«تاريخنا صفحة بيضاء بها نقطة سوداء، وتاريخهم صفحة سوداء بها نقطة بيضاء»، هذه عبارة يستخدمها بعض الناس لتزكية تاريخ المسلمين وزعم الحيادية في النظر إلى التاريخ.
التحيز صفة طبيعية في البشر حتى في علاقتهم بتاريخهم.
كثيرًا ما يخلط البعض بين الإسلام كدين، وتاريخ المسلمين كأفعال بشرية لا تخلو من الخطأ والشر، وتدفعهم الحميَّة الدينية إلى تنزيه هذا التاريخ، حتى إن بعضهم يعتقد أن انتقاد جوانب من تاريخ المسلمين هو انتقاد للدين، فيوصَف من يحاول النظر إلى التاريخ بحيادية وموضوعية بحتة بأنه عميل أو مفتون بالحضارات الأخرى، أو غيرها من أوصاف تحمل التخوين المُبطَن.
ما هو التاريخ؟
التحيز صفة طبيعية في البشر حتى في علاقتهم بتاريخهم، لكن الاعتقاد بأن تاريخ أمة من الأمم كان تاريخًا نموذجيًّا يدفع الإنسان إلى الرغبة في إعادته واستنساخه، وهذا أساس فكرة الأحزاب والجماعات السياسية الدينية، السلمية منها والجهادية، كتنظيم القاعدة والأحزاب والحركات الفاشية الدينية والقومية، فـالشعوب التي يسهل خداعها بأحداث الماضي يسهل جدًّا خداعها بأحداث الحاضر.
ويذهب بعض المقتنعين بمقولة الصفحة البيضاء ذات النقطة السوداء إلى المطالبة بالإنصاف والحياد وإظهار حقائق التاريخ كما هي، وعلى الأرجح يقصد كما يراها هو، فهو يريد اعتماد نظرته عن التاريخ حقيقةً وحيدة، وهذا في حدِّ ذاته ينسف أي حيادية في الأمر.
إن من يقرأ النصوص التاريخية «الأصلية»، لا المقتطفات التمجيدية المنتقاة بتحيُّز شديد لتُظهِر الجانب المشرق وتُخفِي المظلم من التاريخ، ويقرأ نصوص الغالب والمغلوب، سيكتشف أن التاريخ ليس إلا سردٌ لوجهات نظر شخصية عن أحداث جرت.
بربروس وماغلان بين المسلمين والمسيحيين
من الأمثلة على هذا التضاد في وجهات النظر التاريخية الفرق بين «خير الدين بربروس» في رأي المسلمين وفي وجهة النظر المسيحية. كان بربروس بحَّارًا عثمانيًّا، تصفه وجهة النظر الموالية له بأنه كان رجلًا نبيلًا فرض السيطرة الإسلامية على البحر المتوسط وحمى سفن المسلمين وتنقلاتهم، في حين ترى وجهة النظر «المعادية» أنه كان قرصانًا يهاجم السفن الأوروبية لسلب ما تحويه من كنوز وبضائع.
كيف سيصف كلٌّ من الغالب والمغلوب أحداث حاضرنا في نصوصه؟
كذلك نجد البحار البرتغالي «ماغلان»، الذي تصفه نصوص التاريخ الغربية بأنه مكتشف عظيم وأول من عبر المضيق بين المحيطين الأطلسي والهادي، وأنه من أطلق تسمية المحيط الهادي، وتصفه بأنه فلكي فذ اكتشف التكتلات النجمية التي عُرفت باسم «سُحُب ماغلان»، والتي ساعدت البحارة في تحديد المواقع.
وفي الجانب المقابل، نجد وجهة النظر العربية تصف ماغلان بالقرصان السفاح الذي يمتلئ حقدًا على الإسلام، وتؤكد أن هدف رحلاته البحرية لم يكن الاسكتشاف بل نشر المسيحية في جزر الفلبين بالقوة، وتصف قاتله «لابو لابو» بأنه مقاوم وبطل ومجاهد عظيم.
معركة عمورية: غدر أم انتصار؟
لنا أن نتساءل: ماذا سيكتب التاريخ عن حاضرنا؟ أو بالأحرى: كيف سيصف كلٌّ من الغالب والمغلوب أحداث حاضرنا في نصوصه؟ كيف سيُوصَف جورج بوش الابن وحربه على الإرهاب؟
لا شك سيصفها البعض كما هو حاصل بأنها حملة صليبية وحشية تهدف إلى القضاء على المسلمين وتفكيك دولهم والاستيلاء على ثرواتهم، وسيقول غيرهم إنها حملة انتقامية تأديبية هدفها تخليص أمريكا من شرور الإرهابيين الذين قتلوا الأبرياء في برجَي التجارة.
قد يعجبك أيضًا: ما الذي يحدد تعاطف العرب السياسي؟
ولنا في تاريخ المسلمين حدث مشابه مع اختلاف الأدوار، حدث يُعتبر من أهم الأحداث التاريخية وأكثرها رمزية، هو معركة عمورية المشهورة بحادثة «وا معتصماه».
أحداث هذه المعركة، كما رواها ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» وابن كثير في «البداية والنهاية» عن أحداث سنة 223 للهجرة، تقول إن الروم أغاروا على مدينة «زبطرة» في تركيا، المعروفة اليوم باسم «دوغانشير»، التي تقع تحت حكم المسلمين، وقتل البيزنطيون رجالها وأسروا النساء والأطفال، فصرخت امرأة هاشمية وهي تُقاد إلى الأسر: «وا معتصماه»، فبلغ الخبر الخليفة المعتصم، فثار غضبًا وصاح: «لبيك لبيك»، ونهض من عرشه ونادى: «النفير النفير».
