النظام القانوني الكويتي هو أحد الأنظمة القانونية اللاتينية، إذ أن هنالك نظامين قانونيين سائدين في العالم اليوم، هما النظام اللاتيني والأنغلوسكسوني، وعندما نتحدث عن دور الدين في تشكيل القانون الكويتي، فنحن نتحدث عن دور الدين الإسلامي تحديدًا، إذ ينحسر تأثير الأديان الأخرى في القانون الكويتي.
وبما أن القانون الفرنسي هو أحد أهم الأنظمة القانونية اللاتينية، ومصدر تاريخي مادي مهم للقانون الكويتي، فيستحسن بداية أن نشير إلى دور الفقه الإسلامي في تشكيل القانون المدني الفرنسي، وتبيان محل النزاع والإشكالية وتحديده في ما يتعلق بالتعارض والتناقض ما بين القانون الوضعي والشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي، ومن بعد ذلك نتطرق إلى دور الدين الإسلامي في تشكيل القانون الكويتي من عدة زوايا، أولاها الاتجاه الإسلامي في الدستور الكويتي، وثانيها الفقه الإسلامي كمصدر رسمي للقانون الكويتي، وثالثها أثر الدين في العملية التشريعية وسن القوانين في دولة الكويت.
دور الفقه الإسلامي في تشكيل القانون المدني الفرنسي
يدعي بعض الإسلاميين، وهو ادعاء لم أتحقق من مدى صحته، أن القانون المدني الفرنسي إنما هو تقنين لأحكام الفقه الإسلامي وفقًا للمذهب المالكي، ويذكر في التدليل على ذلك وشاهدًا عليه بعض الروايات والحجج، منها ما يلي:
- تقنين نابليون بونابارت أحكام المذهب المالكي وأخذ القانون المدني الفرنسي منها
نسب بعض رجال الدين الإسلاميين مثل سعيد الكملي إلى المؤرخ الفرنسي «غوستاف لوبون» أنه ذكر في كتابه «حضارة العرب» أن نابليون كان يحمل كتاب «مختصر شرح الخريدة البهية» للشيخ أحمد الدردير عن شرح خليل، وأنه حين وضع القانون المدني الفرنسي وهو ما عرف بقانون نابليون، فإنما استقاه مباشرة من أحكام الفقه الإسلامي وفقًا لمذهب الإمام مالك بن أنس.
وقد بحثت بكلمات مفتاحية عديدة في كتاب «حضارة العرب» ولم أجد ثمة عبارة ذكرها غوستاف لوبون على نحو ما نقل عنه. نعم وجدت له عبارة يتحدث فيها عن شراح المذاهب الأربعة الفقهية السنية، وترجمة الفرنسيين كتاب «المختصر» لخليل مرتين، إذ يقول فيها: «ثم صار لكل واحد من هذه المذاهب الأربعة كثير من الشراح، ومن ذلك أن كان خليل المتوفى سنة 1422م شارحًا للمذهب المالكي المنتشر في بلاد الجزائر، فعُد كتابه الذي ترجم إلى الفرنسية مرتين، إحداهما بقلم الدكتور بيرون والثانية بقلم مسيو سغنت، أهم رسالة في الفقه المالكي».
- ترجمة الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي ومقارنته بأحكام الفقه الإسلامي وفقًا للمذهب المالكي تمهيدًا لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مصر
وهي قصة ساقها د. علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر في عدة لقاءات تلفزيونية تحدث فيها عن احتجاج الإخوان المسلمين في مصر على القوانين الوضعية وادعائهم مخالفتها للشريعة الإسلامية، إذ ذكر أنه قد جيء للخديوي إسماعيل بمجلة الأحكام العدلية التي وضعتها الدولة العثمانية، وكانت هذه المجلة تقنينًا لأحكام المذهب الحنفي، وأريد فرضها على الخديوي إسماعيل كي يطبقها في مصر ولتكون بمثابة القانون المدني الحاكم للمسائل المالية فيها، إلا أن الأخير كان ذا نزعة استقلالية ودأب على محاولة معاملة السلطان التركي معاملة الند للند، فلم يرغب بتطبيق مجلة الأحكام العدلية كي لا يقال بأنه تبع للدولة العثمانية.
