تراجع وجود الصحف الورقية بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، حتى أصبح من النادر أن ترى أحدهم يمسك بجريدة في المواصلات مثلًا، وكاد مشهد تجمُّع القراء حول بائع الصحف يختفي، لكن لا يخفى على أحد دور الإصدارات الإلكترونية في انحسار مبيعات الصحف الورقية وعزوف القراء عن استخدامها.
وفي الوقت الذي وفرت فيه المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي بديلًا أكثر سرعةً ومواكبةً لطبيعة العصر الذي نحياه، نجد أن القارئ في غمار تدفق الأخبار يغفل عن ميزات الاعتماد على الصحف الورقية، ميزات لم تتوقف فقط عند الحنين إلى الماضي، أو الارتياح عند قراءة المطبوعات مقارنةً بالقراءة من الشاشات، بل ميزات لها تأثير جذري في الحياة اليومية للإنسان، وربما سعادته وإنتاجيته، وهو ما تعرضه جريدة «نيويورك تايمز» في تقرير لها.
شهران من دون صحف إلكترونية
بمتابعة الأخبار عن طريق الصحف المطبوعة، تتخلص من إدمان متابعة الوسائل الإلكترونية المختلفة، فيتسع الوقت لقراءة كتب أكثر.
أجرى كاتب التقرير «فارهد مانجو» تجربة جديدة لاستبيان الفارق بين الاعتماد على الصحف الورقية والإلكترونية، إذ ظل طوال شهرين يعتمد على المطبوعات الورقية فقط لاستقاء الأخبار ومتابعة الأحداث الجارية على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، أو على المستوى المحلي لمدينة سان فرانسيسكو حيث يقيم، واقتصر على متابعة ثلاث صحف ورقية هي «وول ستريت جورنال» و«التايمز» و«سان فرانسيسكو كرونيكال»، إضافة إلى المجلة الأسبوعية «الإيكونوميست».
حاول مانجو تخفيف كثافة الأخبار في حياته اليومية. صحيح أن اهتمامه بمتابعة آخر الأخبار لم يقل، لكنه أراد أن تكون متابعته للأحداث أكثر عمقًا ودقة حتى لو على حساب سرعة وصول تلك الأخبار إليه، ما كان له بالغ الأثر في نمط حياته وتقليل إحساسه بالتوتر، وما يصحبه من آثار سلبية.
اكتشف مانجو أنه لم يصبح فقط أقل توترًا عندما أسكت تلك الكمية الكبيرة من إشعارات الأخبار العاجلة التي كانت تقتحم حياته في أي وقت من يومه، بل شعر بمتابعة الأخبار عن طريق الصحف المطبوعة بأنه بدأ يتخلص من إدمان متابعة الوسائل الإلكترونية، وكذلك بأن اطلاعه ازداد، لأن التخلص من إدمان الوسائل الإلكترونية خلَّف متسعًا من الوقت سمح له بقراءة عدد أكبر من الكتب، وأتاح له ذلك أيضًا أن يؤدي دوره الأبوي والزوجي على نحو أفضل.
قد يعجبك أيضًا: نُبوءَة «نهاية الكتاب المطبوع» تفضح خوفنا من التغيير
لم يلتفت كثيرون إلى حجم الدمار الذي تسبب فيه استحواذ الإلكترونيات على عالم الأخبار، وما أدت إليه من تعظيم احتمالات التضليل والاستقطاب وتمرير الدعاية السياسية إلى القارئ. ففي ظل تقنيات سهلت فبركة الصوت والصورة بنفس سهولة فبركة النصوص، أصبحنا على أعتاب ما يمكن تسميته «القيامة الرقمية»، ويطالب القراء الآن الحكومات وفيسبوك بإنقاذنا من هذا المصير، إلا أن القارئ يقع عليه الدور الأكبر للتخلص من الأثر السلبي للأخبار المنتشرة عبر الوسائل الإلكترونية.
لخص مانجو دور القارئ في ثلاث نقاط قدمها الكاتب «مايكل بولان».
1. التعليق على الخبر قد يفسده
استباق الأخبار من الظواهر الغريبة على مواقع التواصل، فالتعليقات تبدأ في الانتشار دون حتى صدور تفاصيل القرار.
يرى بولان أنه على القارئ التمييز بين الخبر والتعليق عليه، وبخاصة عند التعامل مع مصادر الأخبار الإلكترونية التي يختلط الأمر فيها أحيانًا بين الخبر ورأي كاتبه، ما يُسهم في زيادة تضليل الجماهير من متابعي مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يعطون أولوية للتعليق على الأحداث أكثر من تناقل تفاصيل الحدث نفسه بحيادية.
