لو كان للموضوع الحق في أن ينال نصيبه من الذاكرة، لقلت: للسطور التي ستلي امتداد للحلم والتجربة، تجربة فتى من شرق المغرب، وحلم دراسة الفلسفة. ولاسترسلت مزهوًّا ببكائية: لولا عبث الواقع لكانت لي رعشة الفكرة في امتزاجها مع النجاح الدراسي. لا شيء من ذلك تحقق، ببساطة لأسباب سأحاول الآن شرحها.
كان ذلك خلال المرحلة الثانوية، أتذكر حينها وقع السؤال، الخطير جدًّا، الذي رشقنا به الأستاذ، في محاولة بائسة لاستفزاز اهتمامنا، معلنًا: «ما هي الفلسفة؟». كان ينقصني وقتها كثير من المعرفة لاقتباس كلام «هايدغر»، والإجابة بذات التحذلق اللازم: «سؤال ماهية الفلسفة سؤال في ذات الفلسفة». وما كان ذلك ليهم، ببساطة، أكررها، لأسباب هي كنه ما سنكتب الآن.
كنت سأرى عدم دراستي للفلسفة في الجامعة حالة فردية، لولا أن لي صديقًا عرف نفس المصير، وكنت سأحمل ثقل المسؤولية وحدي لولا أن للجامعة الوحيدة في مدينتي عداء تاريخيًّا للفلسفة، وتفتقر شعبة لتدريسها، وليأتي صوت حسن الداودي، وزير التعليم العالي وقتها، موضحًا، في جواب تلقاه خلال افتتاح أشغال «المنتدى المغربي الأردني الأول»، سنة 2015، بما لا يشوبه شك، أن كليات الآداب، من منظوره، حاضنات لتفريخ المعطلين.
هذه صور من واقع معيش، يمكن لها أن تمنحنا، بشكل تجريبي، محض صورة عن مدى رهاب المغرب من الدرس الفلسفي. هذا الواقع يختلف كثيرًا عن تاريخ تعليم الفلسفة، لكن هذا الاختلاف نفسه له حكاية وتطور يمكن رصدها، وهو ما سنحاول أن نغطيه في هذا الموضوع، من الاحتفاء بالفلسفة حتى الضجر منها.
الفلسفة تنتج جامعة عاقة
«لكن شيئًا ما كان يتهيأ ويتحرك في السياق الجامعي»، يتحدث الناقد المغربي الكبير عبد الفتاح كليطو، في افتتاحية كتابه «الأدب والغرابة»، عن فترة ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، موضحا أن «الطلبة كانوا حينئذ في مستوى عال، يقرؤون كثيرًا، ويخوضون بحماس في مناقشات لانهائية»، هكذا يذكر أن أحدهم قال مرة لمحاضر فرنسي: «كيف تتحدث عن الأدب دون أن تذكر ألتوسير ودريدا؟»، وبينما المحاضر يلملم دهشته، انهال عليه الطالب مجددًا بحزمة أسئلة محرجة: «ما هي منطلقاتك الأيديولوجية والمنهجية؟ من أي موقع تتحدث؟». يحكي كليطيو كذلك قصة حضور الفيلسوف الفرنسي الكبير «رولان بارت»، حين أُحرِجَ كذلك بسؤال طالب عن فائدة البنيوية لبلد من العالم الثالث كالمغرب.
أحالت الحكومة المغربية صراع «أحداث الدار البيضاء» إلى الفلسفة، التي كانت كلياتها تنتج يساريين وتم اعتبارها نوع من الغزو الفكري.
كل هذه شواهد تحيلنا إلى الظروف الداخلية للجامعة المغربية، جامعة طبعت مرحلة انبلاجها بعد الحماية، سطوة تصور النُّخَب الوطنية على مشروع التعليم بالبلد، تصور قوامه مرتكزات ثلاث أساسية: مغربة التعليم وتعميمه ومجانيته. عرف الدرس الفلسفي، إبان هذه الفترة، انتقالًا مرتبكًا من صيغته الفرنسية إلى المغربية، بما يسمها من خصوصية دينية وثقافية وسياسية. هكذا قوبل هذا الوافد الجديد، أي دراسة الفلسفة، بنوع من الغرابة وعسر التقبل.