إلا أنه ومن ناحية أخرى لم يُرد أن يقال عنه بأنه يعرض عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فاستدعى مستشاريه وعرض عليهم الإشكالية، فاقترح عليه وزير الحقانية (العدل) قدري باشا، وكان هذا من فقهاء الأحناف، أن يضع له مجلة تقابل مجلة الدولة العثمانية، وتتضمن تقنينًا لأحكام المذهب الحنفي أيضًا، ولكن بحيث يختار الآراء المقابلة لما اختارته مجلة الأحكام العدلية، إذ أن المذهب الحنفي نفسه يتضمن بين طياته آراء مختلفة ومتعارضة.
وبهذا يكون الخديوي إسماعيل قد طبق أحكام الشريعة الإسلامية ولم يخضع للسلطة التشريعية للدولة العثمانية في ذات الوقت.
لكن كان هنالك رأي آخر طرح على الخديوي إسماعيل وهو أن تُقنن أحكام المذهب المالكي، ولكن أحدهم قال بأن القانون المدني الفرنسي إنما هو تقنين لأحكام المذهب المالكي، فلماذا يعيدون اختراع العجلة؟ إذ بإمكانهم الاكتفاء بترجمة القانون الفرنسي إلى اللغة العربية ومراجعته من حيث مدى تطابقه مع أحكام الفقه المالكي.
وبالفعل اضطلع مجدي صالح باشا بهذه المهمة وترجم القانون الفرنسي إلى العربية، وسلم الملازم إلى القاضي والفقيه المالكي آنذاك مخلوف المنياوي، والأخير كتب بحثًا مقارنًا ما بين القانون الفرنسي والمذهب المالكي، وبعد أن انتهى من كتابته أخذه إلى الخديوي إسماعيل كان قد سافر آنذاك وجاء محله الخديوي توفيق، فلم يُكتب للمشروع التوفيق، وأودع المنياوي كتابه في دار الكتب المصرية، وطبع لاحقًا في مجلدين تحت عنوان «المقارنات التشريعية: تطبيق القانون المدني والجنائي على مذهب الإمام مالك».
- كتابات وأبحاث أخرى مقارنة ما بين الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية
كتب آخرون العديد من الدراسات في المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، من هؤلاء وزير الأوقاف السوري السابق أحمد المهدي خضير، والذي ألقى محاضرات في هذا الموضوع في الكويت بدعوة من جمعية الإصلاح الاجتماعي، وطبعت ضمن رسائل بعنوان «التشريع الجنائي المقارن بين الشريعة والقانون»، ورجل الدين الأزهري سيد عبد الله علي حسين، الذي كتب كتابًا آخر بعنوان «المقارنات التشريعية: مقارنة بين فقه القانون الفرنسي ومذهب الإمام مالك بن أنس»، يقول في مقدمته:
«فترجمت فقه القانون المدني الفرنسي، وقارنت أصوله وقواعده بما يوافق أو يخالف ذلك من مذهب الإمام مالك، فكان ذلك دليلًا على ما ادعيت من أن القانون المدني الفرنسي (وهو أصل القوانين التشريعية الوضعية) مأخوذ من مذهب الإمام مالك بن أنس».
تحرير محل النزاع بين القانون الديني والوضعي
بعيدًا عن أزمة التعريفات، فإن تحرير محل النزاع والتناقض ما بين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي من ناحية، والقوانين الوضعية من ناحية أخرى، يستلزم منا تفكيك هذه المفاهيم إلى عناصرها الأساسية ومصادر استنباطها.
فالفقه الإسلامي من ناحية يرجع إلى مصادر استنباط متعددة هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وبالتالي فهنالك أحكام فقهية لا تجد لها أساسًا إلا في النص، دون أن يكون لها تفسير وأساس عقلي، وهي إما أن ليس لها أساس عقلي البتة، أو أن لها أساسًا عقليًا مجهولًا، أي أنها مجهولة العلة، ولا قيمة للتفاوت بين الحالتين هنا، إذ أن ما لا علة له هو بحكم ما هو مجهول العلة، فكلاهما يعتمد على النص الديني والوحي فقط كسند له، ومثال ذلك تحديد عدد الزوجات في الفقه الإسلامي بأربعة، فأساسه النص فقط دون غيره.
