قالت السيدة دوروثي مارتن في وصف ما حدث لها في ذلك اليوم:
«شعرت بتنميلٍ وخدرٍ في ذراعي، أحسست بسخونةٍ تغزوه من أطراف الأصابع حتى الكتف، دون أن أعرف السبب. التقطت قلمًا وأوراقًا كانت فوق المائدة بالقرب من سريرٍ كنت مستلقيةً فوقه. يدي بدأت في الكتابة بخط مختلف، نظرت إلى خط الكتابة وبدا مألوفًا بشدة، ولكني عرفت أنه لم يكن خطي. عندها أدركت أن شخصًا آخر كان يستخدم يدي».
ما كتبته دوروثي، أو الشخص الآخر الذي يستخدم يدها، في ذلك الصباح من بدايات نوفمبر 1954، كان تحذيرًا من الطوفان القادم من القطب الشمالي، الذي سيتسبب في دمار العالم في تمام السابعة صباحًا من يوم 21 ديسمبر المقبل، التحذير كان قادمًا من كوكب كلاريون، بالتحديد من ناصحها الكلاريوني وصديقها المخلص «زانادا»، ولأن هذه لم تكن رسالته الأولى لها عبر الكتابة الآلية «Automatic Writing»، فقد كان طيبًا معها وأخبرها بأن طبقًا طائرًا مخصوصًا سيأتي من كلاريون لإنقاذها وإنقاذ كل من سيتبعها ويؤمن بها قبل الفيضان.
كانت هذه هي النبوءة الأخطر التي تلقتها السيدة مارتن على الإطلاق، لذا كان لزامًا عليها أن تحذر الجميع. تواصلت دوروثي مع إحدى الصحف المحلية في شيكاغو وحكت عن النبوءة، ويبدو أن العالم كان يفتقر للأخبار المهمة في هذا الوقت من بدايات نوفمبر 54 فجاء خبر نبوءة دوروثي ليملأ فراغًا عانت معه الصحف الأمريكية، وصارت حكايتها خبرًا رئيسيًا في كل الصحف الأمريكية في الأيام القليلة التالية.
وجاء المصدقون. صدق آلاف الأمريكيين النبوءة، آمنوا بأنهم لن يكونوا في أمان إلا لو كانوا هناك، بين يدي السيدة دوروثي، تركوا وظائفهم ودراساتهم وأزواجهم، تنازلوا عن ممتلكاتهم، تركوا وراءهم كل ما يمكن أن يحولَ دون التحاقهم بالطبق الطائر الذي سينجيهم من الفيضان القادم مع حلول الكريسماس ذلك العام. السُعاة أو «The Seekers» كان الاسم الذي أطلقوه على جماعتهم الصغيرة.
واحد من أكثر السُعاة إخلاصًا وتحمسًا للقضية كان «د. تشارلز لوياد»، فيزيائي قدير في جامعة ميشيغان، أو بمعنى أدق فيزيائي قدير سابق بعد أن أُجبر على الاستقالة من منصبه في الجامعة لتدريسه اعتقاداته بنبوءات كلاريون في قاعات المحاضرات.
لم يكن د. تشارلز الأكاديمي الوحيد المقيم وسط الحشود المعسكرة أمام منزل السيدة مارتين، فريق من باحثي علم النفس الاجتماعي «Social Psychology» من جامعة مينيسوتا مكون من ليون فيستنغر، وهينري ريكين، وستانلي شاشتر، وجدوا فيما يحدث مادة بحثية ممتازة.
ولأن علماء علم النفس الاجتماعي يكذبون دائمًا للوصول إلى الحقيقة، أعلن بروفيسور فيستنغر وزميلاه إيمانهم الكامل والمطلق بنبوءة دوروثي ورسائل كوكب كلاريون، فتركوا وظائفهم وحياتهم وانضموا إلى جموع المؤمنين المعسكرين في حديقة منزل السيدة مارتن، منتظرين في تشوقٍ قدومَ الفضائي أو انتهاءَ العالم.
وانتهى العالم في الواحد والعشرين من ديسمبر.