ما يحدث في كثير من الأحيان أن مستخدمي مواقع التواصل عندما يتناقلون الأخبار يقتطعون بعض التفاصيل ويركزون على بعضها الآخر، بما يخدم وجهات نظرهم ويثبت صحتها، وهو أمر يعرف الصحفيون أنه غير مهني، لكن القارئ بطبيعة الحال غير مضطر للالتزام بقواعد المهنية الصحفية.
ظاهرة غريبة أخرى على مواقع التواصل هي مسألة استباق الأخبار، فعند ظهور جدل حول قرار سياسي مثلًا نجد التعليقات والآراء تبدأ في الانتشار حول مجرد تكهنات، دون حتى صدور تفاصيل حقيقة عن القرار، ما يُسهم كذلك بشكل مباشر في ضياع الحقائق، وربما زُهد القراء في معرفة مزيد المعلومات عن قضايا بعينها.
مثال ذلك ما حدث عند انتشار تكهنات عن قرار الحكومة المصرية برفع سعر تذكرة مترو الأنفاق، فانشغل الناس بإحصائيات وتحليلات حول رسوم استخدام مترو القاهرة ونظيره في العواصم الأوروبية، ومقارنات عميقة بين دخل الفرد المصري والمواطن الأوروبي، وما صاحب ذلك من تحليلات صادرة عن متخصصين وغير متخصصين، رغم أن كل هذا اللغط سبق القرار الرسمي برفع سعر التذكرة بشهور، فلم يستفد القارئ إلا بشغل حيز من تفكيره من دون داعٍ.
2. التكنولوجيا أسرع من اللازم
تسابق المواقع الإلكترونية على سبق نقل الخبر يتطلب نشر معلومات حتى قبل اكتمال أركانها.
السرعة في تناقل الخبر من أهم ما يميز الوسائل الإلكترونية الإخبارية، لكن السؤال هنا: هل القارئ فعلًا في حاجة ماسة إلى هذا القدر من السرعة الذي يأتي أحيانًا على حساب دقة الخبر؟ أم أن التسابق هذا لا حاجة إليه إلا في المنافسة بين الصحف ووسائل الإعلام المختلفة؟
يرى بولان أن إيقاع الحياة الواقعية أبطأ من سرعة الأخبار العاجلة، فتناقُل الأخبار بشكل طبيعي بين الناس يتطلب وقتًا للتوصل إلى حقيقة ما حدث، والسياق الذي جرت فيه الأحداث، إلا أن الوسائل الإلكترونية لا تسمح بمزيد من الوقت للتحقق من الأحداث واستيعابها بشكل كامل، ما يتيح فرصة تناقل المعلومات المغلوطة وما ينشأ عنها من تضليل.
تسابق المواقع الإلكترونية على سبق نقل الخبر يتطلب نشر معلومات حتى قبل اكتمال أركانها، ما يعني أن القارئ في بعض الأحيان يحتاج إلى تخمين ما يحدث، وليس أن يطَّلع عليه فقط، بعكس الصحف الورقية، التي حتى إن تأخرت يومًا في نشر الخبر، فإنها في النهاية تمنح القارئ مادة مكتملة الأركان بمعلومات موثقة ومحققة من كل الجوانب.
اقرأ أيضًا: كيف يمكن للإنترنت أن يُحدث ثورة حقيقية في حياتنا؟
3. السوشيال ميديا «سيئة»
ربما لا تكون الصحف الورقية قد حازت المزايا التي نتحدث عنها الآن إلا بعد ظهور منصات التواصل الاجتماعي وما بها من عيوب خطيرة، وهو ما ثبت لمانجو عندما تجنب متابعة الأخبار على السوشيال ميديا واكتفى بالصحف الورقية، فأدرك أن الصحف الورقية ليست عظيمة إلى حد كبير، لكن منصات التواصل سيئة للغاية.
ازدياد متابعي الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي يزيد، للأسف، من تأثيرها الكبير، من حيث إعطاء الأولوية لسرعة الخبر على حساب عمقه، وللموضوعات المثيرة على حساب الحقائق السليمة، وللدعاية على حساب التحليلات الثرية للخبر.
يدعوك مانجو إلى تجنب استقاء المعلومات عن طريق منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر، ويؤكد أن هذا سيظهر أثره الإيجابي على المدى الطويل في تحويل حياتك إلى الأفضل.