كانت جُزر تيومان، التي تقع على الشرق من شبه جزيرة الملايو، مكانًا غريبًا بالنسبة إلى كثير من الباحثين في مجال علوم الحيوانات وسلوكها.
هذه الجزيرة، التي تضم غابة كثيفة من الأشجار وسواحل رملية هادئة، تعيش عليها مئات الأنواع الغريبة من الحيوانات التي لا تعيش في مكان آخر. الأمثلة تتضمن كائنات مثل السمكة التي تمشي على الأرض، وطائر «الليمور»، والكائن الذي اكتُشِف مؤخرًا: خفاش يصطاد في النهار.
لاحظ العلماء على جزر تيومان عددًا من الخفافيش التي تنتمي إلى فصيلة «Blyth Horseshoe»، تحاول اصطياد الحشرات في وضح النهار.
مع استمرار مراقبتهم، اتضح للعلماء أن هذا السلوك يميز الفصيلة التي تعيش على الجزر عن غالبية أنواع الخفافيش الأخرى في العالم، لأنها كما هو معروف كائنات تنشط وتصطاد ليلًا فقط. بحثًا عن سبب هذا السلوك غير المفهوم، يكتب «جيرمي ريم» لمجلة «ناشيونال جيوغرافيك».
الخفافيش كائنات «غريبة»
بداية من الأبطال الخارقين وصولًا إلى مصاصي الدماء، ألهمت مميزات الخفافيش الفريدة خيال البشر لقرون.
لدينا نحو 1400 نوع من الخفافيش تعيش في أماكن مختلفة من العالم، وتلعب بشكل عام دورًا مهمًّا في الحفاظ على نظام بيئي صحي، بجانب أنها تسهم في السيطرة على مجموعات الحشرات، وهي كذلك مصدر بالغ الأهمية لعمليات التلقيح.
الخفافيش ليست كائنات عمياء، وبعض أنواعها يمكنه الرؤية أفضل من البشر بثلاث مرات.
في جنوب غرب أمريكا وفي المكسيك، تلقح الخفافيش نباتات الصبار. هنا لا تقتصر أهميتها على الجانب البيئي، بل إن هذا بالتحديد ما يجعل منها ضرورية لإنتاج «التكيلا»، المشروب الكحولي الذي يسهم في الاقتصاد.
تكيَّفت الخفافيش بشكل فريد مع بيئتها، وطورت ألعابًا بهلوانية فريدة من نوعها للهبوط رأسًا على عقب. فعن طريق شد أحد الجناجين على مقربة من الجسم وتمديد الجناح الآخر، يستخدم الخفاش القصور الذاتي ليتأرجح في جزء صغير من الثانية.
من المفاهيم الخطأ المنتشرة حول الخفافيش أنها كائنات عمياء. هذا غير حقيقي على الإطلاق، فبعض أنواع الخفافيش يستطيع الرؤية أفضل من البشر بثلاث مرات. لكن الخفافيش، باعتبارها كائنات ليلية، تستخدم تقنية خاصة تُدعى «تحديد المواقع بالصدى»، تسمح لها بتحديد موقع فرائسها بسهولة.
لم تمر حالة الخفافيش التي تطير على جزر تيومان في ضوء النهار على العلماء دون أن يلحظوها، بل استخدموها معبَرًا للإجابة عن السؤال التطوري الذي يطرح نفسه: لماذا الخفاش كائن ليلي من الأساس؟
لأكثر من 40 عامًا مضت، مع بداية دراسة سلوك هذه الحيوانات بشكل موسع، طرح العلماء عددًا من النظريات بخصوص سلوك الخفافيش، وتفضيلها الليل على النهار. كان أحد التفسيرات أن «المنافسة مع الطيور»، التي لم تكن في صالح الخفافيش بطبيعة الحال، هي السبب الأساسي في ابتعاد الخفافيش عن ضوء النهار وتفضيلها الليل.
الطيور التي نافست الخفافيش تنقسم إلى نوعين:
- طيور تعتمد على نفس مصدر الغذاء
- طيور تستهدف الخفافيش نفسها مصدرًا لغذائها، مثل الصقور والعقبان
في الحالتين، تقول النظرية إن هذا كان السبب الذي جعل تلك الثدييات الطائرة تبتعد عن ضوء النهار منذ نحو 54 مليون عام، في الوقت الذي تطورت فيه من أسلاف بعيدة لتصبح الكائنات التي نعرفها الآن.
تلعب الجزر دورًا مهمًّا في مجال دراسة علوم الحيوانات، خصوصًا لو تعلَّق الأمر بسلوكها، فالجزر مساحة معزولة من الأرض، ما يعني غياب التأثيرات المختلفة الأخرى.
نظرية أخرى تقول إن السبب ربما يكون قدرة تحمُّل الخفافيش للحرارة المنخفضة، فأجنحتها الرقيقة والداكنة تمتص أشعة الشمس بسهولة. بناءً على ذلك، قد تخاطر الخفافيش بارتفاع درجة حرارة أجسامها إذا خرجت في النهار.
