نعرف عن سانتا كلوز/بابا نويل أنه رجل عجوز وردي البشرة، دائم السعادة، بدين، يرتدي الأحمر دائمًا، يعيش في القطب الشمالي مع زوجته والأقزام الذين يصنعون الهدايا والأيائل التي تجُر زلاجته السحرية. يشبه تمامًا الجد الذي يزورنا في الأعياد.
لا يصعب على الكبار إدراك خيالية هذه القصة، إلا أن الروايات التاريخية تقترح أن حكاية سانتا كلوز تستند إلى قصة حقيقية، وأنه ليس سوى «القديس نيكولاس»، المولود في عام 270 بعد الميلاد لأسرة ثرية، والأسقف الذي عاش في مدينة ميرا في آسيا الصغرى.
استخدام سانت نيكولاس كل ثروته لمساعدة الفقراء وتقديم الهدايا لأطفالهم، ومن هنا يأتي التشابه بين سانتا كلوز الحالي والشخصية القديمة التي قد يكون استُنبط منها.
إلا أن هيئة سانتا كلوز الحالية تختلف كثيرًا عن سانت نيكولاس، ولا يربطهما سوى الاسم نفسه وسعادتهما المتواصلة وتقديمهما الهدايا. اكتشفت أبحاث جديدة أن ملامح سانت نيكولاس تختلف كثيرًا عما كنا نتصوره عليها. في إحدى الرسومات القديمة للقديس نيكولاس في كنيسة في روسيا، يظهر هزيل الجسم والوجه.
في عام 1951، عند إصلاح الكنيسة التي دُفن بها جنوبي إيطاليا، التقط علماء الأنثروبولوجيا الوجهية عددًا من الصور الشعاعية للعظام والجمجمة والقياسات الدقيقة. وجد العلماء أن ملامح سانت نيكولاس تشير إلى أنه رجل في منتصف العمر، ذو ملامح شرق أوسطية ولحية طويلة، والصورة ثلاثية الأبعاد تشير إلى أن بشرته قمحية اللون وعينيه بنيتان، وأنفه مكسور، الأمر الذي يحطم الافتراض الذي يُنصِّب الرجل الأبيض القوقازي بطلًا لكل الأحداث التاريخية المهمة في الوعي الجمعي.
استغرقت صورة سانتا كلوز مراحل كثيرة لتصبح بالشكل الذي نعرفه الآن. كانت البداية في 1809، حين صور الكاتب الأمريكي «واشنطن إيرفنغ» سانت نيكولاس مستقرًّا فوق مدخنة منزل بعربته الطائرة، يوزع الهدايا على الأولاد والبنات.
كوكاكولا وسانتا كلوز
في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت شركة كوكاكولا تبحث عن طرق لزيادة مبيعاتها خلال فصل الشتاء، فاستعانت برسام موهوب يُدعى «هادون ساندبلوم»، ترك رسومات زيتية لا تُنسى لسانتا كلوز، مستوحاة من قصيدة «كليمنت كلارك مور»: «زيارة من سانت نيكولاس»، التي كتبها عام 1822، وأوحت إليه أن يجعل صورة سانتا دافئة وودودة ومبهجة وحقيقية.
كان يجمع بين سانتا وشركة كوكاكولا اللون الأحمر نفسه. وشعار الحملة كان «أرفع قبعتي، للوقفة التي تنعشني».
طلبت الشركة من ساندبلوم أن يرسم سانتا الحقيقي بملامح معينة، وليس مجرد رجل بدين يرتدي بدلة حمراء.
سانتا الذي رسمه ساندبلوم ظهر لأول مرة عام 1931، واستمر في الظهور بانتظام في مجلة «The Saturday Evening Post»، ومجلات أخرى مثل «National Geographic» و«The New Yorker».
كوكاكولا واحدة من أهم أسباب ثبات الصورة الحديثة لسانتا كلوز في الوعي العام.
قدَّم ساندبلوم نسخته الأخيرة لسانتا كلوز عام 1964، لكن لعقود عدة استخدمت كوكاكولا إعلانات كثيرة مبنية على أعمال ساندبلوم الأصلية لسانتا.
