هل من الممكن أن يكون للفلسفة تأثير أعمق وأوسع دلالة من كليشيهات استخدامها؟
هذا ما يناقشه «كوستيكا براداتان»، أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة تكساس للتكنولوجيا، في مقاله المنشور على موقع «Aeon»، عن طريق واحد من أيقونات السينما اليابانية، فيلم خلّد اسم مخرجه في تاريخ السينما والفلسفة معًا، هو «Rashomon» للمخرج «أكيرا كوروساوا»، ليبحث في فكرة استخدام الأفلام وأحداثها كأدوات فلسفية.
لغز راشومون
تحت بوابة راشومون العظيمة يفتتح الفيلم، الذي يُعرِّض المشاهدين لتجربة فريدة من نوعها، هي التفكير في الفلسفة عبر قصة متقنة، وصور مقنِعة، وتصوير سينمائي مبتكر.
تحكي القصة باختصار عن جريمة قتل رجل شهدتها زوجته، وقاطع طريق، وحطاب. وحين تبدأ المحاكمة، يروي كل شاهد قصة مختلفة اختلافًا عظيمًا عن الآخرين.
اللغز الفلسفي الواضح في فيلم كوروساوا هو: ماذا لو كنا عاجزين عن معرفة ما يحدث، وعاجزين عن حكيه؟ ماذا لو كانت القصة التي ننسجها عن العالم حولنا عالمًا مستقلًّا بذاته، يختلف عن الوقائع التي حدثت بالفعل؟ ماذا لو كانت رواية كل شخص مختلفة اختلافًا جذريًّا عن الآخر، دون طريقة محددة نعرف بها القصة الحقيقية؟
هذه هي الأسئلة التي يحاول «كوستيكا براداتان»، كاتب المقال، الإجابة عنها.
روايات مختلفة لقصة واحدة
حين تُطلَب الزوجة لإدلاء الشهادة، تقول إن قاطع الطريق اغتصبها ورحل دون أن يقتل زوجها، بعدها فكت وثاق زوجها وغابت عن الوعي، وبعد الاستيقاظ أدركت أن الزوج قد قتل نفسه.
أما القصة التي يرويها الميت نفسه، حين تُستَحضَر روحه، فتختلف، إذ يقول إن قاطع الطريق بعد أن قيّده وأحكم وثاقه مارس الجنس مع زوجته، ثم توسل إليها أن تهرب معه، فقبلت بشرط أن يقتل الزوج، لكن قاطع الطريق، في نوبة استيقاظ ضمير مفاجئة، ينحاز للزوج ويحرره، وتستطيع الزوجة الفرار بشكل ما، وبعدها ينتحر الزوج.
أما ما نسمعه بعد ذلك فرواية الحطاب الذي شهد القصة كلها، لكنه لم يشهد بها في المحكمة، بل باح بها بعد انتهاء كل شيء تحت بوابة راشومون.
يقول الحطاب إن قاطع الطريق بعد أن مارس الجنس مع الزوجة توسّل إليها أن تتزوجه، لكنها فجأة حررت زوجها، وتحدت الرجلين أن يتقاتلا، والفائز منهما يحظى بها، وهو ما حدث ومات على إثره الزوج.
هذه هي الرواية الأخيرة في الفيلم، لكننا لا نستطيع الجزم بأنها القصة الحقيقية. كلما زاد عدد الأشخاص الموجودين في القصة، تعددت الروايات، واختلفت كل واحدة بشكل كبير عن الأخرى.
تنظر الشخصيات في الفيلم إلى العالم نفسه، لكن لأسباب أخلاقية أو إدراكية تصبح روايتهم لِما يرونه «عوالم» مستقلة بذاتها، مما يجعل إمكانية رؤية العالم الحقيقي صعبة للغاية.
رسالة الفيلم النهائية هي أننا عاجزون عن قول الحقيقة، مهما حاولنا.
ماذا يتعلم الفلاسفة من الأفلام؟
يمكن للسينما أن تخدم الفلسفة، ليس فقط في شكل مساعدة فرعية، بل بشكلها المستقل كسينما ووسائلها الخاصة.
فلسفيًّا، هذا هو المعتاد: فمنذ تفكيك «نيتشه» مفهوم الحقيقة على أساس «إرادة القوة»، التي جادل فيها بأنه لا توجد حقيقة في الأصل، بل مجرد علاقات قوة بين أطراف تتباين في قدرتها على فرض رؤاها، مرورًا بنظرية «ريتشارد رورتي» القائلة بأن الحقيقة «تُصنَع لا تُكتشَف»، وصولًا إلى «البناء الاجتماعي» لكل شيء.
