ينتابنا هلع جلجامش: العالم الحقيقي يحدث في أذهاننا

التصميم: منشور

صالحة عبيد
نشر في 2022/12/30

نهاية العام تقترب من جديد، الكثير من العبارات التي تتناول تلك النهاية الوشيكة بين التفجع والحماسة، وأخرى تمد لحظتها إلى ما بعد النهاية للبداية الجديدة، وقوائم طويلة لما يمكن تحقيقه في العام 2023، لكنني في خضم كل ذلك لا أستطيع إلا أن أشعر بتلك الورطة، ورطة العالق في فخ زمني متكرر، حيث البدايات هي تكرار لبدايات عديدة والنهايات هي أخرى مستنسخة. 

أكتئب غالبًا مع كل مناسبة تذكرني بالأمر، ويتفاقم سؤال الجدوى، فما الجدوى من كل هذا الدوران؟ وهل هناك سبيل للخروج من تلك الدائرة؟ ولماذا نصر على منح معانٍ قسرية لهذا الزمن العابر، دون أي تدخل لإرادتنا؟ 

هلع اللايقين 

الصورة: needpix.com

أفكر في هلع جلجامش، كلما رأيت تلك القوائم التي يجمعها البشر للحديث عن حصاد نهاية العام في كل ما يتعلق بجوانب حياتهم، وما هم مستعدون لفعله في العام القادم، هذا غير الكثير من الشعارات المتداولة بتكرار يصل إلى حد الابتذال، بوعي أو بدونه، بذات الحيثية عند كل منعطف سنوي.

جلجامش في هلعه القديم كان خائفًا من عدم قدرته على السيطرة على مصيره، ذلك التفجع الذي انتهى به إلى أن الجدوى في الدائرة نفسها في نهاية الملحمة، ليكون ذلك هو تمامًا ما نُصِر على رفضه بالركون لفكرة الدائرة الأبدية، ونحن نتمرد على فكرة التكرار بتلك الأفكار التي تريد السيطرة على مصيرها بأن تدعي أن كل نهاية لم تحدث وكل بداية طازجة دومًا بما نصطنعه. 

نحن نرفض نهاية جلجامش ونعاود البحث من جديد، والخوف هو الدافع الأكبر لكل ما نفعل. 

في خضم دراسته للمجتمعات الحديثة، يذهب زيغمونت باومان في كتاب «الخوف السائل» إلى وصف الحداثة باعتبارها «تحديثًا وسواسيًا قهريًا متواصلًا، إنها اسم مختصر لبناء طرق جديدة وطويلة تفوق دومًا ما قبلها، وهي تتخفى في الغالب على أنها طرق مختصرة، إنها لا تمنح سوى قوة مؤقتة وعابرة في الواقع». 

تلك الحداثة التي يتحدث عنها باومان هي التي تمنح بدورها المكان بعدًا هلاميًا، تكاد كل تلك المدن التي نطالعها من نوافذنا الشبكية عبر الإنترنت تشبه بعضها البعض، وحتى الوقع النفسي لتلك الكوارث الكبرى في أبعد مكان في العالم، لا يمكن ألا يصل تأثيره إلينا. ومهما اعتقدنا أن بوسعنا السيطرة على ذلك، فإننا نفشل في ألا نجد أنفسنا نعيش في ذلك العالم الفوضوي زمكانيًا والمسمى القرن الحادي والعشرين. 

كل ذلك يفرض علينا خوفًا من مجهول نعيش فيه، وفي الوقت الذي ابتكر الإنسان القديم سيطرته على المجهول بالحكاية والميثولوجيا، نميل نحن إلى مقاومة مجهولنا بالقوائم ومذكرات المناسبات الرقمية، والانشغال بالاحتفاء المبالغ فيه بالبدايات والنهايات، والتشاغل اللاهث. ويربكني كثيرًا إصرار كثير مِن مَن أقابلهم على الحديث المفرط عن قائمة الالتزامات والمشاغل والاجتماعات والخطط والمشاريع وغيرها، ربكة تتحول في نهاية الأمر وأنا أستمع بابتسامة هادئة إلى إشفاق، فما هو إلا هلعنا القديم، المتوارث، ورغبتنا العبثية في السيطرة عليه لكسر رتابة الدائرة.. وهل سينجينا ذلك؟

الهروب من الدائرة

الصورة: needpix.com

هناك لحظة هائلة أتذكرها الآن جيدًا، لحظتي الصامتة خارج الزمن وأنا أدلف لعامي الثالث والثلاثين ناظرةً للبحر المتوسط. كنت في مالطا وقتها، وتحديدًا في مدينة «مدينة» المالطية باسمها العربي الواضح، تلك المدينة التي انتهى بي الأمر بالمبيت فيها ليلتها بتخطيط مسبق، كونها إحدى المدن القليلة اليوم حول العالم التي تحتفي بالبقاء خارج الزمن اللاهث. 

كنت قد قرأت عن نماذج شبيهة في كتاب «في مديح البطء» لكارل أونوريه، ليجذبني مفهوم المدن الصامتة التي تكاد تكون تخلت عن كل مظاهر عبادة السرعة التي يتبناها العالم الراكض اليوم. مدن مستكينة وهادئة، بلا كثافة مركبات ولا أصوات عالية، ولا ركض نحو مهام لا متناهية. 