من ناحية أخرى، فالقوانين الوضعية إذا أرجعناها إلى عناصرها الأساسية وفككنا مفهومها بالرجوع إلى مصادرها المادية التاريخية، سنجد أن الدين نفسه هو أحد مصادرها الأساسية، مثلما أن عادات وأعراف المجتمع هي مصادر أيضًا للقانون الوضعي. ومن هنا يتبين أن ليس جميع قواعد القانون الوضعي لها أساسها في العقل والعلم، وإنما يرجع بعضها إلى مصادر غير علمية والعادات والأعراف والتقاليد والأديان، وهكذا يتبين أن هنالك مساحة تداخل واسعة وكبيرة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي.
لذا فمن المهم إعادة تعريف الإشكالية، وتحديد محل النزاع في أنه يكمن ما بين قواعد دينية لا تعتمد إلا على النص والوحي والإجماع كأصل وأساس، دون أن يكون لها أساس علمي أو عقلي معلوم، وبين قواعد علمانية مستمدة من العقل والعلم فقط دون غيرها، وإذا ما وضعنا إصبعنا على هذه المنطقة سنجد أنها هي البون الفارق ومفترق الطرق ومحل النزاع ما بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي.
دور الدين في تشكيل القانون الكويتي
القواعد الدستورية هي أسمى القواعد القانونية، إذ يسمو تطبيقها على كل القوانين العادية والاتفاقيات الدولية واللوائح والقرارات التنظيمية، ويرى الدكتور عثمان عبد الملك الصالح، الخبير الدستوري الكويتي، في كتابه «النظام الدستوري والمؤسسات السياسية في الكويت»، بأن ثمة اتجاهًا إسلاميًا في الدستور الكويتي يتمظهر في جانبين: شكلي وموضوعي.
- الاتجاه الإسلامي الموضوعي في الدستور الكويتي
ونعني به تأثير الدين الإسلامي في القواعد الدستورية ومضمونها، ويتجلى هذا الاتجاه في 8 سمات، هي:
السمة الأولى:
عدم خروج الدستور عن كنف الأحكام القطعية في الكتاب والسنة: إذ يرى بعض الخبراء الدستوريين ومنهم الدكتور المصري عثمان خليل عثمان، الذي أسهم في وضع الدستور الكويتي وكان عميدًا لكلية الحقوق في جامعة عين شمس، أن الدستور الكويتي لم يخرج عن كنف الأحكام القطعية في الكتاب والسنة، فيقول في ذلك بحسب ما ذكر عثمان عبد الملك الصالح في كتابه:
«لقد أطلنا في هذا التدليل والاستشهاد ردًا على سؤال استنكاري طالما رُدد خلال إعداد الدستور الكويتي ثم في أعقاب إصداره: لماذا لم تتخذ الشريعة الإسلامية دستورًا للكويت؟ كما وُجد من زعم أن استحداث دستور معناه الحكم بغير ما أنزل الله، فكل ذلك مردود، وعلى من يسأل السؤال السابق مستنكرًا أن يضع يده على مادة من مواد دستور الكويت، ويقول إن هذه المادة تخالف حكمًا قطعيًا يبينه، فهنا يلزم الوقوف إلى جانبه لرد النص إلى حظيرة الحل الشرعي، ولم يعين أحد للآن مثل هذه المخالفة بصدد أي من تلك المواد، فصحَّ افتراض حلها، والأصل في الأمور الإباحة حتى يرد نص بالتحريم».
السمة الثانية:
نص الدستور الكويتي على أن الميراث حق تحكمه الشريعة الإسلامية، ولعل هذا من مصاديق عدم خروج الدستور عن كنف الأحكام القطعية، لأن هذا الحق تحديدًا وردت فيه نصوص قرآنية واضحة الدلالة قطعية الصدور تنظم بعض أحكامه، ومنها التمييز بين الذكر والأنثى في الميراث بحيث يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
السمة الثالثة:
نصت المادة الثانية من الدستور الكويتي على أن دين الدولة الإسلام، وقد اختُلف في تفسير هذه العبارة، إذ يرى بعضهم أن الدولة إنما هي شخص اعتباري لا يُنسب له دين ولا يمكن له أن يقيم الصلاة ولا أن ينهض بالعبادات، وليس له قلب ينعقد بالتصديق بالعقائد الإسلامية، وذهب بعض آخر إلى تفسير هذه العبارة بأن المعني منها أن أغلبية سكان الدولة وشعبها من المسلمين، وأن المراسم الرسمية كالأعياد تقام وفقًا لمناسبات الدين الإسلامي وهكذا.
القسم الدستوري الواجب على الوزراء وأعضاء البرلمان قبل مباشرتهم لمهامهم واختصاصاتهم، متأثر في صياغته الدستورية بالشريعة الإسلامية.