اللوحات الأصلية أصبحت الآن من أكثر القطع الثمينة في المجموعة الفنية للشركة، وعُرِضَت في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك متحف اللوفر في باريس ومتحف العلوم والصناعة في شيكاغو.
أصبحت إعلانات كوكاكولا السنوية تتميز برسومات ساندبلوم لسانتا وهو يحمل زجاجات كوكاكولا أو يشربها أو يتلقاها هدايا، ما جعل صورته ترتبط بهذا المشروب، وحفز مبيعات كوكاكولا طول فصل الشتاء وموسم الكريسماس. وإلى جوار ذلك، نجحت الشركة في كسب شريحة جديدة من المشترين: الأطفال.
تعد كوكاكولا أحد أهم أسباب ثبات الصورة الحديثة لسانتا كلوز في الوعي العام، وبخاصة في الحقبة التي تسبق ظهور التلفزيون، وقبل انتشار الصور المتحركة الملونة والاستخدام الواسع للألوان في الصحف.
إعلانات كوكاكولا وعروض المتاجر كانت المقابلة الأولى لكثيرين مع سانتا كلوز الحديث. لم تخلق كوكاكولا صورة سانتا، وإنما استعارتها بهدف التسويق لمنتجاتها.
لكن كوكاكولا ليست الشركة الوحيدة التي استغلت شهرة تلك الشخصية، إذ ظهر سانتا كلوز في إعلانات أخرى كثيرة، منها إعلان لشركة مياه عام 1915، وإعلان شركة سجائر تركية عام 1919، وإعلانات شوكولاتة ويتمان عام 1935، وإعلانات للسيارات والهواتف المنزلية والمجلات والآلات الكاتبة والنظارات الشمسية. وفي 2011، ظهر سانتا في إعلان لهاتف «IPhone 4s»، وفي 2013 لشركة شيفروليه.
استُغِلَّت شخصية سانتا كلوز أيضًا للترويج للحروب، وساعدت أكثر السنوات دموية في أمريكا في إنتاج الصورة المعروفة عن سانتا كلوز.
خلال الحرب العالمية الأولى، تحول سانتا إلى شخصية وطنية مثل العم سام، وأُنتجت أعمال فنية تصوره مع الجنود.
في ستينيات القرن التاسع عشر، أنجز الرسام السياسي «توماس ناست» رسم سانتا كلوز لأول مرة في تاريخه.
ناست، الذي اكتسب شهرته لاحقًا بسبب رسمه الفيل رمز الحزب الجمهوري والحمار رمز الديمقراطيين، انضم إلى صحيفة «هاربر» الأسبوعية عام 1862، التي كانت واحدة من أكثر الصحف قراءة خلال الحرب الأهلية الأمريكية. في الثالث من يناير 1863، كانت رسمة ناست لسانتا كلوز غلاف الصحيفة.
رسم ناست سانتا كلوز مع مزلقة تدفعها حيوانات الرنة، بلحية بيضاء طويلة، ويرتدي معطفًا مغطَّى الفرو وهو يزور أحد معسكرات جيش الاتحاد.
لم يكن رداء سانتا كلوز أحمر اللون، بل كان يرتدي سترة زرقاء ممتلئة بالنجوم البيضاء، وسروالًا مقلمًا بالأبيض والأحمر، وتقول الصورة: «مرحبًا سانتا كلوز».
رسم ناست صورًا أخرى لسانتا داخل إطار الحرب لنفس إصدار «هاربر» الأسبوعي. واحدة منها تصور جنديًّا وحيدًا من الاتحاد عشية عيد ميلاد 1862، جالسًا يحمل صور عائلته، بينما تصلي الزوجة في البيت كي يعود آمنًا إلى المنزل، والأطفال نائمون يحلمون بسانتا. هناك أيضًا صور لسانتا وهو يتسلق مدخنة ويخترق أرضًا تابعة للاتحاد ليسلم الجنود الهدايا.