مدينة واحدة من تلك المدن الصامتة حول العالم، صمت فرضه تاريخ المدينة، التي عُرفت بكونها مكانًا تاريخيًا يعود للقرون الوسطى ذات الفصل الطبقي للنبلاء والفرسان، وهو تقليد استمر بعدد محدود من العائلات التي تسكنها حتى بعد تبدد الطبقات وحلول الحداثة. وشيئًا فشيئًا تحولت تلك الخصوصية إلى رفض لغالب مظاهر العصر السريعة، فلا أعمال إلا أعمال محدودة وهادئة غير صاخبة، ولا مركبات حديثة تسير وسط الطرقات إلا مركبات مصرح بها لأهل المدينة نفسها ولا تظهر دائمًا للعيان. الناس يتحدثون بصوت خفيض، ويخطون بذات الهدوء، وكل شيء يمهد للاحتفاء بالصمت. 

في فجرية ذلك اليوم كتبت تدوينة خاصة طويلة بعد بكاء، عن إمكانية الهرب من الزمن فعلًا نحو الصمت، لقد نجوت من دائرتي القسرية ولو لحظيًا. 

أما هذه السنة وأنا أدلف لعامي الرابع والثلاثين، فقد كنت في بروج البلجيكية، المدينة التي يشعر الدالف إليها بأنه قد انتقل إلى أوروبا العصور الوسطى، كونها إحدى المدن الأوروبية القليلة التي لم تتعرض للقصف أو تمسها نيران الحربين العالميتين. 

فكرة الزمن في هذه المدينة تبدو متخيلة، ورغم ذلك كنت في يوم ميلادي داخل ورشة لصناعة الشوكولاتة البلجيكية مع مجموعة من مختلف الأفراد كلٌّ وحكايته. كان الزمن اللحظي في تلك الورشة مهمًا، فأي غلطة مهما كانت يسيرة لها أن تلغي الحصول على ذلك الطعم المميز للشوكولاتة. وتلك الرهافة المبالغ فيها بالتقاط اللحظات تجعلك قريبًا جدًا من فكرة الزمن، إلى الدرجة التي تصبح فيها داخله وخارجه في ذات الوقت، والأمر يتقاطع مع جزء يسير من نظرية آينشتاين النسبية. أذكر أنني تجاوزت اليوم بشيء من الخفة، لقد كنت في قلب الزمن إلى الدرجة التي أدركت فيها هشاشته، وأنه في وحدته وشيخوخته أضعف مما لنا أن نتخيل، أضعف بكثير من هلعنا. 

منذ عامي الخامس والعشرين وأنا أهرب من دائرة يوم ميلادي الذي يتكرر بثقل رتيب وقسري، أهرب من الاحتفالات المفاجأة أو المخططة لليوم نفسه بأن أكون خارج حيّزي الجغرافي والاجتماعي الذي سيعيدني لدائرتي القسرية. ولأن العالم لا يكترث بيوم ميلادي خارج حيزي المألوف، يكون الأمر أسهل مما هو عليه عندما ينحو للحديث عن العام الجديد. لكنني كثيرًا ما أنحو لفكرة الهرب من تلك الدائرة العامة وكآبتها للانزلاق إلى فكرة خاصة. تمترستُ العام الماضي في منزلي الخاص، كنت أتصرف كمن هو خارج الزمن الفعلي وداخل زمنه الخاص، قرأت كثيرًا في ذلك اليوم الأخير من العام الفائت، هذا ما أذكره، لكننا نبقى في الدائرة، ولا نملك سوى الهرب مما حولها من بهرجة. 

هل من مخرج حقيقي؟

الصورة: flickr.com

أرتب الأشياء المرتبطة بذاكرة 2022 بشكل متقطع في ذهني، لا على هيئة حكايات متصلة، ولا أصنفه كمحصلة على أنه عام كان سهل العبور.

أتذكرني في منتصفه أجلس بفورة من الغضب أمام معالجي النفسي لأقول له إنني أشعر بأني أعيش العالم بحمولة مضاعفة، وأني لا أستطيع وسط هذا الشعور الكثيف بالأشياء والأشخاص أن أبقى في وسطهم، بعد أن كنت في النصف الأول منه لا أشعر بشيء تقريبًا وهذه كانت أزمتي الأولى، لأجده يهز كتفيه ويخبرني بأن كل شيء يحدث في مساحة الذهن لا الشعور، قبل أن نبدأ جلسة الـEMDR.

هل أنا من أنصار العفوية خارج التخطيط والزمن بشكل دائم؟ سأكون كاذبة لو ادعيت ذلك، لكني بِتُّ ولو قليلًا لا أقسو على نفسي، ولا أضعني في رهان خسارته تعني نهاية العالم. أنا في مران حقيقي ويومي للتخلي عن فكرة القدرة الخارقة على السيطرة، التي تورثني الاكتئاب مع كل تكرار زمني لأي مناسبة. لكن الهلع يبقى دَمْغتنا البشرية، ومحاولاتنا للنجاة من المجهول والهلامية واللايقين تجعلنا نمسك بأنفسنا متلبسين كثيرًا بادعاء الإرادة المطلقة.

العالم الفعلي، يحدث في الذهن.

أكرر هذا وأحاول أن أقفز من الدائرة هناك. 

مواضيع مشابهة