السمة الرابعة:
نجد سمة أخرى من سمات الاتجاه الإسلامي الموضوعي للدستور الكويتي في المادة الثانية أيضًا، إذ أنها تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع الرئيسية، وقد كانت هذه المادة هدفًا دائمًا للتيارات الإسلامية السياسية، وشعارًا للحملات الانتخابية للمرشحين الإسلاميين، إذ هدفوا دائمًا لتعديلها بحيث تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي والوحيد للتشريع.
ولا شك بأن النص في صياغته الحالية يجعل الشريعة مصدرًا في عرض المصادر الأخرى، ولا يُلزم المشرع بالأخذ بها، بل وإنه إذا خالف قانون الشريعة الإسلامية فإنه لا يعد قانونًا غير دستوري، ولو عرض على المحكمة الدستورية لما حكمت ببطلانه لمحض كونه مخالفًا للشريعة الإسلامية.
وقد نصت المذكرة التفسيرية للدستور في ذيل المادة الثانية:
«وفي وضع النص بهذه الصيغة توجيه للمشرع وجهة إسلامية أساسية، دون منعه من استحداث أحكام من مصادر أخرى في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكمًا لها، أو يكون من المستحسن تطوير الأحكام في شأنها تمشيًا مع ضروريات التطور الطبيعي على مر الزمن، بل أن في النص ما يسمح بالأخذ بالقوانين الجزائية الحديثة مع وجود الحدود في الشريعة الإسلامية (...) كما يلاحَظ بهذا الخصوص أن النص الوارد بالدستور، وقد قرر أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، إنما يحمِّل المشرع أمانة الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية ما وسعه ذلك، ويدعوه إلى هذا النهج دعوة صريحة واضحة، ومن ثم لا يمنع النص المذكور من الأخذ، عاجلًا أو آجلًا، بالأحكام الشرعية كاملة وفي كل الأمور إذا رأى المشرع ذلك».
السمة الخامسة:
السمة السادسة:
التأثر بأسلوب المبايعة في آلية اختيار ولي العهد التي نص عليها الدستور ونظمها.
السمة السابعة:
أوجب الدستور على الدولة صيانة التراث الإسلامي.
السمة الثامنة:
القسم الدستوري الواجب على الوزراء وأعضاء البرلمان قبل مباشرتهم لمهامهم واختصاصاتهم، متأثر في صياغته الدستورية بالشريعة الإسلامية.
- الاتجاه الإسلامي الشكلي في الدستور الكويتي
أما الاتجاه الإسلامي الشكلي في الدستور الكويتي فنعني به تأثير النصوص الدينية الواردة في الكتاب والسنة في مفردات وألفاظ الدستور الكويتي وصياغته اللغوية، ويمكن أن نذكر بعض الأمثلة والشواهد على ذلك في الجدول التالي:
الدين كمصدر رسمي للقانون الكويتي
حين يُعرض نزاع على القاضي لكي يفصل فيه، فإن أول عملية يقوم بها هي البحث عن القاعدة القانونية، أو ما يعبر عنه علماء المنطق بالقضية الكلية أو الحكم الكلي الواجب تطبيقه على موضوع النزاع، ثم يسقط هذه القاعدة على الواقعة المعروضة أمامه، ويطبقها عليها، لكي يخلص في نهاية المطاف إلى نتيجة نسميها بالحكم القضائي.
وحين يريد القاضي أن يحدد القاعدة القانونية الواجبة التطبيق، فإنه يرجع إلى مجموعة من المصادر التي نص عليها القانون، ورجوعه إلى هذه المصادر ملزم ليس له خيار بأن يرجع إلى غيرها، وعليه أن يرجع إليها وفق الترتيب الذي نص عليه القانون، وهي ما نسميه بالمصادر الرسمية للقانون، وهي مختلفة ما بين حقل وآخر من حقول القانون، إلا أنها في القانون الكويتي المدني مثلًا هي النصوص التشريعية بالدرجة الأولى، ثم أحكام الفقه الإسلامي، ثم العرف، فيجب على القاضي الرجوع إليها وفقًا للترتيب السابق، فإن لم يجد نصًا في التشريع (كود القانون المدني) رجع إلى أحكام الفقه، فإن لم يجد حكمًا رجع إلى القواعد العرفية.