كانت هذه العبارة أفضل نهاية ممكنة للموضوع، لكن ذلك - كما يجب أن تكون قد خمنت عزيزي القارئ - للأسف لم يحدث.
في انتظار المخلص الفضائي
كانت عقارب الساعة تشير إلى 12:05 بعد منتصف الليل، وبدأ الإحباط في السيطرة على القلوب، لم يأت الفضائي.
ما حدث، وهو ما عرفناه من كتاب «عندما تفشل النبوءة: دراسة اجتماعية وسيكولوجية لمجموعة معاصرة تنبأت بدمار العالم» الذي قدمه لنا فيستنغر وزملاؤه بعد عامين من الأحداث، أن «السُعاة» انتظروا كثيرًا وبإيمان صادق قدوم الرجل الفضائي في طبقه الطائر ليخلصهم من كل شيء، النبوءة قالت إنه سيأتي في تمام الرابعة صباحًا في 17 ديسمبر، وعليهم تجهيز أنفسهم للصعود النهائي، وبالطبع يجب عليهم التخلص من أي شيء معدني بحوزتهم، فهذه تعليمات الأمان الفضائية وهي معروفة بالطبع، غير مسموح بالمتعلقات المعدنية على الأطباق الطائرة، لا لبس في ذلك.
وجاء الموعد، قضى السُعاة ما يزيد على الساعة في تأمل السماء بحثًا عما يمكن أن يكون مركبة الرجل الفضائي، لم يأت الفضائي، وعاد السعاة إلى منزل السيدة مارتين. بعد نقاش طويل ومحتدم، وصلوا أخيرًا لنتيجة بدت لهم منطقية للغاية: الفضائي لم يأت لأن هذا كان - بالطبع - اختبارًا لإيمانهم! وليس عليهم الآن إلا التزام أماكنهم وانتظار رسالة كلاريونية جديدة.
اقرأ أيضًا: مزيد من العلماء يرجحون أننا لسنا في عالم حقيقي
وفي 20 ديسمبر جاءت الرسالة المنتظرة، عبر قنوات «الكتابة الآلية» التي تحترفها دوروثي:الرجل الفضائي سيأتي في منتصف الليل، قبل ساعات سبع من نهاية العالم، ليصطحب السعاة المؤمنين إلى حيث «ركن» سفينته الفضائية ويصعد بهم إلى الفضاء - وبالطبع - لا تنسوا التخلص من المتعلقات المعدنية.
جاء منتصف الليل، خيم الصمت على الجميع، إلا من صوت دقات قلوبهم المرتفع بما يكفي لسماع إيقاعه واضحًا كموسيقى تصويرية تضيف إلى المشهد مزيدًا من التوتر السينمائي. كيف يبدو الفضائي؟ لا أحد يعرف، قد يكون أي شخص، أي شيء، قد يكون هذا الرجل الذي يتمشى بالقرب منهم، قد يكون هذا الكلب الذي يبول على الحائط القريب، ربما يتضح أن الفضائي هو هذه الشجرة التي قضوا ليالي طويلة نائمين أسفلها وكان معهم في البداية مراقبًا في صمت. أين هو الفضائي؟ هل جاء ولم يلاحظ أحد؟
كانت عقارب الساعة تشير إلى 12:05 بعد منتصف الليل، بدأ الإحباط في السيطرة على القلوب، لولا ملاحظة ذكية من شخص لماح أعلن أن أحد ساعات الحائط المعلقة داخل المنزل ما زالت تشير إلى 11:55 مساءا، إذًا هناك احتمال لا بأس به أن تكون كل ساعات العالم مُخرِّفة إلا هذه الساعة. علينا الانتظار خمس دقائق أخرى وسيأتي الفضائي حتمًا.
مرت الدقائق الخمس، ولم يأت الفضائي، لم يحدث أي شيء، ظل السعاة في أماكنهم، لا يقدر أحدهم على رفع عينه في عين الآخر، إلا وفد جامعة مينيسوتا الخبيث الذين كانوا يدونون ملاحظاتهم واستنتاجاتهم بحماس مجنون، إنها اللحظة التي جاءوا لبحثها، لحظة فشل النبوءة.