حسبما يرى كاتب المقال، نحن نعيش في عالم استغنى عن محاولات معرفة الحقيقة، ولم يعد يوليها اهتمامًا كبيرًا.
أما فيلم كوروساوا المثير للتفكير فينضم إلى الجدال الذي يجري منذ مدة في الفلسفة الغربية، بدايةً من «جيل دولوز» و«ستانلي كافيل» و«ستيفين مولهال». جميعهم كانوا فلاسفة اهتموا بعالم السينما، وما إذا كان من الممكن للفيلم أن يكون فلسفيًّا، أو أن يقدم فلسفة للمُشاهِد عبر أحداثه.
الحقيقة، وفق المقال، أن السينما يمكن لها أن تخدم الفلسفة، ليس فقط في شكل مساعدة فرعية بتقديم الرسومات التوضيحية في الفصول، بل بشكلها المستقل كسينما، ووسائلها الخاصة، وبطرق لا يمكن استنباطها من الأساليب الفلسفية التقليدية.
ليست كل الأفلام فلسفية بالطبع، لكن بعضها كذلك، وهذا يكفي.
وضع مولهال أفكاره الأساسية بخصوص الأفلام والفلسفة في كتابه «On Film» الذي صدر عام 2005، ويشرح في إحدى فقراته أن «أفلامًا كهذه لا يمكن أن تكون مادة خادمة للفلسفة، ولا مصدرًا لزخرفتها، لكنها تمارين فلسفية. تحويل الفلسفة إلى أفعال دائمًا ما يكون أمرًا مثيرًا للتأمل».
بغض النظر عما إذا كانت الأفلام تفي التعريفات الفلسفية حقها، فإن الحقيقة الثابتة أن لها نفس تأثير الأعمال الفلسفية العظيمة، إذ تزلزلنا وتوقظنا، وتبعث في عقولنا حياة جديدة، وتفتح الطريق أمامنا لنرى أنفسنا والعالم حولنا بأشكال وطرق مختلفة. هناك أعمال فنية لمخرجين مثل «تاركوفسكي» و«بيرغمان» وكوروساوا، تتساوى مع ما يطرحه الفلاسفة من عمق في الرؤية والبصيرة.
اقرأ أيضًا: هلاوس المخرج الياباني «أكيرا كوروساوا»
الأهم من هذا كله أنه يمكن لصانعي الأفلام أن يقدموا بعض الدروس للفلاسفة المهووسين بالعقلانية، وأن يكشفوا لهم ما الذي يعنيه أن نكون بشرًا، يتصرفون في بعض الأحيان دون عقلانية، بل وبفوضوية، وكيف أن البشر في الحقيقة لا تحتكم تصرفاتهم إلى العقل وحده، بل إن هناك من التناقض في النفس البشرية ما يدفعنا إلى تصرفات غير مفهومة، ولا يمكن التنبؤ بها في كثير من الأحيان.
تقودنا مشاعرنا وشغفنا بقدر ما تقودنا الأسباب، نوظف خيالنا الأسطوري كما نوظف التفكير الجدلي. وربما يتوجب على الفلسفة، من أجل مصلحتها، أن تكون متواضعة في علاقتها بالمجالات الأخرى، فالأفلام على سبيل المثال يمكن أن تعلمنا كثيرًا من الأمور الجيدة التي لا يمكن أن تعبِّر عنها النصوص الفلسفية، كالدفء البشري، والطريقة التي نخاطب بها قلب الإنسان.
هذا بالضبط ما يفعله فيلم «Rashomon»، فهو لا يكتفي فقط بتجسيد الاعتقاد القديم القائل بأن الحقيقة مِن صُنع الإنسان، بل يكثفه بطريقة تعجز الفلسفة وحدها عن القيام بها، فيصل إلينا، عبر السرد وأسلوب التصوير والأداء، كيف يبدو شعور العجز عن إدراك الحقيقة. نتحول بسبب غزارة عملية التذكر والسرد في الفيلم، نحن، وواقعنا، وحقيقتنا، إلى طبيعة أخرى غير طبيعتنا، ما يسمح لنا بالتأمل والتفكير في ما نراه من أحداث أمامنا.