بين طموح الشباب وقلقهم من المستقبل وجودة الحياة التي سيعيشونها، وما ينتظره منهم الأهل والمجتمع: دراسة تخصص معين، الزواج، الإنجاب، العمل، أو حتى التفرغ لرعاية الأطفال والتغيرات السريعة في الحياة. بين كل ذلك، تنشأ أزمة ربع العمر.
بعد التخرج في الجامعة، نخرج من مرحلة مرسومة لنا منذ الطفولة إلى خيارات الحياة الواسعة، ففي فترة قصيرة يجب علينا التخطيط للمستقبل واتخاذ عدة قرارات مصيرية.
«بدأت أزمتي من سن الثانية والعشرين عندما اكتشفت إصابتي بسرطان المخ، وعندما قررت إخبار عائلتي عن تعرضي للاغتصاب. منذ ذلك الوقت تغيرت حياتي جذريًّا، قررت أن أنفصل عن عائلتي وأعيش بمفردي وأعول نفسي، وأن أواجه كل من يحاول إجباري على شيء لا أريده».
«قررت أن أواجه العالم رغم إصابتي بالسرطان، وبالمقابل بدأت رحلة الإلحاد التي استمرت ثلاث سنوات وانتهت بعودتي للإيمان».
«بدأت أنطوي على نفسي ولا أخرج إلا للضرورة، جربت تعاطي المخدرات وسلكت كثيرًا من الطرق الخطأ. في المقابل جربت قراءة الكتب واكتشفت أن القراءة أكثر ما أحببته في الحياة، والآن أعيش بها ولأجلها».
هكذا تصف الفتاة السودانية مريم (29 عامًا) تجربتها مع أزمة ربع العمر لـ«منشور».
ما أزمة ربع العمر؟
«أليكس فوك»، الطبيب النفسي الإكلينيكي، يعرِّف أزمة ربع العمر بأنها «فترة من انعدام الأمن والشك وخيبة الأمل حول حياتك المهنية والعلاقات والوضع المالي».
يفسر فوك الأمر بأنه ينبع من فترة من الحياة بعد التغيرات الرئيسية في مرحلة المراهقة، عندما يبدأ كل واحد في التشكيك في حياته ومواجهة الضغوط التي يواجهها الكبار.
«ألكسندرا روبينز» و«آبي ويلنر»، مؤلفتا كتاب «Quarterlife Crisis»، كانتا أول من استخدم مصطلح «أزمة ربع العمر» لوصف حالات القلق التي تصيب الشباب.
ما أعراض أزمة ربع العمر؟
ليس لديك هدف، لا تعرف أين تتجه حياتك، لا تشعر بالأمان: هذا ما تدور حوله أزمة ربع العمر.
ذكرت صحيفة «الغارديان» نتيجة المقابلات والأبحاث التي أجراها الدكتور «أوليفر روبنسون» في جامعة غرينيتش الإنجليزية، والتي أكدت أن أزمة ربع العمر تمر بأربع مراحل:
- تشعر بأنك عالق في الوظيفة أو العلاقة أو كليهما
- تشعر بقدرتك على التغيير
- تبدأ في بناء حياة جديدة
- ترسِّخ التزامات أكثر انسجامًا مع المصالح والقيم والاهتمامات الشخصية
إذا كنت تشعر بهذه الأعراض، فاطمئن، لست وحدك.
موقع «لينكد إن»، أكبر شبكة مهنية في العالم، أجرى دراسة في أمريكا وإنجلترا والهند وأستراليا توصلت إلى أن 75% من الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و33 عامًا تعرضوا لأزمة ربع العمر.
«هذا ما تدور حوله أزمة ربع العمر. ليس لديك هدف واضح، لا تعرف أين تتجه حياتك المهنية والشخصية، لا تشعر بالأمان». هكذا توضح أسماء من الكويت (34 عامًا): «مررت بأزمة ربع العمر بعد السابعة والعشرين، لأن حياتي قبلها كانت حافلة جدًّا بالدراسة والمؤتمرات الخارجية والدورات، وفجأة انتهى كل شيء وبدأ مشوار الوظيفة الممل».
سبب أزمة أسماء كان مرض عضوي أثَّر فيها بشكل سلبي، فاتجهت إلى دراسة العلوم الصحية والطبية لفهم الحالة، ونجحت بالفعل في تخفيف وطأة تلك المشاعر عن طريق نقل تجربتها إلى الآخرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتتابع أيضًا أحدث ما استجد من دراسات وأبحاث علمية متعلقة بالموضوع.
