ربما تتذكر مواقف متسلسلة أو تجربة كاملة مررت بها وأنت في مرحلة مبكرة من الدراسة، وبإمكانك أن تستعيد حفل تخرجك في الجامعة بمُعظم تفاصيله حتى لو كنت الآن في الخمسين من عمرك. لكن جرب أن تتذكر عيد ميلادك الثاني، هل تتذكره من دون الصور وتسجيلات الفيديو؟
ربما يجلس والداك ويقصان عليك كم كنت طفلًا مشاغبًا ولعوبًا ومحبًّا للتجمعات والناس، وهذا ليس ما أنت عليه الآن، فتشعر بأنهما يحكيان لك ذكريات طفل آخر. معظمنا مثلك، أين ذهبت كل هذه السنوات؟
يسمي علماء النفس هذا النسيان الدراماتيكي «فقدان ذاكرة الطفولة» (Childhood Amnesia). في المتوسط لا يتذكر الناس طفولتهم قبل سن الثالثة والنصف، وكل شيء قبل ذلك فجوة مظلمة.
تقول «باتريشيا بور»، أستاذة علم النفس في جامعة إيموري والخبيرة في مجال تطوير الذاكرة، إن هذه الظاهرة قُتلت بحثًا، لكنها ما زالت تجذب انتباه العلماء لأنها مفارقة حقيقية، فرغم أن الأطفال يُظهِرون دليلًا على الذاكرة خلال أحداث حياتهم، فإنهم عندما يكبرون تكون حصيلة ذكرياتهم قليلة نسبيًّا.
يتساءل العلماء عما يحدث في الدماغ بالضبط في الوقت الذي ننسى فيه ذكريات سنواتنا الأولى. وهذا العلم الجديد يشير إلى أنه يجب على الدماغ أن يتخلى عن كثير مما حدث في الطفولة كجزء ضروري من رحلة الوصول إلى مرحلة البلوغ.
الذاكرة: صحوة في علم نفس الطفل
كان سيغموند فرويد من سمى هذه الظاهرة «فقدان ذاكرة الطفولة»، إذ افترض أن البالغين ينسون أحداث سنوات حياتهم الأولى كعَرَض أساسي لعملية قمع الذكريات المُربِكة للصحوة الجنسية.
رأى قليل من العلماء ميزةً في هذا الافتراض، إلا أن التفسير الأكثر منطقيةً وقبولًا كان أن الأطفال ببساطة لم يتمكنوا من تشكيل ذكريات راسخة ومستقرة حتى سن السابعة. واستمرت هذه الفرضية مطروحة وقائمة لمدة مئة عام، بالرغم من عدم وجود أدلة كافية لإثباتها.
كانت أواخر ثمانينيات القرن العشرين بداية الصحوة في علم نفس الطفل. بدأت باتريشيا بور وغيرها من علماء النفس اختبار ذاكرة الرُضَّع عن طريق سلسلة من الإجراءات، مثل بناء لعبة بسيطة وتحطيمها، ثم الانتظار لمعرفة ما إذا كان الطفل سيستطيع محاكاة الإجراءات بترتيبها الصحيح بعد مهلة فاصلة تتراوح بين عدة دقائق إلى أشهر.
تتطلب الذكريات لغةً أو إحساسًا بالذات، ويفتقر الرضع لكليهما.
توالت التجارب، واتضح أن ذكريات الأطفال ذوي الثلاث سنوات فأصغر تستمر معهم، وإن كان ذلك بوجود بعض القيود. فمثلًا، عندما يبلغ الرضيع شهره السادس تدوم ذكرياته لمدة يوم واحد على الأقل، وحين يبلغ شهره التاسع تدوم شهرًا، أما عند بلوغه سنتين، فإن ذاكرته تدوم عامًا.
في دراسة تاريخية فارقة أُجريت عام 1991، وجد الباحثون أن الأطفال ذوي الأربعة أعوام ونصف يستطيعون استدعاء ذكريات مفصلة عن رحلتهم إلى مدينة ملاهي «عالم ديزني» قبل سنة ونصف. وحين وصلوا إلى سنتهم السادسة تقريبًا بدؤوا ينسون كثيرًا من هذه الذكريات المُبكرة.