غير أن المثير في هذا السجال راجع إلى طابعه السياسي، الذي عرف في تلك الفترة انشطار النخبة السياسية وتباين مواقفها، وانبلاج شبح اليسار من بين أكناف الحركة الوطنية وحزبها الوحيد آنذاك: «حزب الاستقلال»، وميلاد حزب «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية». شبح بالضرورة كان له موطن داخل أروقة الجامعة، والذي انغمست فيه الحركة الطلابية في شخصها المعنوي، منظمة «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب». بذلك تمخض الصراع الأيديولوجي عن طلاق بين المنظمة الطلابية الوحيدة واليسارية من ناحية، والدولة من ناحية أخرى.
فقد عرفت تلك الحقبة صدامات عدة بين الطلبة والدولة، كان أبرزها «أحداث الدار البيضاء» 1965، والتي بعدها ستلصق الحكومة مسؤولية ذلك الصراع إلى الفلسفة، التي كانت كلياتها تنتج يساريين بشكل واضح، معتبرة إياها غزوًا فكريًّا لعقول الشباب، يحمل لهم النقد كأداة لاعتناق أيديولوجيا الشر، فعمدت إلى دحره بإصدار قرارات سيريالية، من قبيل: إجبارية إقامة الصلاة بالمدارس، وأسبقية طلبة الكتاتيب القرآنية للدخول إلى المدارس العصرية.
ويبقى السؤال قائمًا: ما علاقة تدريس الفلسفة بالصراع على السلطة؟
ظلت النظرة العامة للدرس الفلسفي بخاصة، والعلوم الإنسانية عمومًا، مشوبة بالتوجس، توجس تمتد علله عميقا في جذور تاريخ مغرب ما قبل الحماية، الذي كان نظامه التعليمي في شكله تقليديًّا، ومضمونه ينكب على تدريس العلوم الفقهية الأصيلة.
ولم تأته العلوم الإنسانية إلا في شكلها الاستعماري، ولم يعرف الدرس الفلسفي إلا داخل المدارس الفلسفة الفرنسية، أي التعليم الذي أنشأه المستعمر بالبلاد، ما جعله في عين المشايخة وقتها هرطقة نصرانية، وفي تصور شريحة من النخبة السياسية، المقاومة آنذاك، أداة تأبيد واقع هم كانوا على الطرف النقيض منه.
غير أن القلق الذي ولدته الفلسفة، بوصفها معرفة تقوم بالأساس على النقد كمحرك لسيرها الذي قطع أشواطًا في دحر المطلق، والمطلق الذي هو أداة الحكم التقليدية داخل الحيز الحضاري العربي الإسلامي، يأخذ طابعه الأيديولوجي المحض.
من جهة، كانت المعارضة تتمترس بأيديولجيتها الاشتراكية باعتبارها فلسفة، ومن جهة تتموقع الدولة باعتبارها أمرًا واقعًا تاريخيًّا يسعى لضمان بقائه، بالحفاظ على مقومات هذا الواقع الذي عليه تتأسس سلطته. من هنا، وبشكل خطير، سيُنظر إلى العلوم الإنسانية كحاضنات لتفريخ المعارضين (الأشرار)، مثل: عبد الكبير الخطيبي ومحمد جسوس ذا الصرخة الشهيرة: «إنهم يريدون خلق جيل من الضباع»، والتي حاكم بها سياسات التعليم من موقع عالم الاجتماع والمناضل. وسيُنظر إلى الدين، التقاليد والأعراف، كبدائل للفلسفة بهدف دفعها إلى هامش صراع يحتدم، لا على المستوى الفكري فقط، بل الاجتماعي والسياسي.
الحرب على الفلسفة
لولا نباهة الملك الحسن الثاني، في مجلس الوزراء، لاتُّخِذَ القرار النهائي والحاسم بإلغاء الفلسفة في التعليم الثانوي.