يحتاج المرء إلى وضع خطط قصيرة وطويلة الأجل منذ الصغر، وفقًا لما تحكيه أسماء لـ«منشور»، على ألا تخلو تلك الخطط من المرونة، حتى لا تشكل تحديات وعقبات في حال عجزنا عن تحقيقها، لأن «الإنسان دون غاية وهدف معرَّض للأزمة والشعور بالحيرة والضياع».
أما السعودية صفية (22 عامًا) فتخرجت وسقف توقعاتها مرتفع: «اعتقدت أني سأجد الوظيفة تنتظرني فور تخرجي. قررت أن أرتاح عدة أشهر ثم أبحث عن وظيفة، لكن ضغط المجتمع والأهل جعلني أتقدم لوظائف لم أتخيل نفسي يومًا فيها. تقدمت لوظيفة التعليم ولم أجد قبولًا، ومع ضغط الأهل اضطررت إلى التقدم لوظيفة بعيدة كل البعد عن تخصصي ورغبتي».
وقعت الفتاة في حيرة. بعد شهر من التخرج حصلت على وظيفة لم ترغب فيها في مركز تسوق، لكنها قبلتها كي «لا تحتاج إلى أحد». لكنها لم تستمر أكثر من يوم واحد، وتركت العمل في اليوم التالي: «لم أندم. أصبحت عاطلة عن العمل عدة شهور، واستمررت في حضور المقابلات الشخصية لأعمال لا أريدها، وزاد شعوري بالضياع والحيرة والتخبط، ولم أكن متأكدة من أن ما أفعله صحيح».
ما حدث أنها اكتشفت شغفها بالمطبخ، وتحديدًا خبز الكعك والحلويات: «قررت أن أبدأ مشروعي لبيع البسكويت، وصرت سعيدة لقدرتي على إثبات نفسي في عمل أحبه. قد لا تكون هذه وظيفتي الأساسية، لكني سعيدة بعمل ما أحب».
حسبما تذكر الباحثتان ألكسندرا روبينز وآبي ويلنر في كتابهما، كان الناس يفكرون في أنهم لا بد من أن ينجزوا شيئًا ما عندما يصلون إلى سن الخامسة والأربعين، أما الآن فصاروا يفكرون بالطريقة ذاتها في سن الخامسة والعشرين.
المثال الحي على هذا هو ما يوضحه لـ«منشور» الشاب المصري حمدي (25 عامًا): «في اللحظة التي ندرك فيها أن العشرينيات ليست كما تخيلنا، نبدأ بالخوف».
يصف حمدي بداية شعوره بعدم الأمان عندما اشتعلت ثورة يناير: «أحسست بعدم الأمان لأسباب كثيرة، منها عدم الاستقرار الدائم في بلادنا والأحوال الاقتصادية التي تطيح بي كل يوم. لديَّ إيمان دائم بأن المستقبل يأتي من خياراتي في الحاضر، لذلك أحسب اختياراتي ونتائجها. مررت بأزمة ربع العمر قبل أن أبلغ خمسة وعشرين سنة، وأظن أنني لست الوحيد، فعندما خضنا ثورة يناير نضجنا سريعًا».
«كانت لحظات مصيرية عشتها وجيلي في سن المراهقة، وكان علينا الاختيار بين الاستمرار في طريقنا أو اتباع طريق الأولين. ثُرنا وخفنا من الحاضر قبل المستقبل، وها هي الحياة ترعبنا أكثر فأكثر».
بينما تجد الخوف يلازم السعودية وجدان (26 عامًا) لأنها لا تفضِّل فكرة الاستقرار: «أحب أن أغير خططي كل سنة. قبل أن أعمل، كان الأمان المادي أهم هدف، وبعد تحقيقه تلاشى الخوف نوعًا ما. يهمني أن تكون حياتي ذات جودة عالية، وأسعى لأهدافي، لكن بشكل بطيء لضمان الاستمرارية. قد أتوقف قليلًا وأراجع نفسي وأحسب الخطوة والعقبات والعواقب، وهذا سبب عدم تقدمي بشكل سريع».
يصف الكاتب البريطاني «داميان بار»، في كتابه «A Guide to Surviving Your Quarterlife Crisis»، حجم وجود الأزمة فيقول: «كثير من الناس يقولون إن الأزمة لا وجود لها، لكن الحقيقة أن سن العشرينيات اليوم ليس كما كان زمان آبائنا، فأن تكون في العشرينيات الآن شيء مخيف، لأنك ستقاتل الملايين من الخريجين للحصول على وظيفتك الأولى، وتكافح لشراء مسكنك، وفي نفس الوقت ينبغي عليك إيجاد الوقت الكافي للعناية بعلاقاتك الشخصية».