اقرأ أيضًا: ذكريات زائفة: عندما يكذب عليك عقلك، لن تعرف أبدًا
في تجربة أخرى أجرتها باتريشيا وزملاؤها في 2005، تذكَّر الأطفال ذوو الخمسة أعوام ونصف أكثر من 80% من تجاربهم التي مروا بها وهم في الثالثة من عمرهم، في حين لم يستطع الأطفال الذين يبلغون سبعة أعوام ونصف تذكُّر سوى أقل من 40%.
أبرزت هذه التجربة التناقض في أساس «فقدان ذاكرة الطفولة». فبينما يمكن أن يصنع الرضيع ذكرياته ويستعيدها خلال سنواته الأولى، يختفي معظمها في النهاية بمعدل يتجاوز النسيان العادي للماضي الذي يمر به كبالغ.
ربما، وكما ظن بعض الباحثين، تتطلب الذكريات لغةً أو إحساسًا بالذات، ويفتقر الرضع لكليهما.
لكن رغم أن التواصل اللفظي والوعي الذاتي يعززان الذكريات الإنسانية، فإن غيابهما لا يمكن أن يكون التفسير الكامل لفقدان ذاكرة الطفولة. رغم ذلك،
بعض الحيوانات التي لديها أدمغة كبيرة ومعقدة بالنسبة إلى حجم جسمها، لكنها ليست لديها لغة أو مستوى وعي ذاتي كالذي عند الإنسان، مثل الفئران، تفقد أيضًا الذكريات التي تصنعها في طفولتها.
إذًا، ربما الأمر فعلًا كما اقترح الباحثون: لهذه المفارقة أساسًا ماديًّا أكثر جوهريةً ومعروفًا في الإنسان وغيره من الثدييات كبيرة الدماغ. والسؤال: ما هذا الأساس؟
تذكَّر.. تذكَّر: جسور عصبية
في فترة ما بين الولادة إلى ما قبل المراهقة يكون الدماغ مستمرًّا في بناء جزء من دوائره الأساسية، وتكثيف مساراته الكهربية مع الأنسجة الدهنية لتكون موصلة أكثر.
وفي طفرة هائلة في النمو، يُنبت الدماغ جسورًا جديدة لا حصر لها بين العصبونات. وتكون الروابط بين خلايا المخ في سنوات الطفل الأولى أكثر بكثير مما ينتهي به في مرحلة البلوغ، كأن معظمها يُشذَّب كما الأشجار. هذه الكتلة الدماغية الزائدة هي الطينة الرطبة التي منها تَنحت الجينات والخبرات الدماغ ليتناسب مع بيئته المستقلة. ودون هذه الأدمغة المرنة لن يستطيع الأطفال أن يتعلموا بسرعة كما هم الآن.
لكن القدرة على التكيف والمرونة لها ثمن كما اكتشفت باتريشيا وباحثون آخرون.
فبينما يخضع الدماغ لهذا التطور المطوَّل خارج رحم الأم، تكون الشبكة الكبيرة والمعقدة من مناطق الدماغ المتباينة، التي تخلق وتحافظ على ذكرياتنا التي لا تزال قيد الإنشاء، ليست قادرةً على تشكيل الذكريات كما ستكون عليه في مرحلة البلوغ. ونتيجةً لذلك، فإن الذكريات طويلة المدى التي تكوَّنت في سنواتنا الثلاثة الأولى من الحياة هي أقل الذكريات رسوخًا، وأكثر الذكريات عُرضةً للتلاشي مع تقدمنا في العمر.
نشر «بول فرانكلاند» وزملاؤه دراسةً تشرح طريقة أخرى من الطرق التي يتخلى بها الدماغ عن ذكريات الطفولة: الذكريات لا تتحلل فقط، بل تصبح مخبأةً أيضًا.
لاحظ فرانكلاند وزوجته «شينا جوسلين»، وهي أيضًا عالمة في الأعصاب، أن الفئران التي درساها كانت حالتها أكثر سوءًا في اختبارات معينة للذاكرة بعد أن عاشت في قفص ذي عجلة دوَّارة. وكما يعلم الباحثان، فإن التمرين على العجلة الدوَّارة يشجع تكوين خلايا عصبية جديدة في الحصين، وهي منطقة أساسية للذاكرة في الدماغ.