«عكس كل المواد الدراسية الأخرى، كانت الفلسفة في قلب الصراع بين الفرقاء السياسيين. ففي موسم 1976\1977 أصبحت الفلسفة قضية الدولة، وليست قضية وزارة التربية الوطنية فقط»، يصرح إدريس الصنهاجي، أستاذ الفلسفة بجامعة فاس، لـ«منشور»، واصفًا الهجوم الضاري الذي تلقَّاه الدرس الفلسفي خلال سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته.
يحيلنا المتحدث نفسه إلى رواية أستاذ بكلية علوم التربية، وهو يقدم إحدى دروسه للأساتذة المتدربين في سلك الفلسفة، قائلًا: «وصل إلى علم الملك (الحسن الثاني) خبر ملتمس ترجو فيه جماعة من علماء الدين، إعادة النظر في شرعية تدريس الفلسفة بليسيهات الآداب وكلياتها. فما كان من الملك إلا أن طرح الأمر في مجلس الوزراء، بهدف التصويت بديمقراطية، على ملتمس لإبقاء الفلسفة أو إعدامها في النظام التعليمي المغربي».
وختم الأستاذ بهذه الحكاية: «الملك، وهو يطرح الأمر على النحو المشار إليه، أضاف عبارة شديدة الدلالة والتأثير معًا، وذلك حين قال: أما جلالتنا، فتحب أن يدرس أبناؤها فلسفة هيغل وكانط وماركس وغيرهم. هذا خير للبلد من ألا يدرسوا هؤلاء المفكرين العالميين». في هذا الصدد يورد نفس المصدر شهادة للأستاذ محمد مصطفى القباج قال فيها: «وللتاريخ أقول، إنه لولا نباهة الملك الحسن الثاني، رحمه الله، في مجلس الوزراء، لاتُّخِذَ القرار النهائي والحاسم بإلغاء الفلسفة في التعليم الثانوي».
توضح لنا هذه الرواية بجلاء الخطاب الذي كان يخيم حينها على المشهد السياسي المغربي، بوصفه خطابًا معاديًا للفلسفة، ورغم أنها سنوات الإقبال الطلابي على شُعَبِهَا، فإن هذا الأمر لم يكن مقبولًا داخل أروقة المطابخ السياسية المغربية، ومنه ستبدأ حرب هدفها الأول إعاقة الدرس الفلسفي، وإلغاؤه نهائيًّا كمهمة ثانية.
هذه الحرب ستستنجد بسلاح الأيديولوجيا: مواجهة الإسلام بالفلسفة، وبتحريك أدواتها البيروقراطية سيُغلَق المعهد الوطني للسوسيولوجيا في الرباط، سنة 1979، وكذا إلغاء شُعَب تلك المادة من مجموعة من الكليات المغربية. وللمفارقة، ستُعوَّض بشُعَب الدراسات الإسلامية، موفرة بيئة مثالية لوجود التيارات الإسلامية داخل الجامعة.
هكذا تمثلت لدى السلطة المغربية، في تلك الحقبة، فكرة القضاء على الحرج الذي وضعها فيه الدرس الفلسفي، بالزج به عنوة في عداء للإسلام، هو، بشكل أو بآخر، باطل. إضافة إلى أنه ضربة قاصمة للجسد الاجتماعي المغربي، وذلك لما خلفه من تنامي الأيديولوجيا الإسلامية، وانتكاس مشروع الحداثة المغربي، المشروع الذي كان محمولًا بالضرورة على رؤوس الفلاسفة أمثال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري.
بيد أن عين الواقعية تقول إنه لم يكن لهذا التكتيك السياسي من نجاعة دون وجود حاضنة شعبية لها، وتتمثل في الطبيعة الثقافية المغربية التي لم يغير فيها الاستعمار الشيء الكبير، بل أصابها بنوع من التشكك الأيديولوجي ضد كل مستجَد ودخيل (الذي هو الفلسفة في هذه الحالة)، وبشكل عكسي دفعها أكثر للتشبث ببناها القيمية الأصيلة بشكل لاعقلاني ورجعي جدًّا. هكذا وجد خطاب التأسلم صدى في آذان العامة، ونُظِرَ من خلاله إلى الفلسفة بأنها الشر الإلحادي القادم من الشمال.
