنه لا يرى سببًا للاستمرار في التكيف مع تلك المتطلبات.
فلماذا عليك أن تعيد التفكير في وجودك أونلاين بصفة دائمة؟
1. لأن وجودك أونلاين يعطي شعورا زائفا بأنك تتواصل مع الجميع
قد يضطر الإنسان إلى الدخول في مراسلات طويلة في الوقت الذي قد تؤدي فيه مكالمة هاتفية قصيرة نفس الغرض.
يقول الكاتب إن أمه ذات الستة وسبعين عامًا تراسله على سكايب إذا وجدته أونلاين وهو في المطار، ورغم أنه يفكر فيها حتمًا وهو يرد على رسائلها، فإن جل تركيزه يكون منصبًا على رسائل البريد الإلكتروني التي ينبغي عليه الرد عليها.
ويتساءل الكاتب إن كان الإنسان يستطيع أن يولي تركيزه لعشرين شخصًا تصادف أن راسلوه في نفس الوقت؟!، معتبرا تلك الحالة شيئًا «يشبه التواصل» لا ترتقي إلى مستوى التواصل الحقيقي. ويضيف أنه يدَّعي التحدث إلي كل هؤلاء إذ أن الخوض في محادثات عدة في نفس الوقت يتطلب منه أن يقسم انتباهه بين كل منها، فلا يركز في أي منها.
قد يهمك أيضًا: ما الذي تفعله الهواتف الذكية في أدمغتنا؟
2. لأنه يأكل الوقت
يقول الكاتب إنه مؤسس لشركة ناشئة، وفي عالم الأعمال تعتبر القدرة على التواصل مع عدة أشخاص عن طريق برامج المراسلة ميزة كبيرة، فهي تمكّنه من التحدث إلى 20 شخصًا في ذات الوقت، وهو ما يعتبر تواصلًا أكثر فعالية من إجراء المكالمات الهاتفية.
ولكن الحقيقة تخالف ذلك الظن، وفق الكاتب، فانعدام القدرة على التركيز بشكل كامل في أي من تلك المحادثات يؤدي إلى الدخول في مراسلات طويلة، في الوقت الذي قد تؤدي فيه مكالمة هاتفية قصيرة نفس الغرض.
اقرأ أيضًا: هل يموت يوتيوب؟ نظرة لتطور صناعة محتوى الفيديو ومصير منصته الأشهر
3. لأنه يعطي «مكاسب سهلة» ولكنها غير مرغوبة
يرى الكاتب أن وجوده أونلاين باستمرار يدفعه إلى التركيز على المهام العاجلة بدلًا من المهمة، فقد يقضي اليوم كله في الرد على الرسائل الواردة إليه، ويشعر بالرضا إزاء ما أنجزه. ولكنه يتساءل في الوقت نفسه: هل التخلص من المهام العاجلة هو سبب للشعور بالرضا حقًا، أم أن ذلك الشعور مبعثه الشعور المستمر بالانشغال، لا أكثر؟
4. لأنه يعطي شعورًا وهميًا بتطوير الذات
يقول الكاتب إنه يقرأ الكثير من المقالات وهو أونلاين، بالإضافة إلى مشاهدة العديد من مقاطع الفيديو، ظنًا منه أن هذه الأمور قد تساعده في عمله. وأحيانًا تكون الموضوعات التي يقرأها لا تعكس سوى اهتمامات قديمة، وفي معظم الأحيان يشعر أن عليه الاستمرار في القراءة ومشاهدة مقاطع الفيديو خوفًا من أن يفوته شيء جديد.
يعترف الكاتب بأنه يتعلم الكثير من تلك المقالات والمقاطع، ومع كل معلومة جديدة يضيع بعض الوقت، فيعوضه ذلك الشعور بأنه تعلم شيئًا جديدًا. هذا الشعور هو نفسه الذي يغمره عندما يتدرب على مهارة جديدة، مثل العزف على الغيتار، أو يقرأ كتابًا مثيرًا، أو يستمع إلى محاضرة مهمة.
الاتصال الدائم بين الناس، واستهلاك معلومات لا نهائية وذاتية التحديث، وتقاسمها مع الآخرين قد جعل المستخدمين سطحيين وامتد ذلك التأثير إلى غيرهم ممن هم على اتصال بهم.