لم تكن الحرب الأهلية المرة الوحيدة لمشاركة سانتا في الحروب. فخلال الحرب العالمية الأولى، تحول سانتا إلى شخصية وطنية مثل العم سام، إذ أنتجت الحكومة الأمريكية إعلانات وأعمالًا فنية تصوره مع الجنود.
عندما وصلت الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة بقصف بيرل هاربر قبل أسابيع من عيد ميلاد عام 1941، انتشرت صور سانتا كلوز مرة أخرى للمساعدة في الجهود الحربية. حثَّ سانتا الأمريكيين على شراء سندات الحرب، والحفاظ على الموارد، وأكد أهمية الصمت لمنع تسريب المعلومات إلى العدو.
نعرف من أغنية «Mrs. Santa Claus»، التي سجلها «نات كينغ كول»، أن السيدة كلوز «تطعم الرنة كل القش، وتلف الهدايا، وتعد الزلاجات، وتحافظ على بدلته الحمراء نظيفة، وتقدم له المشورة، وتقرأ رسائل الأطفال»، بينما يقضي الأقزام وقتًا كبيرًا في تصنيع ألعاب الأطفال.
وفي أغنية «We Are Santa's Elves»، نتعلم أن الأقزام «يعملون بجد طوال اليوم، ويملأون رفوف سانتا بألعاب لكل الأطفال». وفي أغنية «Ten Little Elves»، نراهم يعملون في تناسق بينما يخيطون ويرسمون وينشرون ويطرقون ويلفون الهدايا. بعبارة أخرى، يبدو أن القطب الشمالي مصنع كبير، والأقزام هم القوة العاملة فيه.
لذلك لو كانت الرنة تجر الزلاجات، والأقزام تصنع الألعاب، والسيدة كلوز تساعد في تسهيل هذه الأمور، ما الذي يفعله سانتا بالضبط؟ لا يفعل شيئًا، لكنه مع ذلك ينال كل الفضل على العمل الشاق الذي أنجزه الآخرون.
بالنسبة إلى غالبية الناس، لا يعني عيد الميلاد أكثر من مجرد عقوبة لعمال البيع والإنتاج.
يحاول سانتا كلوز أن يلهي الناس عن الظروف القاسية المحيطة بوجوده عن طريق أساطير غير حقيقية، كرضا العمال مثلًا، إذ نرى الأقزام الصغار سعداء طوال الوقت وهم يصنعون ألعابًا في مصنع سانتا لأنهم يريدون فقط أن يجلبوا الفرحة للأطفال. لكن كل سلع عيد الميلاد الحقيقية يصنعها العمال، وفي كثير من الأحيان أطفال، في مصانع مقابل أجور زهيدة، وفي ظل ظروف غير إنسانية.
يعزز سانتا أسطورة أخرى، هي أن الأطفال الطيبين يستيقظون ليجدوا هداياهم. بينما آلاف الأطفال يذهبون إلى النوم كل ليلة وهم يعانون من الجوع. بالنسبة إليهم، يعني عيد الميلاد تمهيدًا للعمل المكثف بشكل عقابي. يمكن تفسير قوة هذه الأسطورة بأنها تخدرنا، نغمض أعيننا عن المعاناة، فننام، وفي الصباح نحصل على ما نتمناه. النسيان ثمن الامتياز.
يمكن اعتبار القصص الكثيرة عن سانتا آلية دفاع مشترك، إذ تظهر على شكل سلسلة من القصص والأساطير التي تحافظ على نظرتنا للعالم، وتجعل الواقع مقبولًا.
إذا فكرنا في سانتا كلوز بهذه الطريقة، نجد أنه بالنسبة إلى غالبية الناس لا يعني عيد الميلاد أكثر من مجرد عقوبة للعمال في الخدمة والبيع والإنتاج. لكن التفكير في الظروف المستغلة للمصانع من شأنه أن يثبط بهجة العطلة، وبدلًا من ذلك نُذكِّر أنفسنا بسانتا كلوز والهدايا والأقزام السعيدة.