ولختام هذه النقطة، تحضرني قصة صديق لي يعمل أستاذًا للفلسفة، والذي أخفى عن أهله طيلة مساره الدراسي تخصصه، وتحضرني كذلك الصور الرهيبة التي نقلها إليَّ عن حدث اكتشافهم لهذا السر الخطير، مصادفة في غاية السخرية، عن طريق قراءتهم لمقدمة أحد كتب «روجيه غارودي» الذي كانت تضمه مكتبته الصغيرة، ويقول فيها: «إذا كان نيتشه أعلن موت الإله، فالبنيوية أعلنت موت الإنسان»، بهذا الشكل دمغ على جبين الشاب المسكين صفة ملحد، وهو منها براء، رغم أن غارودي ذات نفسه فيلسوف مسلم.
المصالحة الحثيثة
بعد السنوات التي قضاها الدرس الفلسفي، العلوم الإنسانية في عمومها، على هامش التعليم بالمغرب، وبشكله القزمي ذاك الذي تكالبت على تحقيقه القرارات الفوقية والنفور التحتي، وبعد إعدام المعهد الوطني للسوسيولوجيا. عادت الدولة مؤخرًا لتدارك الماضي.
في 18 مايو 2018، أطلق رئيس الحكومة برنامجًا قيمًا في هذا الصدد، برنامج جاء تعميده باسم «ابن خلدون»، يتهم فحواه بتمويل بحوث في العلوم الاجتماعية، بغلاف مالي يعادل 30 مليون درهم مغربي، يتكلف المركز الوطني للبحث العلمي والتقني بتوزيعها على مجموع طلبات البحوث المرشحة، والتي بلغت في الأيام الأولى لإطلاق البرنامج 500 ملف بحث.
تمثل هذه الخطوة مصالحة تنهجها الحكومة المغربية للقطيعة مع ماضي التهميش الذي طال العلوم الإنسانية والاجتماعية، واستدراك موقفها السابق والمهين الذي اعتبر مرتادي كلياتها مشروعات عاطلين في المستقبل. هذه القطيعة التي عبَّر عنها سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، خلال كلمته في أمسية إطلاق البرنامج، موضحًا أن هذه العلوم أداة تمكننا من معرفة أنفسنا وتجعلنا في مستوى الرهانات التي تواجهنا لتحقيق التنمية.
وصرح، في ذات السياق الزماني والمكاني، كاتب الدولة المكلف بالتعليم العالي، بأنه: «آن الأوان لإقامة التوازن بين هذه العلوم والعلوم الأخرى، وقد ارتأينا، بإطلاق برنامج ابن خلدون لدعم البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، أن نصحح توجُّه الجامعة، لتكون قاطرة للتنمية الشاملة، عوض أن تظل معهدًا كبيرًا للتكوين المهني».
تصريح كالذي نطق به كاتب الدولة المكلف بالتعليم العالي، مبادرة جيدة، وتصحيح للمسار، إلا أن البرنامج مشوب بعدة اختلالات، ويواجه تأخيرًا أرجعته الحكومة إلى منح اللجنة المكلفة بتوزيع المنح وقتًا أكبر للاختيار. «وخطوطه العريضة لم تظهر بعد» يوضح لـ«منشور»، مروان بن فارس، طالب باحث في السوسيولوجيا بجامعة ابن طفيل في القنيطرة، مضيفًا أنه: «حتى الآن لم نعرف الإجابة عن مجموعة من الأسئلة حول البرنامج، ولم تتضح معايير اختيار الموضوعات، وما إذا كان يهم موضوعات بحد ذاتها أم هو منفتح على البحث في شموليته»، خاتمًا حديثه لموقعنا بأن «الفكرة في شموليتها مبادرة حسنة كنا كباحثين في أمس الحاجة لها».
رغم حسن هذه المبادرات، ما زلت محرومًا من دراسة الفلسفة، بيد أن للأمل إغراءه، هكذا أتشبث بحلم أن تعود الفلسفة إلى جامعتي، وأن أخوض ساحة الدرس بذات الحماسة التي كتبت بها هذه السطور.