المشكلة أن وجوده أونلاين لا يُعلمه شيئًا مفيًدا، فهو يشعر بالسعادة لإضافة مئة معلومة جديدة لا صلة لها في معظم الأوقات بأهدافه اليومية، أو عمله أو حياته الشخصية.
والأسوأ من ذلك أنه لا يستطيع مقاومة الرغبة في مشاركة أصدقائه وزملائه المعلومات المثيرة التي تلقاها من قراءاته ومشاهداته، فيما يعرف بتأثير الشبكة، وهم أيضًا يشاركونه تلك الرغبة. وبالطبع هناك الكثير من المعلومات التي يمكن تبادلها، فيجد الجميع أنفسهم منخرطين في دائرة عشوائية من تبادل المعلومات التي لا يرى الكاتب أنها تفيد.
قد يعجبك أيضًا: كيف ستعيش أمريكا دون حيادية الإنترنت؟
5. لأنه يجعلك إنسانًا سطحيًا
الاتصال الدائم بين الناس ليل نهار، واستهلاك معلومات لا نهائية وذاتية التحديث، وتقاسمها مع الآخرين جعلت المستخدمين أنفسهم سطحيين، وامتد ذلك التأثير إلى غيرهم ممن هم على اتصال بهم، ضمن ما يسميه الكاتب تأثير الشبكة.
يضيف الكاتب أنه يعرف الكثير من الأشخاص الأذكياء الذين لا يزعجهم هذا الأمر، فهم يرون أن المخ البشري قادر على التكيف، ولكن الدماغ قد يستغرق آلاف السنوات ليتطور ويستوعب تلك التغييرات ويتكيف على النحو المطلوب.
6. الاحتياج لضوابط ذاتية وأخرى خارجية
يقول الكاتب إنه يستخدم بعض الحيل لاستعادة حقه في أن يكون «أوفلاين» ومتفرغًا لمهمة واحدة دون تشتت. فعلى سبيل المثال يتفق مع الأشخاص المقربين منه على عدد من الأيام في كل شهر لا يراسل فيها أحدًا على الإنترنت. ويسعى للقيام بأنشطة تبعده عن عالم الإنترنت، مثل القراءة والسفر وممارسة الرياضة، كما يدفع نفسه إلى إجراء المكالمات الهاتفية بدلًا من كتابة الرسائل النصية أو البريد الإلكتروني لو كان الموضوع مهمًا. في تلك الأوقات، يطفئ الواي فاي، ويضع هاتفه بعيدًا.
في الوقت نفسه يحاول الكاتب أن يتكيف مع متطلبات التكنولوجيا الحديثة، فهو لا يستطيع أن يمنع نفسه من استخدامها طويلًا، ويحاول أيضًا أن يركز على التحدث إلى شخص واحد في كل مرة يستخدم فيها برامج المراسلة، حتى لو كانت البرامج مصممة أساسًا لتسمح بإتمام عدة محادثات في وقت واحد.
ورغم ذلك يرى الكاتب أن تلك الضوابط ليست كافية، فثمّة حاجة إلى مجموعة قواعد أخلاقية جديدة تحكم عملية الاتصال بالإنترنت.
ويتساءل الكاتب: إذا لم يكن التدخين سلوكًا مسموحًا على إطلاقه في المقاهي، فلماذا نعتبر مراسلة أحدهم أو قراءة البريد الإلكتروني في أثناء تناول الغداء مع الأصدقاء، مثلًا، أمرًا عاديًا؟
هناك محاولات لخلق آداب جديدة وتشجيع الناس على ممارسة حقهم في أن يكونوا أوفلاين. ففي فرنسا مثلا، مُرر قانون في عام 2017 يضمن للموظفين الحق في أن يكونوا أوفلاين ويتجاهلوا ما يصلهم من رسائل خلال عطلة نهاية الأسبوع وعقب دوام العمل.
ويسعى بعض رؤساء الشركات إلى حث الموظفين على أن يكونوا أوفلاين، فيقول «نير إيال»، كاتب ورجل أعمال، إنه على الرؤساء أن يُضمنوا مسألة الحق في أن يكون موظفوهم أوفلاين في ثقافة الشركات التي يديرونها، وينبغي أن يصبح ذلك السلوك أمرًا طبيعيًا وتصرفًا إيجابًيا في كل الأوقات، وليس وقت العمل فقط. ولكن تعديل السلوك على هذا النحو ربما يستغرق وقتًا.