لكن في حين أن تكوين الخلايا العصبية في حصين الشخص البالغ يُسهم في القدرة على التعلم والتذكر، يُشير «كارل ديسيروث»، أستاذ الهندسة الحيوية والطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة ستانفورد الأمريكية، إلى أنه ربما يستلزم قدرًا من النسيان. وليوضح الأمر، شبَّه ديسيروث الحصين بغابة، فهي مكان لن يتسع إلا لعدد محدود من الأشجار، ومهما بلغ هذا العدد، فإنه سيكون محدودًا أيضًا.
الحصين كذلك لا يمكنه الاحتفاظ إلا بعدد محدود من الخلايا العصبية، ما يعني أن الخلايا الدماغية الجديدة قد تحتشد مع الخلايا العصبية الأخرى، أو قد تستبدلها كُليًّا، ما قد يكسر أو يعيد تكوين الدوائر الصغيرة التي تخزن الذكريات الفردية. لذلك، فإن المعدل المرتفع لتكوين الخلايا العصبية في مرحلة الطفولة ربما يكون مسؤولًا جزئيًّا عن فقدان ذاكرة الطفولة.
إعادة هيكلة دوائر الذاكرة تعني أنه في حين أن بعض ذكريات طفولتنا قد اختفت بالفعل، فإن بعضها الآخر يبقى بطريقه مبعثرة ومنعكسة.
أظهرت الدراسات أننا نستطيع استعادة بعض ذكريات طفولتنا عن طريق الاستجابة لدوافع معينة، مثل نبش الذكريات المرتبطة بكلمة «حليب»، أو تخيل منزل أو مدرسة أو مكان محدد مرتبط بعمر معين، والسماح للذكريات ذات الصلة بأن تبرز من تلقاء نفسها.
قد يهمك أيضًا: الخطايا السبعة: العلم يشرح كيف تخوننا الذاكرة
لا تثق في ذكرياتك.. إنها تتطور
إن تذكرت، فلا تصدق كل ذكرياتك، لأنها ربما تكون مجرد مشاهد أو قصص تمنيت حدوثها.
لكن حتى لو نجحنا في انتزاع بعض الذكريات المتميزة التي نجت من دورات النمو والتحلل المضطربة في دماغ الرضيع، فلا يمكننا أن نثق فيها أبدًا، فقد يكون بعضها ذكريات مختلقَة جزئيًّا أو كليًّا.
وضحت عالمة النفس «إليزابيث لوفتس» أن ذكرياتنا المبكرة بشكل خاص غالبًا ما تكون مزيجًا مستعصيًا على التحلل، مكونًا من ذكريات حقيقية وقصص استوحيناها ممن حولنا ومشاهد خيالية نسجها العقل الباطن.
في سلسلة من التجارب أُجريت عام 1995، قدمت إليزابيث وزملاؤها إلى مجموعة من المتطوعين قصصًا قصيرة عن طفولتهم حكاها أقاربهم. ودون علم المشاركين في الدراسة، كانت إحدى هذه القصص خيالية تدور حول ضياعهم في مركز تجاري وهم في سن الخامسة. ومع ذلك قال ربع المتطوعين إنهم يتذكرون أنهم مروا بهذه التجربة فعلًا. وحتى عندما أخبرهم الباحثون بأن «واحدة» من القصص كانت خيالية، فشل بعضهم في إدراك أنها كانت قصة الضياع في المركز التجاري.
لذلك إذا تذكرت، فلا تصدق كل ذكرياتك، لأنها ربما تكون مجرد مشاهد أو قصص تمنيت حدوثها، إن كانت مرتبطة بطفولتك تحديدًا. ورغم أن الذكريات تمثل جزءًا جوهريًّا في تكوين هويتك وطبيعتك، فإنها في الغالب تتلاشى ببطء وتترك أثرها. وهكذا، فإن للنسيان أيضًا دورًا في تكوين ذكريات جديدة والمضي بها قدمًا.