هل هي مسألة حرارة؟
ينقل المقال أن «جون سبيكمان»، عالم الحيوان في جامعة أبردين الإسكتلندية، بدأ إجراء دراسات حول النشاط الليلي للخفافيش في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وكان ذلك في الغالب بسبب أنه لم يجد إجابة مُرضية.
لاختبار الفرضيات المطروحة، بحث سبيكمان عن مكان يتحقق فيه غياب المنافس أو المفترس أو كليهما، مثل جزيرة.
تلعب الجزر دورًا مهمًّا في مجال دراسة علوم الحيوانات، خصوصًا لو تعلَّق الأمر بسلوكها، أو في حالتنا هنا، بتغيُّر واضح في هذا السلوك.
تمثِّل الجزر مساحة معزولة من الأرض، ما يعني غياب التأثيرات المختلفة، وإمكانية عزل سلوكيات بعينها ودراسة أسبابها.
لنفهم لماذا تطير الخفافيش ليلًا، يجب علينا النظر في شواذ القاعدة، لنرى ما يفعلونه وما يحدث.
المثال الأشهر دائمًا هو وصول تشارلز داروين إلى جزر غالاباغوس النائية. مثَّلت عينات الحيوانات والطيور التي جمعها داروين من هذه الجزيرة فرصة نادرة لاختبار فرضياته وأفكاره. الأمور على الجزر أكثر وضوحًا دائمًا، ما يعني فرصة أكثر في دقة الدراسة.
جزيرة أخرى مثالية للدراسة
وجد سبيكمان ضالته في جزيرة ساو ميغيل الواقعة قبالة الساحل الغربي للبرتغال. تمثل هذه الجزيرة موطنًا للخفاش آكل الحشرات المسمَّى «خفاش الآزور» (Azores Noctule)، وهو النوع الذي قرأ سبيكمان أنه شُوهد يحلِّق في وَضح النهار.
بالنظر إلى أن الجزيرة تمثل موطنًا لطيور لا تتغذى على الحشرات، ولا يوجد فيها طيور مفترسة أيضًا، فقد بدت نقطة انطلاق جيدة، فلا يوجد ما ينافس الخفافيش.
يقول سبيكمان إنه «لنفهم لماذا تطير الخفافيش ليلًا، يجب علينا النظر في شواذ القاعدة، لنرى ما يفعلونه وما يحدث». لذلك، سافر هو وزميله إلى هذه الجزيرة. وفي غضون ساعات قليلة من وصولهم، شهدوا ما كانوا يبحثون عنه: خفاشًا يطير في وضح النهار.
خفافيش النهار: سلوك استثنائي يرتبط بأمر ثابت
رغم أن وجود الخفافيش التي تطير في النهار نادر، فإن سبيكمان كان موهوبًا في إيجادها، سواءً في بر أوروبا أو بالقرب من دائرة القطب الشمالي. بهذا، قدمت تلك الجزر التجارب الطبيعية التي أرادها سبيكمان والباحثون الآخرون لاختبار كل نظرية على حدة.
في عام 1995، تعاون سبيكمان مع باحثة سافرت إلى ساموا (دولة تتكون من مجموعة جزر جنوبي المحيط الهادي) لاختبار فرضية ارتفاع درجة حرارة «ثعلب ساموا الطائر»، وهو الخفاش المستوطن الذي يرتفع في طيرانه بالتزامن مع ارتفاع الحرارة خلال النهار.
قارنت الباحثة توقيت ظهور الخفافيش لتناول الفواكه، بتغيرات الطقس السنوية في الجزيرة، ولاحظت أن الخفافيش تتجنب، بطريقة منتظمة، الساعات الأكثر حرارة، لكنها لا تزال تظهر خلال النهار بشكل متكرر.
تشير هذه الملاحظات إلى أن الفرضية القائلة بأن الخفافيش تحولت إلى كائنات ليلية لتتجنب ارتفاع درجات الحرارة، غير صحيحة.
في أماكن أخرى، قد يكون المفترس والمنافس أو كلاهما غائبًا، ما يتيح للخفافيش فرصة الظهور خلال النهار. إنه سيناريو مثالي، خصوصًا للخفافيش التي تقتات على الحشرات، لأن عدد الحشرات يكون أكثر بمعدل مئة مرة خلال النهار.
بين عامي 2009 و2010، سافر عدد من العلماء إلى جزيرة ساو تومي في خليج غينيا، غرب الغابون. كان هدفهم تسجيل نشاط أنواع الخفافيش في الجزيرة، تحديدًا خفاش «Noack». ولأن الجزيرة تفتقر إلى الطيور المفترسة، فقد توقع العلماء ظهور الخفافيش في وضح النهار. وبالفعل وجدوها تصطاد بانتظام من التاسعة صباحًا حتى الثالثة أو الرابعة بعد الظهر. بدا واضحًا أن الخفافيش التي تطير في النهار هي الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
الأمر إذًا يرتبط بالمنافسة. والآن يمكننا أن نضع هذه النتائج بجوار بعضها، لنتوصل إلى السبب الذي من أجله ينحو حيوان معين مثل الخفاش إلى سلوك بعينه. كل سلوك هو ببساطة تراكم لعدد كبير من المؤثرات التي أدت لظهوره في حالته الآنية. وظيفة العلماء هنا دائمًا هي البحث عن تلك المؤثرات.