عندما تفشل النبوءة
خرجت دوروثي، وأعلنت أمام من تبقى من تابعيها أنها قد جاءها أخيرًا رسالة من كلاريون تفسر كل شيء.
البعض كانوا يفكرون في حياتهم الماضية وكيف ضحوا بكل شيء في سبيل هذه اللحظة، هل يمكن استعادة كل ما ألقوه وراءهم بلا رجعة؟ الأسرة والوظيفة والممتلكات والكرامة؟ البعض الآخر كانوا يفكرون في أن الفضائيين قد نسوهم وتركوهم للموت مع بقية العالم في فيضان السابعة صباحًا! دوروثي بكت.
اقترب الفجر، رحل عدد لا بأس به من السعاة اليائسين، دوروثي معتكفة في غرفتها مع قلة من أقرب أتباعها المخلصين، الكل ينتظر الكلمة التالية التي ستخرج من فمها. هل حان وقت الاعتراف بأن الأمر كله لم يكن إلا خدعة؟ هل ستعتذر بأنها كانت مشوشة مثلًا واختلطت عليها الأمور وكل تلك النبوءات لم تكن إلا هذيانًا؟
خرجت دوروثي، وأعلنت أمام من تبقى من تابعيها أنها قد جاءها أخيرًا رسالة من كلاريون تفسر كل شيء:
«الجماعة الصغيرة العاكفة هنا طوال الليل، أشاعت من النور الكثير ما جعل الإله يعفو عن الأرض وينقذ العالم من الدمار».
لم يذكر الكتاب أن أحدًا من السعاة غرق في نوبة من الضحك الهيستيري مثلًا على التفسير المرتجل الساذج من دوروثي، إنما قوبل منهم بالحبور والفرحة ورسائل الشكر إلى الإله وكوكب كلاريون والمواطن الكلاريوني «زانادا» على إنقاذهم الأرض من دمار محقق. الإعلام هو من تولى مهمة السخرية من دوروثي وأتباعها بعد فشل النبوة، وهو ما أصابهم بصدمة حقيقية.
قد يعجبك أيضًا: كيف عبرنا عن أنفسنا للكائنات الفضائية؟
درس فيستنغر وزميلاه ما حدث بالتفصيل في كتابهم، محاولين فهم الطريقة التي تعمل وفقها عقول هذه الجماعة وكل الجماعات المشابهة عبر التاريخ، كما عاد للبحث لاحقًا في عام 1957 عندما وضع فيستنغر واحدة من أهم النظريات في تاريخ علم النفس الاجتماعي في كتاب يحمل نفس الاسم «نظرية التنافر المعرفي» أو «Cognitive Dissonance».
وهي النظرية التي جعلت منه أحد نجوم عالم علم النفس الاجتماعي، إذ سيبقى فيستنغر لسنوات بعد ذلك الباحث الأشهر والأهم إلى أن أتى ستانلي ميلغرام في تجربته الشهيرة عن طاعة السلطة في الستينيات، ولكن لهذه حكاية أخرى.
نظرية التنافر المعرفي
أنت شخص صالح، تؤمن بعدد من القيم والمبادئ الواضحة التى لا لبس فيها، ولكنك الآن جائع بشدة ولا تملك ثمن ما يسد جوعك، أنت تمشي في ممر الحلوى في ذلك الهايبر ماركت العملاق، الحلوى على الأرفف تحادثك، تناديك أن تلتقطها وتسد بها جوعك، تلتفت حولك ولا أحد هناك، لا توجد حتى كاميرا تراقبك، يدك تمتد لقطعة من الشيكولاتة الرخيصة، أنت على وشك فض غلافها الآن.
يتجاوز عقلك «التنافر المعرفي» من خلال ثلاثة حلول: تغيير السلوك، أو تغيير الاعتقاد، أو التبرير والعقلنة.