انطلق المعتصم إلى عمورية في تركيا، مسقط رأس ملك الروم، وبعد حصارها وتدمير جزء من أسوارها، خرج أحد قادة المدينة اسمه وندوا ليتفاوض على تسليم الحصن مقابل الأمان، ويصف ابن الأثير ما دار بين وندوا والمعتصم قائلًا: «بينما كان وندوا عند المعتصم ليفاوضه أُمر باقتحام المدينة، فغضب وندوا، فسأله المعتصم: ما بك؟ فأجابه وندوا: جئتك لأفاوضك فغدرت بي، فقال المعتصم: اطلب ولن أعارضك، فأجابه وندوا: أي معارضة وقد دخل جنودك المدينة؟».
ويصف ابن كثير دخول جيش المعتصم إلى المدينة فيقول:«ثم تكاثر المسلمون على الروم ودخلوا البلد قهرًا، وتتابع المسلمون إليها يكبِّرون، وتفرقت الروم عن أماكنها، فجعلوا يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم وأين ثقفوهم، وقد حصروهم في كنيسة لهم هائلة، ففتحوها قسرًا وقتلوا مَن فيها قهرًا، وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فأُحرِقوا عن آخرهم، وأخذ المسلمون من عمورية أموالًا عظيمة وغنائم لا تُحَدُّ ولا توصف، فحملوا ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك».
ما الفرق بين الفتوحات الإسلامية والحرب على الإرهاب؟
المقارنة السابقة لا تهدف إلى تجريم المعتصم أو تبرئة بوش، فكلاهما قائد لدولته لديه كثير من الاعتبارات التي تدفعه إلى الأعمال العسكرية، ولكن يوجد تشابه في الدوافع الظاهرة التي أدَّت إلى العملين العسكريين، هو الانتقام للأبرياء، بغضِّ النظر عن المكاسب الأخرى من غنائم عمورية أو زيادة قواعد أمريكا العسكرية.
اقرأ أيضًا: كيف تُغسل الأدمغة؟
لم تخلُ حرب بوش على الإرهاب من انتهاكات للإنسانية، وكذلك معركة عمورية، مع فارق الآليات وحجم الدمار. بل إن معركة عمورية اشتملت على انتهاكات للأخلاق الحربية التي نصَّت عليها الشريعة الإسلامية، كالغدر بمن يطلب السِّلم وتدمير الكنيسة وإحراق الناس.
قد يقول البعض إن إحراق الكنيسة كان سببه أن المحاربين الروم دخلوها واستخدموها للتحصُّن، لكن كذلك يفعل محاربو الجماعات الإرهابية اليوم، فهم يحتمون بالمساجد والمدارس والمباني المدنية، بل إن جهيمان العتيبي، أحد أكثرهم شهرة، اتخذ أقدس أقداس المسلمين، الحرم المكي، حصنًا له في عام 1979.
ﻻ ملائكة.. ﻻ شياطين
هل يحقُّ لنا أن نطالب بحياد التاريخ بعد ذلك؟ وهل يحق لنا أن نطالب به ونحن نسمِّي حكم العرب لإسبانيا فتحًا، ونسمي حكم الإنجليز والفرنسين للأقاليم العربية استعمارًا؟ نفتخر بأننا صنعنا نهضة حضارية في إسبانيا، وننكر أنهم أدخلوا إنجازاتهم الحضارية إلى الدول العربية، كالأنظمة الإدارية والتخطيط العمراني الحديث للمدن والأنظمة القضائية وبعض المشروعات التي ما زالت آثارها قائمة؟
النصوص التاريخية لم تكُن يومًا نتاج المنطق الحيادي، بل هي غالبًا نتاج ميول كُتَّابها.
مثلما يمكن مشاهدة الروح العربية في بعض مدن إسبانيا، يمكن كذلك مشاهدة الروح الأوروبية في عدد كبير من أهمِّ العواصم العربية، بل إن المؤرخ العراقي توفيق سلطان اليوزبكي يقول إن الفتح العربي لإسبانيا لم يكُن احتلالًا عسكريًّا، بل كان حدثًا حضاريًّا مهمًّا وحركة تحرير للشعوب الإسبانية، وهذا يشبه ما قاله مؤيدو حرب بوش على العراق من أنها تحرير للشعب وإدخال للديمقراطية.
قد يهمك أيضًا: التاريخ تكتبه السلطة: من يحفظ تاريخ المغرب المسكوت عنه؟
إن النظرة إلى الصراعات التاريخية على أنها صراع بين الخير والشر نظرة سطحية، ومن يصف الأحداث التاريخية بأنها حرب بين الخير والشر كَمَن يصف المنافسة بين شركتي «بيبسي» و«كوكا كولا» بأنها منافسة بين الحق والباطل، وهي ليست إلا صراعات مصالح.
التاريخ مجموعة قصص واقعية، أبطالها في الغالب براغماتيون، من أي فريق وفي أي زمان كانوا، لهم اعتباراتهم وأولوياتهم، ليسوا بملائكة ولا شياطين، والنصوص التاريخية لم تكُن يومًا نتاج المنطق الحيادي، بل هي غالبًا نتاج ميول كُتَّابها.