تحدثنا نضال من مصر (21 عامًا) عن أن أزمة ربع العمر تأتيها على فترات متباعدة، لكن «كل مرة تأتي يكون تأثيرها سيئًا: أحس بالنقص مقارنة بمن حولي في الواقع، أو بمن في العالم الافتراضي، دائمًا أشعر بأنني كبرت، أوشك عمري على الانتهاء ولم أنجز شيئًا. لم أصر عظيمة. طبعًا كل هذا طبقًا لتعريف النجاح على الميديا، أن من يُنجز أشياء عظيمة في سن صغيرة ويصبح مشهورًا وغنيًّا، هو من يستحق الاهتمام».
مؤخرًا، تحاول نضال تفادي النوبات. كلما تشعر بها تذكِّر نفسها بأنها لا تحمل أي منطق، وأن العمر لا يزال أمامها: «الأهم أني وضعت تعريفات أخرى للنجاح والإنجاز، بل استبدلت بهما مصطلحين آخرين: الرضا والسعادة».
النساء معرضات لأزمة ربع العمر أكثر من الرجال بنسبة من 56% إلى 61%، بحسب بعض الدراسات، والوظيفة ليست السبب الرئيسي لأزمة ربع العمر، بل التفكير في أن شراء منزل أو سيارة قد يكون صعب المنال.
ما الحل؟
تذكر أن الآخرين في مراحل مختلفة من رحلتهم، لذلك لا تقارن نفسك بهم مهما يكن تعريفك للنجاح.
تقدم صحيفة «الإندبندنت» بعض الحلول لتخطي أزمة ربع العمر، تقوم على عدم ترك الشعور باليأس يتسلل إليك، بل التعامل مع الأزمة على أنها فرصة للرجوع خطوة إلى الوراء ومعرفة ماذا تريد.
يشارك «دارين فراز»، خبير الوظائف في «لينكد إن»، أهم نصائحه للتعامل مع أزمة ربع العمر:
- توقف عن مقارنة نفسك بالآخرين
هناك طريقة مؤكدة لتعزيز شعورك بخيبة الأمل، وهي مقارنة حياتك المهنية بالآخرين. تذكر أن الآخرين في مراحل مختلفة من رحلتهم، لذلك لا تقارن نفسك بهم مهما يكن تعريفك للنجاح أو ما يجعلك سعيدًا بما فيه الكفاية.
- خذ خطوة إلى الخلف وحدد السبب الجذري للمشكلة
اكتب ما يجعلك أكثر عصبية: عدم توفُّر الأموال؟ عدم السعادة في مجال عملك أو علاقاتك الشخصية؟ عند تحديد المشكلة ستستطيع الوقوف في المكان الصحيح والتحدث مع الآخرين.
- كن لطيفًا مع نفسك
اجتياز أزمة ربع العمر قد يكون عملية صعبة، لا تفاقمها بأن تصبح أسوأ منتقديك، وتذكَّر أنها تجربة إيجابية تمكنك من إحداث تغيير في حياتك المهنية والشخصية، ما يجعلك أكثر سعادة على المدى الطويل. كما ترى، الأزمة لا تدوم إلى الأبد.
- تحدث إلى الآخرين
مناقشة مشاعر استيائك مع الآخرين قد يساعدك على حل المشكلة، والحصول على وجهة نظر غير متحيزة من شخص لديه خبرة في مجال عملك سيكون جيدًا.
- ابحث
بعد مناقشة حالتك مع الآخرين، ابتعد وابحث في خياراتك، والأهم: ابحث عن شغفك، سواء ستبدأ مهنة جديدة أو تسافر أو تطور نفسك في مجالك الحالي.لكن من الضروري أن تكون مدركًا لإمكاناتك.
قد نشعر بأن الأيام تلاحقنا، وأن الحياة تضيع من بين أيدينا، لكن انشغالنا بالقلق حول المستقبل قد يجعلنا لا نشعر بالوقت الا وقد ضاع، ونحن لم نعش عمر الشباب، ولم ننجز
شيئًا. أول خطوة لتحرير نفسك من العيش بهذا القلق الدائم هو الاعتراف بالمشكلة ومشاركتها مع أقرانك ممن يمرون بنفس المشكلة، أو استشارة ذوي الخبرة ومن تجاوز أزمة ربع العمر، ثم اتخاذ قرار بعدم السماح للقلق بالسيطرة على حياتك.