يعرف د.فيستنجر التنافر المعرفي في كتابه بأنه «حالة من التوتر أو الإجهاد العقلي أو عدم الراحة التي يعاني منها الفرد الذي يحمل اثنين أو أكثر من المعتقدات أو الأفكار أو القيم المتناقضة في الوقت نفسه، أو يقوم بسلوك يتعارض مع معتقداته وأفكاره وقيمه، أو يواجَه بمعلومات جديدة تتعارض مع المعتقدات والأفكار والقيم الموجودة لديه».
قد يهمك أيضًا: 10 من أفكار «سيغموند فرويد» المؤثرة في علم النفس إلى اليوم
قلبك يدق بشدة، أصابك ترتعش حول قطعة الحلوى، قطرات العرق تلتمع على جبينك، أنت على وشك ارتكاب فعل يخالف معتقداتك مخالفة صريحة مباشرة، أنت تسرق! أنت تعاني الآن من التنافر المعرفي، وعقلك لا يستطيع أن يبقى في تلك الحالة كثيرًا، سيتجاوزها بأي شكل ممكن. هناك ثلاثة حلول:
- تغيير السلوك - (Change behavior): بتغيير السلوك المسبب للتنافر ينتهي التنافر وتعود لحالة الانسجام مع الذات، فقط ضع قطعة الحلوى مكانها وامض في طريقك.
- تغيير الإعتقاد - (Change Attitude): بتغيير الاعتقاد المسبب للتنافر أو تبديله بآخر ملائم للسلوك، فجأة السرقة لم تعد فعلًا مشينًا إلى هذا الحد، صارت فعلًا غير مستحب نمارسه في حالة الاضطرار فقط.
- التبرير أو العقلنة - (Justification or Rationalization): وهي الحالة التي لا يقدر فيها العقل على تغيير أي من معتقداته أو أفعاله فيبحث عن تبريرات أخلاقية للفعل، لقد أكلت قطعة الحلوى وانتهى الأمر، ما زالت السرقة فعلًا مشينًا. ولكن هذا هايبر ماركت تملكه شركة متعددة الجنسيات مبيعاته اليومية بمئات الملايين، كيف تضرهم اختفاء قطعة حلوى زهيدة الثمن؟ ثم إني كنت جائعًا بشدة، وربما لو استمر هذا الجوع لمرضت، وربما متّ! أنا أنقذت حياتي بتلك القطعة الصغيرة من الحلوى. هذه لم تكن سرقة بالمعنى الحرفي لكلمة سرقة.
في حين يبدو تغيير السلوك أو الاعتقاد هو الحل الأمثل والأكثر منطقية للتنافر المعرفي في أغلب المواقف، إلا أن ما نفعله غالبًا في حياتنا اليومية لا يتجاوز فعل التبرير مهما بدت التبريرات حمقاء مفتقرة للمنطق، فالزوجة التي يضربها زوجها يوميًا تبرر فعله لنفسها دومًا بأنها لا بد قد فعلت ما يستحق العقاب.
صديقك يبرر رسوبه باضطهاد المدرس له، وأنت تعلم أنه لم يدرس للامتحان في الأساس، المدخن يعرف يقينًا أن التدخين يسبب سرطان الرئة، لكنه لا يغير سلوكه ولا اعتقاده، وإنما يجد ألف سبب لتدخين السيجارة التالية، هناك دومًا سيجارة تالية.
دوروثي قالت إن الإله أنقذ العالم من الدمار تأثرًا بإخلاص المؤمنين بدلًا من أن تعترف بهذيانها، السعاة تقبلوا تبريرها بدلًا من الاعتراف بأنهم تركوا حياتهم ساعين وراء سيدة مجنونة.
لذا، يجب أن ندرك الكيفية التي تؤثر بها تصادم المعتقدات في عملية اتخاذ القرارات المختلفة في حياتنا، ربما إن فعلنا سنكون أكثر وعيًا في المرة القادمة عندما نحاول تبرير قرار أحمق أو فكرة خطأ، ربما سنواجه أنفسنا للمرة الأولى، معترفين لذواتنا بحقائق تغافلنا عنها متعمدين، مستبدلين إياها بالتبريرات الساذجة التي لطالما وفرت لنا راحة لحظية و انحدارًا مستمرًا إلى القاع.