مراحل الأخذ بالدين كمصدر
لكي ندرس دور الفقه الإسلامي كمصدر رسمي للقانون الكويتي، لا بد أن نقسم ذلك إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل التدخل التشريعي، إذ لم تكن هنالك نصوص قانونية مكتوبة ومقننة، ومرحلة ما بعد عام 1938، أي ما بعد التدخل التشريعي، حين أصبحت هنالك نصوص مكتوبة ومقننة.
- مرحلة ما قبل التدخل التشريعي في الكويت
يرى بعض الباحثين أن ما كان يحكم هذه المرحلة هي القواعد الدينية، وأن أحكام الفقه الإسلامي كانت مطبقة على مسائل الأحوال الشخصية والأحوال المالية، ولعل أدق وصف للواقع القانوني في تلك المرحلة ما ذكره المحامي محمد عبد القادر الجاسم في كتابه «روح الدستور»، وما ذكره الدكتور عثمان عبد الملك الصالح عن تلك الحقبة.
يقول الجاسم: «أما بالنسبة إلى القواعد التي تحكم النشاط الاقتصادي في المجتمع القديم، فلم يكن الدين مصدرها، ويتضح ذلك بوضوح شديد من شيوع الربا بصور عديدة، ومن نظام الغوص الذي يلزم ورثة المدين سداد دين والدهم حتى وإن لم يترك المتوفى أي أموال يمكن سداد ديونه منها، ومن تسديد الدين عن طريق العمل الإجباري لدى الدائن، وغير ذلك من قواعد تحكم النشاط الاقتصادي وتتعارض مع أحكام الدين. أما عن القضاء فلم يكن يحكم بما يقضي به الدين إلا في إطار الأحوال الشخصية، أما في الجرائم فقد كانت العقوبات مختلطة، في حين كان فساد بعض القضاة مثار احتجاج الرأي العام الذي طالب أكثر من مرة بإقالتهم».
ويقول الدكتور عثمان عبد الملك الصالح عن حقبة ما قبل التدخل التشريعي والمجتمع الكويتي القديم: «ويبدو أن مجال تطبيق الشريعة الإسلامية كان منحصرًا في ما يتعلق بالأحوال الشخصية». ويقول: «لم يذكر لنا التاريخ أي سابقة تشير إلى قطع يد السارق، أو رجم الزانية المحصنة، على عكس ما كان يحدث ويحدث الآن في البلاد المطبقة للشريعة الإسلامية كما هو الحال في المملكة العربية السعودية، وهناك أعمال تحرمها الشريعة الإسلامية وتشمل ذلك التحريم بالعقاب، إلا أنها كانت مباحة وشائعة في الكويت، كالربا والتهريب وقطع الطرق».
وهو ما يعني أن الكويت لم تكن في يوم من الأيام دولة دينية بالمفهوم المطروح في المملكة العربية السعودية أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو أفغانستان سابقًا.
- مرحلة ما بعد التدخل التشريعي في الكويت
بدأت مرحلة التدخل التشريعي بتطبيق مجلة الأحكام العدلية في الكويت عام 1938، وبتطبيق هذه المجلة أصبحت المسائل المالية محكومة بأحكام المذهب الحنفي، إذ أن المجلة لم تكن إلا تقنينًا لهذه الأحكام، وبقيت مسائل الأحوال الشخصية لأبناء المذهب السني يحكمها الفقه المالكي، بينما يطبق الفقه الجعفري على الكويتيين الشيعة، وقد صدر بعد ذلك قانون التجارة الداخلي عام 1938، وقانون الغواصين والسفر عام 1940، وكانت التشريعات في تلك الحقبة على نوعين، فإما أنها تقنين لأحكام الفقه الإسلامي مثل مجلة الأحكام العدلية ولا تتضمن اعتداء على تطبيق الشريعة الإسلامية، أو أنها كانت تتضمن قواعد تناقض الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي.
الدين وتشريعات الكويت حاليًا
بتسليط الضوء على التشريعات السارية اليوم في دولة الكويت، نجد أن للفقه الإسلامي دورًا محوريًا كمصدر فيها، إلا أن هذا الدور يشتد في بعضها وينكمش في بعضها الآخر، إذ نجد أنه اللاعب الأساسي والوحيد في قانون الأحوال الشخصية ثم القانون المدني، ثم يبدأ بالتضاؤل في القوانين التجارية وقانون الجزاء.
- قانون الأحوال الشخصية: صدر هذا القانون عام 1984، وينظم مسائل الأحوال الشخصية لأبناء المذهب السني، ويمكن أن نقول بأنه مأخوذ بشكل كامل من الفقه الإسلامي، وخصوصًا من مذهب الإمام مالك بن أنس وأبي حنيفة، فالفقه الإسلامي هو المصدر المادي لهذا القانون، ثم إن المادة (343) منه قد نصت على: «كل ما لم يرد له حكم في هذا القانون يُرجع فيه إلى المشهور في مذهب الإمام مالك، فإن لم يوجد المشهور طُبق غيره، فإن لم يوجد حكم أصلًا، طبقت المبادئ العامة في المذهب».
أما بالنسبة لأبناء المذهب الجعفري فقد ظلوا لسنوات مديدة يخضعون لأحكام الفقه الجعفري، إذ لم يصدر تشريع ينظم مسائل الأحوال الشخصية الخاصة بهم إلا مؤخرًا، قبل أيام قليلة من كتابة هذا المقال، إذ أقر البرلمان تشريعًا جديدًا ينظم ذلك.
- القانون المدني الكويتي الصادر عام 1980، ودخل حيز النفاذ عام 1981، وألغى العمل بمجلة الأحكام العدلية، فلم تكن الشريعة الإسلامية ولا الفقه الإسلامي مصدرًا رسميًا فيه حتى عام 1996، إذ أجري تعديل للمادة الأولى منه بحيث أصبحت تنص على: «1- تسري النصوص التشريعية على المسائل التي تتناولها هذه النصوص بمنطوقها أو بمفهومها. 2- فإن لم يوجد نص تشريعي، حكم القاضي وفقًا لأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقًا مع واقع البلاد ومصالحها، فإن لم يوجد حكم بمقتضى العرف».
وبهذا أصبح الفقه الإسلامي مصدرًا ثانيًا بعد التشريع للقانون المدني، ولم يقيد المشرع القاضي بتطبيق أحكام مذهب إسلامي معين كما هو واضح من النص.
- قانون التجارة الكويتي لا يزال لا يأخذ بالشريعة الإسلامية كمصدر له، والمادة الثانية من هذا القانون تنص على أن التشريع هو المصدر الأول، بينما العرف التجاري هو المصدر الثاني، وتسكت عند هذا الحد.
- قانون الجزاء (العقوبات) الكويتي: تبين المذكرة الإيضاحية لهذا القانون موقفه إزاء تطبيق أحكام الفقه الإسلامي فتقول: «وليس هناك أي تعارض بين قانون الجزاء الذي يصدر اليوم في الكويت وأحكام الفقه الإسلامي التي كان معمولًا بها قبل صدور هذا القانون، لا في الجملة ولا في التفصيل، ذلك أن الفقه الإسلامي، في ما عدا الحدود، فتح باب التعزير واسعًا للقاضي، يدخل منه إلى تحديد الأعمال المعاقب عليها وإلى تقرير العقوبة في كل عمل، فإذا جاء ولي الأمر ورسم للقاضي حدودًا واضحة لهذه الأعمال وتقديرًا مرنا لهذه العقوبات، فإنه لا يخرج على المبادئ المسلَّم بها في الفقه الإسلامي، ويكون هذا من باب تخصيص القضاء، والقضاء يتخصص بالمكان وبالزمان وبالموضوع وبالأشخاص كما هو معروف عند الفقهاء».
نلاحظ أن المذكرة الإيضاحية تتضمن إقرارًا بإعراض المشرع الكويتي عن تطبيق الحدود، بالإضافة إلى أنها تشير إلى حقبة ما قبل التدخل التشريعي، وقد بينا آنفًا أن الفقه الجنائي الإسلامي لم يكن مطبقًا أصلًا في تلك الحقبة، كما يُلاحظ أن قانون الجزاء الكويتي استند إلى فكرة التعزير كأساس تنظيري له في الفقه الإسلامي.
أثر الدين في العملية التشريعية في الكويت
في الجدول التالي نلخص مجموعة من الأحكام القانونية التي نعتقد بأنها من الأمثلة التي تدل على تأثر العملية التشريعية والقواعد القانونية في الكويت بالشريعة الإسلامية.
يمكننا القول إن دور الدين الإسلامي في النظام القانوني الكويتي ليس منفصلًا انفصالًا تامًا عن القانون الوضعي، وإن اختفى في مواضع وظهر في مواضع أخرى.